كتب

كيف انتقل السادات بمصر من الصراع مع الاحتلال إلى التسوية؟

كتاب يسلط الضوء على أهم محطات صراع مصر مع الاحتلال وصولا إلى زيارة السادات للقدس

الكتاب: السادات وإسرائيل: صراع الأساطير والأوهام.
الكاتب: مجدي حماد.
الناشر: مركز دراسات الوحدة العربية، 2019.


يستحق أنور السادات دراسات مطوَّلة، لما ألحقه بقضايا العرب عموما، والقضية الفلسطينية على وجه الخصوص من مضار، سنظل نعاني منها لعقود ممتدة، لاحقا.

السادات هو أول من أقدم على الصلح مع إسرائيل، من بين كل حكام العرب، بعد أن كان ألحق مصر بالإمبريالية الأمريكية؛ بذريعة أن الأخيرة "تمتلك 99% من أوراق الصراع العربي ـ الإسرائيلي!" حسب ما استمرأ السادات ترديده.

يجيء هذا السفر لباحث مصري عروبي مرموق، ملقيا حزمة من الأضواء على تحوُّل السادات السريع، منذ وصل إلى سدة الرئاسة في مصر، عن خط عبد الناصر، الذي تميَّز بالعداء للإمبريالية، والتحيُّز للطبقات الفقيرة.

في القسم الأول من الكتاب، تولى المؤلف أمر "عملية التحوُّل الكبرى من الصراع إلى التسوية"؛ بادئا بالفصل الأول، الذي خصَّصه لحصر "تركة جمال عبد الناصر"، بدءا من الموقف الأيديولوجي، والسياسي، فالجبهة العسكرية، وصولا إلى الجبهة السياسية. 

وفي الفصل الثاني، تحدث المؤلف عن "شخصية السادات"؛ من "الإدراك المتغيِّر"، إلى "رؤية الآخرين". ولا أدري لماذا أغفل المؤلف سيرة السادات المبكِّرة، إذ عمل لحساب الملك فاروق، في "الحرس الحديدي"، بعد أن كان فشِل في أن يصبح ممثلا سينيمائيا، وكيف أن عضو قيادة "الضباط الأحرار"، عبد المنعم عبد الرؤوف (إخوان) اعترض على اقتراح عبد الناصر ضم السادات إلى الضباط الأحرار، ووصل الأمر بعبد الرؤوف حد هجر الضباط الأحرار، احتجاجا. 

ولعل الأخطر من هذا كله تلك المفاجأة المدوِّية، التي فجَّرتها يومية "الواشنطن بوست"، في عدديها 15 ـ 22 شباط / فبراير 1977، حين نشرت تقرير لجنة مجلس الشيوخ الأمريكي، كانت فتَّشت على الدفاتر المالية لـ "المخابرات المركزية الأمريكية"، وجمعت ملاحظاتها، وذهبت بها إلى الرئيس الأمريكي، حينها، جيمي كارتر، وأخبرته بمدى خطورة ما وجدته اللجنة في تلك الدفاتر، وميلها إلى نشره في الصحافة. 

وافق كارتر، وإن اشترط ألا يُلحق النشر أضرارا بالأمن القومي الأمريكي. ويا لهول ما نُشر، لعل أخطره أن السادات كان قد تم تجنيده لحساب المخابرات المركزية الأمريكية، سنة 1957، حين كان يترأس "المؤتمر الإسلامي"، ومقره جدة، وهناك تمكن كمال أدهم، مدير المخابرات السعودية، من تجنيد السادات لحساب المخابرات المركزية، لقاء مئتي دولار شهريا. أردفت "الواشنطن بوست" بأن السادات تمت زراعته، بعناية! 

لم يكن هذا كله من باب النميمة بحق رجل توفاه الله، بل حقائق لم يرُد عليها السادات، في حينه، كما فعل غيره.

لقد أحدثت التطورات الدراماتيكية، التي افتعلها السادات، بتوجيه ضربة قاضية لمعارضيه "ورثة عبد الناصر"؛ ما أحدث تحوُّلات على البيئة، الداخلية، والإقليمية، والعالمية، في السبعينيات، وتمكن السادات من التفاعل معها، والاستجابة لها، وفقا لمنظومته الفكرية، والأيديولوجية، فضلا عن رؤيته الذاتية، مع انفراده بصُنع القرار. ثمَّ جاءت مرحلة ما بعد أحداث أيار / مايو 1971، فانقلب موقف السادات من النقيض إلى النقيض؛ وبهذا تولى تكذيب نفسه بنفسه. (ص53 ـ 54).

