قضايا وآراء

الفدائيون الستة ونفق العقل الانهزامي العربي

1300x600
صباح السادس من أيلول/ سبتمبر كان الفلسطينيون والعالم على موعد مع نقطة تحول هامة في تاريخ ثورات التحرر في العالم، فقد تمكن ستة فدائيين فلسطينيين من معتقلي سجن جلبوع المركزي، من انتزاع حريتهم عبر نفق حفروه تحت الأرض بأدوات بدائية، في مشهد ألهب العقل التحرري والثوري العربي، وأعاد شحنه بعقيدة الحرية التي كفر بها كثيرون في معرض الاستبداد العربي والثورات المضادة.

لا شك في أن هنالك أزمات متلاحقة تعرض لها العقل العربي في حربه التحررية من الاحتلال والاستبداد، فبعد مجهودات مستدامة استمرت لسنوات وعقود أصيبت الدول العربية بوهن الاستبداد حتى تمكن منها الاحتلال، ورأينا كيف ذهبت دول عربية نحو التطبيع مع العدو الصهيوني، في حين كانت هنالك حالة انقسام شعبي بين من رأى ذلك جزءا من الأمر الواقع، إذعاناً لتفوق دولة الاحتلال، وبين الأحرار الذين هاجموا تلك الخطوات واعتبروها هزيمة وخسارة فادحة أمام الذات وأمام كيان الاحتلال، حتى وإن تذرعت تلك الأنظمة بأهمية حلف الأمر الواقع مع دولة الاحتلال في مواجهة المد الشيعي.

في أعقاب الأحداث التي حصلت هذا العام في فلسطين المحتلة والتي مثلت علامات فارقة في مجرى مقاومة الاحتلال، ظهرت أصوات استعادت عافيتها الثورية من سيل هزائم التطبيع والثورات المضادة، والتي نظرت للتطورات في قدرات المقاومة في معركة سيف القدس، كذلك في حدث الهروب الكبير من سجن جلبوع المعروف بالخزنة لشدة حصانته الأمنية، باعتبارهما نتاج اجتهاد ومثابرة وتفوق في حرب كسر الإرادات لدى الجانب الفلسطيني، محدود الإمكانات، على كيان الاحتلال المدعوم من محاور التطبيع ومن القوى العالمية التي تقيم دولة الاحتلال على حساب دافعي ضرائبها.

في المقابل، ظهرت أصوات صدرت عن هزيمة في عقلها الثوري والتحرري، وعكست أزمة في خطابها الإنكاري لتفوق الإرادة الفلسطينية على إرادة الاحتلال، وراحت تردد خطاب المؤامرة التي أعدها وأخرجها الاحتلال للعالم لعدم قدرة ذلك العقل المهزوم على إدراك أهمية الإرادة في حرب الوجود، وراحت تلك الأصوات تردد روايات الاحتلال، وتأخذ مادة إحباطها ويأسها من الرواية الصهيونية المتفوقة والمدعومة من الإله، في مشهد استدعى الوقوف على تلك الظاهرة التي تستفز التفكير نحو العوامل التي ساهمت في تكوين العقل الانهزامي؛ الذي لا تسعفه محدوديته في النظر للأحداث خارج محدودية أدواته وعقده المركبة نتيجة هزائم الأنظمة العربية الاستبدادية المتكررة أمام الاحتلال، ونتيجة انهزام ذلك العقل أمام سطوة الاستبداد.

تقف مجموعة من العوامل وراء تصدر الخطاب الانهزامي رؤية تلك العقول، حتى حولت تلك العوامل الحاكم المستبد والاحتلال الإسرائيلي لصورة إله تصب كل الأحداث حتى المعاكسة له في رصيده الوجودي. وقد أسهمت الدولة الأمنية العميقة الاستخباراتية في صياغة أهم أركان العقل العربي الانهزامي. ففي الدول التي يردد فيها المواطنين العرب بأن الحيطان لها عيون وآذان، دلالة على أن الحاكم المستبد وقوى الصهيونية العالمية لها قوى أمنية خارقة وتعلم الغيب وما يخفى، فإن هذا كان أبرز عوامل هزيمة العقل العربي الذي نخره الطابع الأمني لدول الاستبداد، وجرده حتى من قدرته على تخيل الحرية كفكرة.

العقل الانهزامي الذي يُرجع تلك الأحداث المقاومة المتفوقة في حرب كسر الإرادات لمؤامرة السيد وقوى الصهيونية العالمية، وأن دولة الاحتلال منحت هامشا لتلك القوى الثورية بتطوير قدراتها، هو نموذج عن التشوه الفكري والهزيمة الداخلية التي ألحقتها الدولة الأمنية العميقة الديكتاتورية بمواطنيها، حتى أمرضت مخيلة المهزوم وتسربت له من الداخل، ونقلت سجونها ومعتقلاتها لمنظومته الفكرية وكبّلتها بالعجز والشعور بالهزيمة من العمق، وهذا ما يؤزم تلك العقول أمام العقل التحرري الثوري، حيث ينظر العقل المهزوم للعقل التحرري على أنه مجازف، ومُلحَق بمدار جزء من مؤامرة سترتد عليه حكماً.

