آراء ثقافية

مصر وكيميت.. إشكالية الهوية المترددة

ليس من المفاجئ أن تتأخر مصر في التحول إلى الإيمان بفكرة أمة عربية شاملة تكون مصر أحد أجزائها- جيتي

في السنين الأخيرة، وفي أعقاب الربيع العربي ظهرت النزعة الفرعونية "كيميت" من جديد لتداعب أذهان اليمين القومي المصري، الذي يتخيل أن لمصر هوية ضاربة في الجذور عائدة للفرعونية، وكأن آلاف السنين من الوجود الإغريقي والفارسي والروماني والعربي لم تغير في هوية ولغة الشعب المصري وتبدلها وتدخل عليها مدخلات ثقافية أخرى، ولكن النزعة الفرعونية لمصر ليست وليدة الأمس بالطبع، وإنما تضرب في الجذور للموروث الثقافي والأدبي في مصر. 


مثقفي الجيل الأول


في مطلع القرن العشرين وفي وجه المد العروبي الذي قادته الثورة العربية في الحجاز، واجهت مصر بأسلوب الدولة الوطنية اقتحام القومية العربية، ولم يكن من الصعب على المصريين أن يدافعوا فكرياً عن هذا التوجه الانفصالي، فلأغلب المصريين وجدت مصر على الدوام قديمة قدم النيل تمتد جذورها الاجتماعية والسياسية إلى عصر الفرعون، وقد اكتسبت تلك النزعة زخماً ودعماً بفعل عمليات التنقيب الأثرية الواسعة التي جرت بعد حملة نابوليون على مصر، وقد كانت مصر قد سارت في القرن التاسع عشر في نهضة محمد علي على طريق تاريخي يختلف عن بقية العالم العربي، وقد حصلت على حكم ذاتي، أعقبها احتلال بريطاني واجهه المصريين بطاقة وطنية منفصلة عن الطاقة العربية التي كانت جزءا من السلطنة العثمانية. 


إذن فليس من المفاجئ أن تتأخر مصر في التحول إلى الإيمان بفكرة أمة عربية شاملة تكون مصر أحد أجزائها، ويشهد ساطع الحصري على ضعف المشاعر القومية العربية بين المصريين في هذه الفترة، فبعد انهيار الحكم الوطني في سورية عام 1920 ذهب الحصري وغيره من أعضاء الحكومة التي لم تعمر طويلاً إلى مصر متوقعين الحصول على دعم واسع النطاق، لكنهم أصيبوا بخيبة أمل مريرة، حين وجد أن أغلب المصريين لم يكونوا مهتمين بالأحداث في سورية، وانهيار الدولة العربية في سورية لم يولد لديهم أي قدر من الأسف يستحق الذكر، ويذكر الحصري في مذكراته أن جماعة من الطلبة المصريين وأساتذتهم دهشوا عندما عرض ضيوفهم العراقيين موضوع القومية العربية، والحق أن غالبية المصريين الذين ظلوا لقرون عديدة مزارعين مستقرين، استحضرت كلمة عربي صورة البدوي المترحل الكسول والمحتقر، لذلك شدد المؤرخ نقولا زيادة على أن القومية كانت تعني للمصريين منذ نهاية القرن التاسع عشر وحتى الحرب العالمية الثانية، قومية مصرية أساساً، واعتبر النضال القومي نضال مصري حصري ضد السيطرة الأجنبية.


وقد وجدت تلك النزعة صداها في الصراع الأدبي، فقد هاجمت أبرز شخصيات مصر الأدبية العرب وثقافتهم الدونية وعاداتهم وتقاليدهم العتيقة، فعباس العقاد ميز بين الأمة المصرية المثقفة وبين الأمم البدوية، واعتبر الفن المصري متفوقاً على الفن العربي، وكتب عن وجود هوة شاسعة بين عقلية العرب المتخلفة وبين النظرة التقدمية لدى المصريين في القرن العشرين، وبناء على ذلك نصح المصريين بمحو ذكرى القرون العربية الماضية كيلا يختنقوا بغبارها.

 

اقرأ أيضا: موقع الثقافة في حياة جمال عبد الناصر.. قراءة في كتاب


ووافقه الرأي المفكر سلامة موسى الذي قال أن المصريين لا يدينون بأي ولاء للعرب، وعلى شباب مصر ألا يهدروا وقتاً طويلاً على الثقافة العربية، لقد ساد اعتقاد أن ثقافة مصر تنتمي إلى أوروبا وحضارتها المعاصرة، وليس إلى العرب، وهذا ما أكد عليه طه حسين في كتابه مستقبل الثقافة في مصر، مؤكداً أن الحضارة المصرية أقدم من أي حضارة أخرى، وقد حافظت على هوية متمايزة من خلال ماضيها الفرعوني، وفي مجال الثقافة وطرق التفكير يؤكد طه أن مصر تنتمي وكانت جزءًا على الدوام من أوروبا، وقلل من أهمية العربية باعتبارها لغة قومية في مصر، ومن الإسلام ديناً لها، فلا الإسلام ولا اللغة يشكلان عنصراً رئيساً في بناء الأمة، ويأتي في هذا الطابور عدداً آخر من المثقفين أبرزهم توفيق الحكيم.


