كتب

حركة 20 فبراير المغربية.. قراءة سياسية واجتماعية هادئة

قراءة في أسباب وتداعيات احتجاجات حركة 20 فبراير في المغرب- (عربي21)

الكتاب: شوقي لطفي: "مسارات مفكر ثوري مجهول، الجزء الأول، مسار الحركات الاجتماعية الشعبية"
المؤلف: عزيز محب
الناشر: منشورات التحرر الديمقراطي، الرباط، شباط (فبراير) 2021


هذا كتاب لعزيز محب "الذي شكل مع الفقيد شوقي لطفي وجهين لنفس المسار الفكري، والسياسي". وقد صدر "تخليدًا للذكرى الأربعينية لوفاته... التي حالت ظروف الحجر الصحي، والسياسي دون تنظيمها".

وُلد لطفي بالمغرب، سنة 1967، لكن ولادته، كمفكر كانت سنة 2011، في سياق ما سُمي "الربيع العربي". وفي مواجهة دعاة أطروحة "الاستثناء المغربي"، بلور لطفي أطروحته البديلة: "المغرب يبحث عن ثورة"، لكنه توفي يوم 20 تشرين الثاني/ نوفمبر 2020، مع صدور كتابه الأخير "تحديات مغربية وحركات اجتماعية في مواجهة الرأسمالية المفترسة".

سلَّط الفصل الأول الضوء على أحد مسارات الحركات الاجتماعية الشعبية، حيث رأى المؤلف أن الحركات التي بدأت مع "الربيع العربي" هي "بداية الخروج من حالة (التفكك) و(الانهيار)". وإن لاحظ لطفي بأن "مشروع البديل الاجتماعي غير واضح، بعد".

أكد محب أن الفقيد لم يكن قائدًا، أو زعيمًا، لأن "القيادة انتداب"، و"الزعامة" تفويض" (ص8) وُلد لطفي، كناشط سياسي، ومثقف ثوري، خلال مرحلة "الانهيارات الكبرى"، من سقوط جدار برلين، إلى انهيار "المعسكر الاشتراكي"، وتفكك الاتحاد السوفييتي، وعودة الرأسمالية إلى الصين، واستسلام قيادة منظمة التحرير الفلسطينية، وحرب الخليج الأولى. وعلى المستوى الوطني، كان اكتمال سيرورة اندماج المعارضة البرلمانية في نظام الحكم، بعد (حكومة التناوب)، واندماج المنظمات النقابية في سياسة السلم الاجتماعي، بينما رأى لطفي أن "الانهيارات" ليست "نهاية التاريخ"، وإن مثلت نهاية "مرحلة تاريخية"، وبداية أخرى. 

تحت عنوان "نظرية التحركات السياسية الشعبية"، رأى المؤلف أن "حركة 20 فبراير"، وما تلاها من حركات ثورية، كانت الحدث الضروري لامتحان أفكار لطفي، وتصوراته، خاصة ما كان منها حول مسألة الحركات الاجتماعية الشعبية، وموقعها في مسلسل الصراع الطبقي، ودورها السياسي.

عن "تجربة حركة 20 فبراير" جاء الفصل الثاني، باعتبار تلك الحركة أكبر حركة سياسية شعبية، عرفها المغرب، بعد الاستقلال. وهنا شكَّل لطفي العقل الباطني، والمفكر المجهول لتلك الحركة؛ حتى إنه اعتبر موقفها دليلًا على نجاحها! كما رأى لطفي في "حركة 20 فبرير" مساحة لتسييس جيل جديد. لكنه سرعان ما استبعد إمكانية تحوُّل هذه الحركة إلى حركة سياسية شعبية.

في تقييمه النقدي لهذه التجربة، هادفًا الوقوف على نقاط قوتها، وضعفها، تحضيرًا للموجة القادمة، التي ستنبثق من المعارك الاجتماعية، والكفاحات الشعبية؛ بما يجعل الحركة الجديدة أكثر جذرية، وشعبية، الأمر الذي ضمَّنه لطفي في كتابه الأخير: "تحديات مغربية: حركات اجتماعية ضد الرأسمالية المفترسة"،(ص13) الذي شكل قطيعة نقدية مع تصوراته الماضية؛ ولن يتوقف عند "إسقاط السلطة"، بل تعداها إلى بناء "سلطة سياسية بديلة".

أغلب ظني أن إخفاق "حركة 20 فبراير" إنما يعود إلى التمسك بمقولة الصراع الطبقي في علاقات الاستغلال، وكأننا مجتمع رأسمالي متكامل. والمؤلف نفسه يرى بأن تيارات اليسار المغربي لم تزل مشدودة إلى تجارب تاريخية، وأيديولوجية، لم تعد كافية لفهم هذه التحديات المعقدة. 

