مقالات مختارة

لماذا القوة الصلبة..؟

1300x600

يتعقب المراقبون معظم مشاكل العالم الآن إلى اختيار القوى العظمى تحقيق النفوذ والمصالح بالقوة الصلبة. وقد تزعمت هذا الاتجاه في العقود الأخيرة الولايات المتحدة، التي تمارس الاستعمار –حرفياً- بالغزو العسكري المباشر أو الدعم العسكري لقوى محلية من أجل تغيير الأنظمة في الدول الأخرى. وكما أظهرت التجربة في العراق وأفغانستان وليبيا واليمن، على الأقل، فإن مغامرات الغرب، وعلى رأسه الولايات المتحدة، لم تجلب سوى الويلات لكافة الأطراف، من فقدان الأرواح، إلى التدمير المادي وهدر ترليونات الدولارات بلا طائل.
كتب آلون بن مئير، متحدثاً عن تجربة أميركا في أفغانستان: «الآن وقد اقتربت الولايات المتحدة من نهاية حرب كان من المفترض أن تنتهي قبل 19 عامًا، فإن السؤال هو، ما الذي تعلمناه من هذه التجربة المريرة. إن القيادة تعني المسؤولية الكبيرة وبعد النظر. لا ينبغي أن نكون شرطي العالم، ولكن يجب أن نستخدم قوتنا الناعمة لمعالجة الظلم وانتهاكات حقوق الإنسان أينما حدثت. يجب محاكاة تجربتنا في الديمقراطية طواعية وليس دفعها بالقوة في حلوق دول أخرى.»
ويكرر بن مئير رأي عشرات المفكرين السياسيين والمتابعين الذين يحللون سلوك الولايات المتحدة العدواني في العقود الأخيرة ومعها حلفاؤها الذين تجندهم في مشاريعها. ويرى هؤلاء أن الحصيلة النهائية لهذا السلوك هي الكثير جداً من التخريب في العالم، وتدمير الكثير من الدول، وإرباك النظام العالمي، والتراجع المستمر في المكانة الأخلاقية للولايات المتحدة نفسها، واستعداؤها المزيد من الشعوب المتضررة من تدخلاتها.
والسؤال دائماً هو: لماذا يريد أحد أن يأخذ بالقوة والإكراه ما يمكن أن يحصل عليه باللين والدبلوماسية والمساعدة؟ ما الذي كان سيحدث لو أن ترليونات الدولارات التي أنفقت على الحروب والقتل والتدمير قُدمت في شكل مساعدات وبرامج تنموية للدول المستهدفة؟ أليس النفوذ الاقتصادي كفيلا بشراء الولاء وتغيير الاتجاهات وتحجيم التطرف والعنف والعدوانية؟ ابنِ لي بنية تحتية مناسبة، وساعدني في صناعة اقتصاد نامِ يخلق الوظائف ويقلل سخط الناس، واشترط عليّ اتخاذ خطوات إصلاحية ديمقراطية، وسوف أكون مديناً لك وموالياً وتابعاً إيجابياً.
كثيراً ما تُحال النزعة العدوانية للولايات المتحدة والقوى الكبرى الشبيهة إلى المفهوم المركب لما يُسمى «المجمع الصناعي العسكري» ومخططات شركات الطاقة العالمية. ويقيم هؤلاء علاقات قوية مع المشرعين وصناع القرار بهدف جني أرباح هائلة. ويبيع منتجو الأسلحة إنتاجهم لجيوش بلدانهم ويدفعون نحو إقرار ميزانيات كبيرة لإنفاقها العسكري، كما يبيعون أسلحتهم للدول الخارجية المنخرطة في حروب أو تعيش في مناطق متوترة وتتنافس مع قوى في أقاليمها على النفوذ. ولذلك تعيش هذه الشركات على الحروب والمناطق الساخنة في العالم، وتعمل على إدامة التوترات لكي تزدهر.
وتريد شركات النفط العالمية السيطرة على مناطق إنتاجه، وتعمل بنفس الطريقة على تأكيد العلاقة بين نفوذ دولها العالمي وسيطرتها على منابع النفط. ويقول أحد المحاربين القدامى في الحرب الأميركية في العراق، قبل أن يلقي بوسامه العسكري مع آخرين: «لم أذهب إلى العراق لأحرر العراقيين. لقد ذهبت لاحتلال آبار النفط». وبذلك، لا مصلحة لهؤلاء في سيادة السلم ونبذ الحرب. وسوف تريد كل الدول التي تنتج الأسلحة أن يكثر المتقاتلون وأن تستمر سيول الدماء والدمار والتشريد. وتريد الدول أن تسيطر مباشرة على مصادر الطاقة التي تشغلها.
على المستوى الأضيق، تختار الدول أيضاً إدارة نفسها داخلياً بين القوة الصلبة والناعمة. ويريد بعضها السيطرة على مواطنيها بالتخويف والإخضاع وقمع الحريات، بينما تشتري أخرى ولاءهم بإشراكهم بطريقة أصيلة ومخلصة في القرارات وتعمل على تحسين أحوالهم واستئصال الفساد الذي يسرق حصتهم من الثروة الوطنية. وفي الأصل، سوف يكون المواطن الذي يحبك أفضل كثيراً من الذي يخاف منك. وسوف يختار المواطن السويدي، مثلاً، أن يدفع ضرائبه من دون غش كرد طبيعي على عدم تقصير دولته في حفظ حقوقه. بينما سيختار مواطن الدولة الاستبدادية الفاسدة التحايل عليها ويكتم سخطه حتى تتاح له فرصة تنفيسه، ويعيش كل الوقت مع التوتر وفقدان الأمن.
المعادلة أخلاقية والعملية واضحة. سوف تنعم البشرية، والأفراد في الدول الفردية، بالأمن وفرصة السعادة والتقدم إذا ما اختيرت القوة الناعمة: كسب القلوب والعقول بالسياسات الجاذبة من نوع، اكسب ودع غيرك يكسب. وبغير ذلك سيكون الجميع خاسرين. ولكن، «لا حياة لمن تنادي».

(الغد الأردنية)