السلطة والكيميتية


لم يطل الوقت حتى ارتدت السلطة المصرية رداءًا فرعونياً رسمياً، فبعد سنين من المد القومي العروبي بقيادة جمال عبد الناصر الذي أعاد مصر إلى موقعها من التاريخ والجغرافيا العربية، جاء خلفه أنور السادات ليخرج بمصر من ساحة الصراعات العربية الشاملة، وفي إطار السعي إلى تسوية جزئية مع الكيان الصهيوني، ظهر السادات بحلة فرعونية تؤكد تفرد مصر في الوطن العربي، واستقلالها وتمايزها بهوية تعلو بها عن أشقائها من العرب، وتبدو أجلى تمظهرات الفرعنة الساداتية تلك في النصب التذكاري الأهم الذي يخلد الجندي المجهول، ويحتفي بالنصر المصري في حرب أكتوبر، فقد جاء النصب التذكاري على شكل هرمي، كأهرام الفراعنة المصريين. 


وهناك العديد من المواقف الرمزية في حقبة السادات أكدت على التوجه الجديد الذي يعزل مصر عن سياقها العروبي، ولعل أبرزها كلمة السادات للرئيس الأمريكي كارتر حينما أخبره أنه "فرعون مصر الجديد والأخير"، وقد كانت هدايا السادات المفضلة لضيوفه الأجانب كلها تخرج من الآثار الفرعونية، كم أن السادات منح مومياء الفرعون رمسيس الثاني جوازاً رمزياً للسفر، وقد كانت سياسات الإحياء الفرعوني الذي يخرج مصر من سياقها العروبي تسير بالتوازي مع سياسات تمكين الإسلاميين في الساحة السياسية، ليعطي السادات صورة مبسطة للدولة المصرية التي تتمايز عن العرب بحضارة مختلفة، ولا تنسى أنها جزءًا أساسياً وحامياً للإسلام، لقد كان السادات في هذا الصدد يسير متأثراً بسياسات صديقه محمد رضا بهلوي شاه إيران، الذي أحيى الشاهنشاهية في إيران وظل حضر على الدوام كجزء من المجتمع الإسلامي.


كيميت مترددة


عادت مصر مرة أخرى في عهد الرئيس حسني مبارك إلى الجامعة العربية سنة 1989 بعدما ظلت محاصرة عربياً في عهد الرئيس السادات، ربما كانت عودة مبارك واتخاذه صورة المخلص والزعيم للعديد من القضايا العربية على مستوى القضية الفلسطينية وحرب الخليج، وعودة الجامعة العربية إلى مقرها بالقاهرة، أعاد إلى المصريين شعوراً بالقومية العروبية مرة أخرى، بالإضافة إلى الإفراج عن الفكر الناصري ومنظريه الذين ظلوا محاصرين بالتشويه والسجن في عهد السادات. 


لقد كانت الهوية المصرية في عهد مبارك هوية سائلة كما لم تكن في أي عصر من قبل، وربما كادت أن تتعرض للمحو، ففي عهد مبارك كانت قد نضجت سياسات الانفتاح الساداتية وأصبح المجتمع جاهزاً كما لم يكن من قبل للدخول في شكل المجتمع المفتوح الذي ينبذ الأيدلوجية، ولكن على هامش تلك الهوية السائلة كانت تنمو هوية إسلامية كوكبية قد نضجت في الجهاد في أفغانستان والشيشان والبوسنة وتلك الحروب التي كانت ترعاها الدولة بموافقة أمريكية. 


برزت النزعة الفرعونية كجزء من هوية ثنائية متناقضة عربية\فرعونية من جديد برعاية النظام المصري العسكري ليصنع هوية متمايزة من جديد، ويرعى في كنفه تيار يميني قومي متشدد يتمكن من محاربة الفكر الإسلامي الذي تعرض إلى شيطنة كبرى في أعقاب 30 يونيو، بالإضافة إلى احتكار شكل معين من الإسلام المدعو بالوسطية وتعميمه كأيدلوجية على الجميع من يخالفها يكون بلا شك في مصاف الإرهابيين. 


إن محاربة الفكر الإسلامي السياسي هي ما تشغل النظام المصري حالياً، ولمواجهة ذلك الفكر يتردد النظام المصري بين اعتناق فكر قومي فرعوني، وفكر قومي عروبي إسلامي، وهذا المناخ هو ما جعل النزعة الفرعونية تعود مجدداً إلى الساحة السياسية المصرية، ولكنها ليست نزعة فرعونية محضة، ولكنها مهجنة ومطعمة بالعديد من الرموز الإسلامية والعربية لتؤكد أن النظام يحتكر الإسلام الحقيقي، أما بقية الجماعات السياسية تحتكر نوعاً متطرفاً من الإسلام، لذلك لا نعجب على الإطلاق حين نرى النظام يصنع محفلاً كبيراً لاثنتي وعشرين مومياء فرعونية، ويسمي فرقاطاته البحرية الجديدة على أسماء الفاتحين العرب الإسلاميين الأوائل.