كتاب عربي 21

تحقيق المساواة بين الرغيف والسيجارة

1300x600
لم يغضب ماكرون عند سماع السيسي عندما قال له في استقباله زائراً مصر؛ تلك المقولة التي لا بد أن المترجم اجتهد كثيراً وهو يترجمها للرئيس الفرنسي بتصرف مثل ترجمات المنفلوطي عن "عيوننا وعيونكم"، وأنَّ حقوق الإنسان في مصر غير حقوق الإنسان في فرنسا، و"لا يجب أن نقصر حقوق الإنسان في الأمور السياسية فقط، يجب الحديث عن حقوق الإنسان المصري في مجالات التعليم والصحة والإسكان أيضاً". وهذه تراكيب لاتينية ملفوظة بالعربية، وقد سعد بها ماكرون سليل الثورة الفرنسية بشعاراتها "حرية، مساواة، أخوة"، وابتسم وحبس ضحكته.

الشرق والغرب لن يلتقيا، هذا قول شهير لكبلينغ، والغرب شديد الأنانية، وهو يبشّر بالديمقراطية، لكنه يحارب كل من يأخذ بها.. لم يسمح حتى الآن بنتائج الصناديق في أي دولة عربية، أما المسلمون فيريدون لكل أحد في الأرض أن يتمتع بالإسلام.

وشهير قول مخترع المسدس صمويل كولت، وهو قول عن المساواة والإخاء والحرية أيضاً: اليوم تساوى الشجاع مع الجبان. والحق أنَّ الجبان هزم الشجاع، فما تنفع شجاعة الشجاع الذي يحمل سيفاً إذا كان الجبان يرفع مسدساً؟ وهذه هي أسباب نكبة الثورة السورية، فشجاعها أعزل، وجبانها مسلّح. وهناك مثل عن سوء المآل والسلاح بيد الجاهل، وقد قدم مخترع وسائل التواصل الاجتماعي الحرية لمن لا يستحقها، وساوى بين الكبير والصغير.

كما شاع قول القائل عند اختراع وسائل التواصل الاجتماعي: اليوم تساوى العالم والجاهل، وفيه ظلم بيّن لأنَّ الجاهل سبق العالم في عصر التواصل الاجتماعي. وأكثر مشاهير العصر من الجهلة، فما هي علوم إلهام شاهين، أو رانيا صاحبة الفستان، أو الروائية الجزائرية الشهيرة؟ وأحاول تفسير شهرة مشاهير فأعجز، وأكثرهم مدعوم من شياطين الإنس، أمّا تفسير شهرة بعض النساء فهو يسير، يفسرها غالباً قول الفرزدق:

ليس الشفيعُ الذي يأتِيكَ متزراً   مثلَ الشفيعِ الذي يأتيك عُرْيَانَا

وطار ذكر أقوال الرئيس المصري الشجاع، بسبب حكمه وأقواله، ووراءه جيش من الإعلاميين والشيوخ والكهنة يحمدونه ويفخرون بأقواله ويثنون عليها حتى لو كفرا، حتى إن شيخاً في الأزهر اسمه أحمد كريمة، أثنى على رفع سعر الخبز حتى لا يصنع منه الخمر. أما بابا الأقباط فخيّر الشعب بين الخبز والوطن، وهما قولان فاسدان ومضحكان. تستطيع إثيوبيا أن تقول إنها تحبس الماء حتى لا يتحول إلى خمر!

لقد قال السيسي لوزرائه إنه سيحمل وزر رفع سعر الرغيف المظلوم، لأن سعر السيجارة يشتري عشرين رغيفاً. ولو حسنت نيته لخفض سعر السيجارة، وهو يريد تحقيق أهم أهداف ثورة الثلاثين من حزيران/ يونيو على ما يظهر، وهي المساواة بين سعر السيجارة وبين سعر الرغيف، وهذا ظلم لا يجوز في شريعة الرئيس المصري الذي يحب إحقاق العدل بينهما. ولعلم القارئ السيجارة هي عملة السجون، فكأنّ هذا الرئيس سجان والشعب مسجون.

كما أن الرغيف من الرحمن، والسيجارة من الشيطان، فالرغيف حياة والسيجارة موت، وأصل الرغيف من الطين، أما أصل السيجارة فمن النار. وزعم السيسي أنه يريد إنصاف الرغيف الذي لا يزال يباع في طوابير، والطوابير سرقة لوقت المصري وعمره، وهو أثمن ما لدى الإنسان.

أما أشهر مساواة في العصر الحديث، فهي المساواة بين الثورة والانقلاب، والانقلاب ثورة على الشعب.

وقد انكشف داعمو الانقلاب التونسي، فماكرون سليل الثورة الفرنسية يتصل بقيس سعيد ويحضّه على فعل الخيرات، ورسم خارطة طريق، وكذلك فعل وزير خارجية الإمارات العربية، فزاره.

