آراء ثقافية

المبتسرون.. في تفكيك انتحار ما بعد الهزيمة

أروى صالح كتاب مصر

شهدت السبعينيات من القرن الماضي، ولادة جيل مناضل، من طلاب الجامعات المصرية الذين كانوا يحاولون الخروج من الهزيمة الناصرية في 1967، ساعين نحو الأمل والتغيير في أوائل الحكم الساداتي. وقد سعوا فكريا وحركيّا من خلال أفكارهم وتنظيماتهم واحتجاجاتهم نحو تدشين هذا التغيير.

 

لكن، سرعان من تملّك اليأس أجسادهم وأرواحهم، بفعل اتجاه نظام الحكم سواء في عصر السادات، وما بعده (حسني مبارك) لمزيد من السياسات السلطويّة، والإجراءات القمعية للأفكار والأحزاب والمواطنين. عاصرت تلك الحِقبة الناشطة والأديبة والشاعرة أروى صالح، بما أنّها واحدة من هؤلاء الطلاب.

 

قبل أن ترحل مُنتحرة، قد دونت سيرتها الاعترافيّة على تلك الحقبة (المبتسرون: دفاتر واحدة من جيل الحركة الطلابية، دار النهر، 1996)، بما تحوي من سياساتٍ وأفكارٍ ومشاعر، نذكر البعض منها، فضلا عن مدى التشابه بينها هزيمة جيلها وهزيمة جيل ما بعد ثورة يناير 2011. 

كَمُنت الهزيمة في صدمة الكثيرين من المثقفين وغيرهم، الآملين في المشروع الناصري العروبي التحرّريّ، وذلك بعد نكسة 1967، وتبيان مدى هشاشة المشروع الناصري، ووضوح الفساد القياديّ الذي كان يحكم البلاد، خاصة الجيش، وأن القمع الناصري السياسيّ لكلٍّ من الإخوان المسلمين والشيوعيين، فضلا عن تأميم أفواه المواطنين، والحياة الثقافية، منها الفنية والإعلامية، كان قمع من أجل القمع ذاته، أي سبيلا للتفرّد بالسلّطة، لا قمعٌ من أجل محاربة أعداء العروبة والثورة كما كان يروّج النظام الناصري. 

في بداية السبعينيات، اندلعت احتجاجات الطلاب المتتالية في عاميّ 1972 و1973، ضمن نضالهم ضد النظام الساداتي في وقوفه في حالة اللاحرب واللاسلم مع إسرائيل، والمطالبة بالعمل للاتجاه إلى خوض الحرب، واسترجاع أرض سيناء التي سُلبت. وحتى بعد خوض الجيش المصري حرب أكتوبر، بقيت الاحتجاجات رافضة لِسياسات النيوليبرالية التي تقمع الفئات الأكبر من الشعب، بل وتقضي على آمالهم التي كانت قد بدأت مع المشروع الناصري، الذي اتجه نحو التأميم والاهتمام بالقطاع العام، بالتوازي، ومع مرور الوقت وصولا إلى زيارة السادات للقدس، وبدء محادثات السلام المُنتهية باتفاقية كامب ديفيد عام 1978.

حكت أروى في فصلها الأول المعنوّن بـ "المثقف متشائما" عن جيل المثقفين من الحركة الطلابية في عصر السادات، والجيل السابق لها، الذي تشكّل في الحِقبة الناصريّة، ووصفت البعض منه أنه جيلٌ مشوّه، لا يعرف من يحارب، بل واتجه البعض من هذا الجيل نحو الارتماء في أحضان النظام الساداتي، مقابل توظيفه والتحاقه بمكانة اجتماعية تحافظ على وجوده، والبعض الآخر كان متكيّفا مع أفكارٍ ليست ملائمة للواقع الذي كان يلتفُ بهم، وهذا ما يُقاس على ما حدث بعد ثورة يناير عام 2011، بين صفوف المثقفين والثوار والأحزاب.

 

اختلفت ثورة يناير كونها ليس احتجاجا نُظم من قبل الطلاب عام 1972 أو المواطنين في عام 77 فيما يعرف بانتفاضة الخبز، بل هي احتجاجٌ موسّع استطاع أن يقتلع نظام مبارك ويجّبره على التنحي. أما فيما بعد ذلك، قد حدث بوجه مشابه، بشكلٍ أو بآخر، ما حدث في جيل أروى صالح، حين عمّت ملامح التيه السياسي لدى الكثيرين، ولهث آخرون حول السلطة، وتولى زمام الأمور أجيالا تنتمي إلى الفكر والسياسة القديمة، ولا تمتلك أدوات عصرانية لمواجهة الأزمة من حيث السياسية والفكر. وبسبب هذا الاختلاف والتناحر فيما بينهم، هؤلاء الثوريّون، سرعان ما انقلب الجيش مرّة أُخرى وأرجع تقاليد الحكم المصرية إلى عسكريّتها كما كانت من قبل. 