في"تحدي الأفق السياسي"، يرى المؤلف ضرورة وضع "المطالب الإجتماعية، والديمقراطية، الاستعجالية، والملموسة، في قلب الحركات الاحتجاجية، مع الأخذ بعين الاعتبار مختلف أشكال الفوارق الاجتماعية، والجغرافية، والثقافية... فبدون تعدد هذه المنطلقات (التحتية) لا يمكن الوصول إلى (سقف) وطني".

سرعان ما وضع المؤلف يده على المشكل، الذي "يكمن في محدودية التنسيق الوطني، وضعف، أو غياب التعبير عن هذه المنطلقات المتعددة".

 

أغلب ظني أن إخفاق "حركة 20 فبراير" إنما يعود إلى التمسك بمقولة الصراع الطبقي في علاقات الاستغلال، وكأننا مجتمع رأسمالي متكامل. والمؤلف نفسه يرى بأن تيارات اليسار المغربي لم تزل مشدودة إلى تجارب تاريخية، وأيديولوجية، لم تعد كافية لفهم هذه التحديات المعقدة.

 



اعترض لطفي على رفع "الشعارات، والمطالب، التي من شأنها احتواء النضالات الشعبية، وتوجيهها نحو أهداف سياسية، دستورية"؛ لأنها لا تعكس حاجة الجماهير الشعبية إلى تلبية مطالبها الاجتماعية الحيوية ، وحذَّر لطفي من تقديم الحركات الاحتجاجية في "بعد اقتصادي" أضيق. 

لم يعتبر لطفي النضالات الاجتماعية، والمبادرات الشعبية إنجازات"عابرة"، أو مجرد "حركات فئوية، وقطاعية"، بل مؤشرًا على انطلاق" طوْر جديد في مسلسل الصراع الطبقي".

عن "أزمة الحركة العمالية التاريخية"، وقف لطفي على ظاهرة الحركات الاجتماعية، التي تشكلت باستقلال عن الحركات النقابية، والسياسية التقليدية. ورأى في هذه الحركات طورًا جديدًا في مسلسل الصراع الطبقي، وبداية تشكُّل جديد للقوى الاجتماعية الشعبية، وليست بديلًا عن الحركة العمالية التاريخية، أو على هامشها.

قبيل وفاته، شرع لطفي في تناول مسألة المهام، والبرنامج؛ لإعادة البناء. وقد شكّل مفهوم "الحركات السياسية الشعبية" حلقة مركزية في تصوُّر لطفي، لتجاوز أزمة الحركة العمالية التاريخية، وفتح آفاق لإعادة بناء حركة اجتماعية شعبية؛ فأعاد التفكير في مضمون "الثورة الديمقراطية"، ورهاناتها، وقواها المحرِّكة.

أما"حركة 20 فبراير" فكانت عند لطفي بمثابة "مختبر تجريبي"، و"لحظة تأسيسية" لمسلسل نضالي جديد. وقد خلقت الحركة مساحة لتسييس جيل جديد، كما برهنت على إمكانية تطوُّر حركات سياسية  جماهيرية.

لاحظ لطفي مدى ضعف تقاليد النضالات الجماهيرية المستقلة، بينما التجربة الملموسة هي التي تسمح بالانخراط المباشر للجماهير، وامتلاكها لتنظيماتها الذاتية، وإدراكها لضرورة بناء تضامن شعبي حي، ونشط.

من هنا، دعا الفقيد إلى مرونة التنظيم في الجبهة الشعبية، وبأن ينغرس فعلها في النضالات الفعلية.

تحت باب "دروس وتحديات"، وقف لطفي على المشاكل التي اعترضت تطوُّر "حركة 20 فبراير" إلى حركة سياسية ثورية، فضلًا عن المشاكل التي ستعترض حركة سياسية شعبية، في المستقبل. 

التقط لطفي دروسًا أساسية، حول محدودية "حركة 20 فبراير"، لعل أهمها:

الخلاف حول الاستراتيجية الأفضل؛ ـ غياب العلاقة مع النضالات العفوية، وشبه العفوية، الموازية للحركة.

لعل الأهم عدم اعتراف الحركة بالتاريخ السياسي، كمعيار، لفرز قيادتها. وقد كمن الخطأ في تصوُّر تحوُّل الحركة من الاحتجاج إلى حركة سياسية شعبية، بقدرتها على تجاوز التنظيمات التقليدية، ونجاحها في فرز "قيادة ذاتية" من صُلب الحركة.

تساءل لطفي عن طبيعة العضوية في الحركة، وعما إذا كانت فردية، أم جماعية، والبنية التنظيمية، هل هي لجان تنظيم الحركة ، أم مجالس الهيئات الداعمة للحركة؟!