المتفائلون يزعمون أن ثورة قيس سعيد على الشعب والدستور سوف تفشل، ويعدون مصاعب الطريق التي نظن أن فرنسا والإمارات ستهوّانها سنة أو سنتين بالديون ثم ستغرق تونس فيها، وقد نجد مسيرة مومياوات في تونس لمومياء واحدة هي الحبيب بورقيبة، وعاصمة إدارية تهدر فيها الأموال، فالدكتاتور لا بد له من إنجاز ما يفخر به.

وسمعت مرة صديقاً يسارياً صار ليبرالياً يستشهد بقول الشافعي عندما سُئل: كيف نعرف أهل الحق في زمن الفتن؟ فقال: "اتبع سهام العدو فهي ترشدك إليهم". ويظهر إعجابه به، ومن النادر أن يستشهد يساري عربي بقول لعلم من أعلام المسلمين. فسررت به وسألته: وهل عرفت أهل الباطل يا رفيق؟ قال نعم: هم الإسلاميون! لولا الإسلام لكنا دولة متحضرة مثل فرنسا، فتذكرت إقبال الروائيين والمخرجين على مغازلة محتلي فلسطين بشخصيات أم هارون وراحيل وسواهما في الروايات والأفلام.

وكان شائعاً قول كاتب سعودي صار بطلاً عند الليبراليين، انتهى به الأمر إلى الجنون، أنّ العرب ظاهرة صوتية. وفي القول عطب، فالعرب يصوتون للإسلاميين، لكن الحكومات تستخدم السلاح ضدهم. والصواب أنّ العربي خصوصا والإنسان عموما ظاهرة دموية، بدليل قول الملائكة: "وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً * قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ * قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ".

وبينما كانت إثيوبيا تسوي الفرق بين الماء وبين السدّ بالملء الثاني، كان السيسي يسوي بين سعر رغيف الخبز والسيجارة. واشتقت اللغة العربية السعر من السعير وهو النار، هو يعد الشعب بتحلية مياه البحر، فمن أين له كل هذا السكر حتى يحلي مياه البحر، كما يعد بتكرير مياه المجاري، وهو مكلف جداً سوى أن ماء السماء أطهر وأزكى؟

وكان رئيس تونس أثناء الملء الثاني لسد النهضة يملأ الفراغ الدستوري وحده بعد تعطيل البرلمان ورفع الحصانة عن نواب البرلمان، والحصانة حق لكل مواطن، وتوعّد الفاسدين المنتخبين، أما الفاسدون أصحاب المليارات فوعدهم بمصالحة.

وقد اعتقل أشجع أعضاء البرلمان، والغنوشي متفائل، وأنا أيضاً متفائل بتعثر الانقلاب، لكن تونس لن تنجح وسط هذه الغابة من الذئاب التي تحيط بها، فالدول العربية تعيش يوماً بيوم من غير مستقبل.

وزعم قيس أنه سيولي الصادقين، ولا أعرف كيف سيعرف الصادقين من الكاذبين، وقد حنث بعهده، وهذا يعني أنه سيعيّن الموالين له.

شاع كثيراً تحليل لرئيس حزب النهضة التونسي يشرح فيه سبب خسارة الإسلاميين الحكم، وهو أن النخبة علمانية، وأن الدولة العميقة ضد الديمقراطية، وأن الديمقراطية ليست أصواتاً، وأن العسكر يضعون العصي في العجلات، فيعطلون الثورات وينقلبون على الصناديق واختياراتها. وعندما يتولى العلمانيون الدولة، في انقلاب طبعاً، تتدفق السلع في الأسواق.

ومنشور الغنوشي فيه تبصّر، وقد تنازل الإسلاميون كثيراً ولم يرض بهم العلمانيون، فما زالوا يذكرون اسم الله، ويقفون مع القدس وبناتهم محجبات، وهذا يغضب العلمانيين المدعومين من الغرب.

يتعجب كثيرون من انقلاب تونس، فقد وقع من غير بطاقات تمرد، ومن غير باسم يوسف. والصواب أن فضائيات كثيرة موّلتها الإمارات والسعودية في تونس لعبت دور باسم يوسف، فضاعت الحقيقة على الناس.

وسنسمع قريبا أن قيس سعيّد أمة وحده لأنه يعمل عمل برلمان كامل، وحكومة بمفرده. وهو حاليا يرسم خريطة الكنز، ويجلس على كرسي حمورابي.

الإسلاميون لا يموتون، قد يغيبون عن الأنظار شهداء أو معتقلين لكنهم يعودون، فكما أنَّ مصطلح الدولة العميقة صحيح، فإن مصطلح الشعب العميق صحيح أيضاً.

twitter.com/OmarImaromar