أيضا، روت أروى، في الفصل الأخير عمّا سمّته "المثقف عاشقا"، وانتقدت بشدّة العلاقات التي كانت قائمة بين الرجال والنساء من الشلل المُثقّفة، فقالت: "إن المثقف في علاقته بالمرأة يسلك كبرجوازي كبير، أي كداعر، ويشعر ويفكِّر نحوها كبرجوازي صغير، أي كمحافظ مفرط في المحافظ"، وهذا أيضا ما تكرر مؤخرا، مع بدء حملة me too العالمية، التي بدأت فيها النساء بالإفصاح عن حالات التحرّش اللاتي تعرّضن لها في فضاءات مُختلفة من الحياة، سواء خاصة أو عامة، من داخل البيت مرورا بمحلّ العمل وصولا إلى الشارع.

 

بالتزامن، قد كتبت عدة ناشطاتٍ مصريّات، يُحسبن على الوسط الثقافي، الليبرالي واليساري، عن حالاتٍ كثيرة تعرّضن فيها للتحرش والابتزاز الجنسي مِن رجال مُثقّفين وحقوقيين بارزين في العمل العام بشتّى أفرُعه من السياسة والحقوق والاجتماع والصحافة. 

هزائم كثيرة، قد مرّ بها الكثيرون، سياسيّة على المستوى النضال ضد نظام الحكم، وذاتية تجاه الأفكار والأوساط التي انضموا إليها، وهو ما دفع البعض منهم إلى الانتحار، الانتحار كَتمرد أو كمقاومة لحالة الهزيمة، المقاومة التي تأتي بفعل الخلاص. وكما انتحرت أرى صالح في يونيو من عام 1997، وهي تناهز من العمر 46 عاما، حيث ألقت بجسدها من شرفة شقة عُليا بحي الدقي بالقاهرة، أيضا انتحرت الشابّة والناشطة المصريّة زينب المهدي في نوفمبر من عام 2014، شانقةً نفسها في غرفتها، وقبل ذلك قد كتبت "ليس هناك نصر آت لكننا نضحك على أنفسنا حتى نستطيع أن نعيش"، تعبيرا عن يأسها في التغيير وانتصار الثورة، وذلك بحلول نظام ما بعد 3 يوليو 2013. 

وعن ماهية الانتحار، فقد قسمه الاجتماعيّ الفرنسي إيميل دوركهايم (1958 - 1917)، من منظور اجتماعي، إلى أربعة أنواع. الأول الانتحار الأناني selfishness of suicide، أي شعور الإنسان بالعزلة عن الاجتماع البشري الذي يدور حوله، من علاقات وروابط إنسانية ومنافع متبادلة، فيؤدي ذلك إلى تنامي المنفعة الشخصية عند الفرد على حساب أي منفعة أخرى، على عكس النوع الثاني الذي يسميه "الإيثاري"altruistic suicide، وهو نوع ينظر الإنسان فيه إلى احتياجات الاجتماع من حوله أكثر تحدقًا من احتياجه الفردي، غير أن هذه المجتمعات التي قدم لها الإنسان الإيثاري كل اهتماماته قد تدفعه إلى الانتحار، فيما لو حدث خلل في نظرته إلى هذا المجتمع.

بينما كان المعياران الثالث والرابع عند دوركايم أكثر تقاربًا، فَالانتحار اللامعياري Non-normative suicide هو الذي يظهر عند نشوء اضطراب في سلوك وضوابط المجتمع، كإطلالة الحداثة على مجتمعٍ ريفي أو كساد اقتصادي مفاجئ أو انتعاش دون تدرج، فيشعر الإنسان بانعدام جذوره وفقدان الهُويّة. الأمر نفسه يتكرر أحيانًا في النوع الرابع، وهو النمط المُقارب لحالات مثل أروى وزينب، ويسمّى "الانتحار القدري Fatalistic suicide". ويفضل فيه الإنسان الانتحار على أن يستمر في وجوده داخل الحياة الاجتماعية متمثلة في "النظام والمجتمع" اللذين يراهما أدوات قمع وتسلّط.

كل من أروى وزينب وغيرهم مما لاقوا نفس المصير، من الرجال والنساء، قد مرّوا بصدماتٍ، من ناحية الأفكار والأشخاص والتنظيمات، يُضاف إلى ذلك صدمة الهزيمة أمام أنظمة الحُكم، بل واشتداد واستمرار القمع، وتجلّي حالة عُنف واستقطاب اجتماعي/سلطوي واجتماعي/اجتماعي. تشابه معهم التونسي محمد بو عزيزي، الشاب التونسي، الذي أضرب النار في جسده في ديسمبر من عام 2010، كي يكون الجسد الميّت، بمثابة شرارة مُتكلمة أشعلت الثورة في تونس والمنطقة العربية، وهو انتحار أيضا قدرّي، لكن مع اختلاف طريقة الانتحار ودوافعه ومكانه، كوّنه في فضاءٍ عام، صيغ انتحاره كفعلٍ احتجاجيّ مُقاوم، يُثير ما حوله. 

 

مرجع:
إميل دوركايم، الانتحار، ترجمة حسن عودة، منشورات الهيئة العامة السورية للكتاب، ط 1 دمشق 2011، ص 170، 265، 301