أما الاستراتيجية النضالية، فهل ستكتفي الحركة بالمسيرات، والوقفات الاحتجاجية، أم بدمج شتى أشكال الكفاح الجماهيري؟

هل كان يمكن الاكتفاء بـ "الشعب يريد إسقاط الفساد والاستبداد"شعارًا مركزيًا؟! وما العلاقة مع النضالات الاجتماعية، والشعبية الأخرى؟! وماذا عن العلاقة مع التيارات اليمينية، والليبرالية؟

لقد أفضى الاحتكار الإقتصادي إلى سيطرة القمع، باعتباره "عنفًا طبقيًا". وفي هذا المجال، توسَّع لطفي في استعراض تجليات هذا العنف، محليًا، وعالميًا، قبل أن ينتقل إلى  عجز النظام عن تلبية المطالب الشعبية، ويكشف حقيقة "الواجهة الديمقراطية" للنظام الحاكم.

عن "عجز النظام عن تلبية المطالب الشعبية"، حدِّث ولا حرج. أما "أزمة الواجهة الديمقراطية" فقد استفحلت، ولم تعد تخيل على أحد.

في صدد "دروس الثورة"، أعاد لطفي إسقاط الدكتاتور إلى "الإضراب الجماهيري"، المعزَّز بالاعتصامات؛ ما أعطي صدقية لمقولة "النضال الجماهيري هو الطريق الوحيد للتغيير"، على أن ليس كل نضال جماهيري يفضي إلى التغيير الفعلي في موازين القوى.

عن "مسألة الثورة في (المنطقة العربية)" لا أدري كيف أن لطفي رأى "تشكُّل جبهة طبقية واسعة تضم قوى وطنية متنوِّعة... لكن قلب الحركة شكلته شرائح البروليتاريا، الأكثر اضطهادًا" في مصر، وتونس الأمر الذي لم يحدث!

أما شعار "الشعب يريد إسقاط النظام"، فقد تضافر عاملان وراء صعوده، أولهما التحوُّل السريع في شعبية الانتفاضة، أما العامل الثاني، فلعله كمن في لجوء الأنظمة إلى القمع الدموي للجماهير المنتفضة. 
رأى لطفي أن "سلمية" الانتفاضة لم تكن سوى التعبير عن الرغبة في تجنّب العسكرة؛ لتفادي مواجهة غير متكافئة مع النظام.

في مصر، وتونس، أخذت المؤسسة العسكرية مسافة من الدكتاتور. أما حيث ارتبطت المؤسسة العسكرية بالنواة الصلبة للسلطة، فقد اصطف الجيش إلى جانب النظام.

ثمة عاملان مترابطان، مكَّن من بناء ميزان قوى جديد، خلال المسلسل الثوري؛ تمثل أولهما في تطوير، وتعميم عمليات احتلال "الميادين". أما العامل الثاني، فتمثَّل في توسيع حركة الإضرابات العمالية، بمطالب اجتماعية، وديمقراطية. وإن لم تعكس الانتخابات، التي أعقبت سقوط الدكتاتور، الدينامية الاجتماعية الناشئة. فقد بقيت أدوات التنظيم الذاتي جنينية ، ومحدودة الوظائف. كما لم تكن حكومات ما بعد سقوط الدكتاتور تتمتع بشرعية فعلية.

لقد غابت تعبيرات سياسية مستقلة، ومعها تجارب بناء منظمات ذاتية، وبنى للرقابة الشعبية، ما خلق صعوبات جمة، أمام ظهور تمثيلية سياسية شعبية "من تحت"، وبناء آليات التمفصُل بين الحركتين، النقابية العمالية، والسياسية؛ ما أعاق الانتقال إلى مهام ما بعد إسقاط الدكتاتور، حسب لطفي.

تساءل محب عما إذا كان المغرب "حالة خاصة" بين الأقطار العربية، ووجد الاستقرار، الاجتماعي والسياسي، تفسيره في قدرة النظام على ضبط عوامل الأزمات، وتنفيسها.

احتل المغرب المرتبة 123 في سلَّم التنمية البشرية، بعد الجزائر، وليبيا، والعراق. ناهيك عن الفوارق الاجتماعية، مع تركُّز  سياسي، واقتصادي للسلطة، والثروة، مع تهميش الحقوق، والحاجيات الأساسية للأغلبية الشعبية؛ ما دفع شروط الحياة للانحدار، فتكرس تهميشًا بنيويًا، طال شرائح اجتماعية واسعة، ومناطق بكاملها. وهكذا انكمش النظام، تدريجيًا، حول قاعدة اجتماعية ضيقة، ذات طبيعة أوليغارشية. أما الشرعية الوطنية، فاصطدمت بالتناقض بين الأسس الإثنية، والثقافية المركبة للمجتمع، وبين خطاب رسمي، عربي ـ إسلامي..

لقد استهدف لطفي من كتابه "تحديات مغربية"، الوقوف على نواقص اليسار المغربي، ونقاط ضعفه متغافلًا عن أنّ تبعثر منظمات هذا اليسار هي مصدر الضعف الرئيسي له، وهنا يكمن مربط الفرس..