عمدت الأنظمة الاستبدادية والقمعية لتحويل الانكسار الداخلي والهزيمة لجزء من منظومتها التعليمية، حيث تتمثل عملية تعليم المواطن العربي منذ مراحله الأولى ببرمجته على فكرة الحاكم المستبد الخارق القائد الواحد الخالد. وهذه المنظومة التعليمية، وكذلك منظومة العمل في مؤسسات الدولة، أسهمت في جمود العقل الثوري لصالح العقل المهزوم والاستسلامي أمام القدرة المطلقة للحاكم المستبد وأعوانه.

وأهمية التنشئة التعليمية لديمومة دولة الاحتلال أدركتها الدول المانحة للجانب الفلسطيني مثلاً، تلك الدول التي راحت تشترط فلترة المناهج بحيث تحولها لعملية تدجين للعقل الثوري، وتنقل المستوى التعليمي داخل فلسطين المحتلة من الاشتباك مع واقع الاحتلال إلى حالة من الانفصام عن الواقع.

يدرك المستبد والمحتل بأن ديمومة الاستبداد والاحتلال تتوقف على مقدار قدرتهما على غزو العقل العربي وإلحاق الهزيمة به، وهذا ما اجتهدت المؤسسات السياسية والأمنية والعسكرية في نظم دول الاستبداد ودولة الاحتلال؛ في ترديده. فلطالما استعرض القادة الأمنيون والسياسيون الإسرائيليون إمكانات وحصانة دولة الاحتلال في كل ظهور لهم، حتى أثرت الرواية الصهيونية للقدرات الخارقة على العقل العربي غير الناقد والمهزوم أمام الاستبداد والاحتلال.

لا يمكن للعقل الذي لم ينشأ على النقد وعلى البنية العلمية المتحررة من التحيزات من أن يدرك قدراته وعمق إمكاناته، أو أن يدرك قدرات الآخرين المتحررين ذهنياً من الهزيمة. وهنا تتوقف أولى خطوات تحرير العقل العربي من سيناريو الهزيمة الحتمية؛ على عملية تربية المقهور في المدارس والجامعات ومؤسسات التعليم، لأن كل توغل في الجهل هو عملية شلل إرادة تامة وسيطرة مطلقة للمستبد والمحتل على دهاليز ذلك العقل.

أيضاً لا يمكن إغفال دور السلطة الفلسطينية وقادة التنسيق الأمني مع الاحتلال في ترديد خطاب الهزيمة على مسامع الأجيال التي أعقبت توقيع اتفاقية أوسلو الانهزامية. وكان جزء من تبرير اتفاقية أوسلو المهينة والمذلة يقوم على ترديد خطاب العجز أمام الاحتلال، وأمام قدراته الأمنية والاستخباراتية والعسكرية الهائلة والتي لا تُقهر، وردد قادة التنسيق الأمني بأن الخدمات الأمنية التي يقدمونها للاحتلال من مطاردة المقاومين وتسليمهم هي أمور في متناول الاحتلال، وأن عثور الاحتلال عليهم تحصيل حاصل، فهو الذي يصدر أنظمة التجسس والتنصت لكثير من دول العالم.

بالإضافة لما سبق فإن الهزيمة التي لحقت بالعقل الثوري وهيأته لاتفاقية أوسلو والتخديم على كيان الاحتلال؛ تعاطى معها القادة الفلسطينيون الذين توغلوا في الهزيمة أمام الاحتلال على أنها أمر واقع، ولا مفر من التعاطي مع الاحتلال انطلاقاً من تلك الوقائع، حيث اجتهدت تلك القيادات الأوسلوية وقيادات التنسيق الأمني في تسطيح وتحويل كل إنجاز للمقاومة الفلسطينية إلى هزيمة لهم بمطاردتهم منافع مؤقتة، والتعامل مع إنجازات المقاومة على أنها كروت رابحة تطيل من عمر تلك المكاسب المغمسة بإذلال الاحتلال.

القادة الأوسلويون والعقول الانهزامية التي أصبح أكبر طموحاتهم الوطنية تجاوز حاجز إسرائيلي عن طريق استخدام بطاقات "في آي بي" التي يمرغ الاحتلال أنوفهم بالتنسيق الأمني من أجلها، ويوغل في إذلالهم في سبيل الحصول عليها والاحتفاظ بها، لا يمكن لهم تخيل الإرادة التي تحرك المقاومين الفلسطينيين في أنفاقهم التي حفروها تحت الأرض في سبيل مقارعة الاحتلال وتخطيه بإراداتهم المطلقة. كذلك لا يدرك عقلهم الانهزامي العزائم وراء نفق الحرية في سجن جلبوع الذي حفره الفدائيون الستة بالملاعق من أجل حرية روج لها قادة أوسلو الانهزاميون على أنها جزء من خطاب استهلاكي لا جزء من أمر حتمي الحدوث.

كما كانت جولة المفاجآت ضمن معركة سيف القدس للعقل المتفوق الصهيوني كذلك للعقل العربي المهزوم؛ مذهلة وصادمة، وأتى الهروب الكبير بمعناه المعجز كي يقدم درساً لأطراف الهزيمة من مطبعين وعقول مهزومة حول الممكنات في حال كانت الحرية هي الهدف؛ لا الانتقال من عبودية طرف إلى آخر في سبيل ضمان الوجود.

لقد حفر هؤلاء الفدائيون الستة نفقاً طويلاً في العقل المهزوم وأحالوه لمشكلاته المتمثلة بقصور الإرادة وشلل العزيمة، وهذا أمر هزّ العقل الانهزامي بمقدار ما هز أسطورة التفوق الأمني الإسرائيلي.