 

يا لهول ما نُشر، لعل أخطره أن السادات كان قد تم تجنيده لحساب المخابرات المركزية الأمريكية، سنة 1957، حين كان يترأس "المؤتمر الإسلامي"، ومقره جدة، وهناك تمكن كمال أدهم، مدير المخابرات السعودية، من تجنيد السادات لحساب المخابرات المركزية، لقاء مئتي دولار شهريا. أردفت "الواشنطن بوست" بأن السادات تمت زراعته، بعناية!

 



امتدت انقلابات السادات، لتصل إلى حد الانقلاب على انتمائه الطبقي، حسب محمد حسنين هيكل، في كتابه "خريف الغضب".

لذا، كان منطقيا أن يتخلى السادات، بسرعة مذهلة، عن ورقة القوة، التي وفَّرها عبد الناصر، حين نجح، مطلع 1970، في إحضار طيَّارين سوفييت، تمكنوا من إسقاط عدة طائرات إسرائيلية، فخشي نيكسون من أن تتورط بلاده في حرب لا تريدها إدارته مع السوفييت، في الشرق الأوسط؛ ما سمح بصدور "مبادرة روجرز الثانية" التي جرَّت على وزير الخارجية الأمريكي، وليم روجرز، شتائم المسؤولين الإسرائيليين، لكونها أول موقف أمريكي متوازن، بشأن الصراع العربي ـ الإسرائيلي. 

مما يؤكد أن واشنطن تقف مع مصالح إسرائيل، ولكن كما تراها واشنطن؛ أي إن المصالح الأمريكية، والإسرائيلية، يمكن أن تتباين، من وقت لآخر، كما حدث، بعد ذلك، مطلع التسعينيات؛ حين امتنع الرئيس الأمريكي جورج بوش عن ضمان إسرائيل في قرض قدره 10 مليارات دولار، وقبل ذلك بنحو ثلاثة عقود ونصف، حين أجبر الرئيس الأمريكي، دوايت أيزنهاور إسرائيل على سحب قواتها من الأراضي التي احتلتها إبان "العدوان الثلاثي" على مصر، وقطاع غزة.

في القسم الثاني، تمت معالجة "استراتيجية السادات من الصراع إلى التسوية"، وتحت عنوان "البحث عن حل سلمي"، جاء الفصل الثالث، ليلقي الضوء على "قنوات السادات السرية". (ص107 ـ 121)، وعلى مبادرات السادات المتواصلة (فتح قناة السويس، استحداث اتحاد الجمهوريات العربية، اتصالات السادات الأمريكية).

ينتقل المؤلف إلى الانقلاب، مبتدئا بالصراع على السلطة، وإسقاط المجموعة الناصرية (مجموعة على صبري ـ شعراوي جمعه)، كما استعرض حماد "أدوات المؤامرة"، وأوضح دلالات توقيت الانقلاب، ونتائجه.

مهَّد المؤلف للفصل الرابع "حرب تشرين الأول / أكتوبر 1973"، وبأجواء ما قبل الحرب، قبل أن ينتقل إلى "إدارة العمليات العسكرية"، بادئا بكشف أجواء "نيَّات الحرب"؛ حيث أبلغ السادات، بعد 14 ساعة من بدء حرب 1973، هنري كيسنجر، وزير الخارجية الأمريكية، عدم تطوير الهجوم العسكري المصري، في واقعه لا سابق لها في تاريخ الحروب، لكن السادات أراد أن يُبلغ كيسنجر بأن القتال قد حرَّك القضية، كما نصح الأخير، بما يسمح بتسويتها! (ص146 ـ 152).

انتقل حماد للحديث عن "جدل أشرف مروان" الذي اتُهم بنقل موعد الحرب، دون ساعة الصفر، إلى الإسرائيليين. لكن الإسرائيليين لم يُصدقوه! فحدثت المفاجأة الاستراتيجية، التي صعقت الإسرائيليين، وهم يخلدون إلى النوم، اعتمادا على عدم استعداد مصر، وسوريا للحرب. (ص252 ـ 283).

حسب الفريق سعد الدين الشاذلي، رئيس أركان حرب القوات المسلحة المصرية، في الأيام الأولى من حرب 1973، فإن القيادتين المصريتين، السياسية والعسكرية، كانتا على اقتناع بحقائق ثلاث:

ـ تفوُّق العدو الساحق في القوات الجوية.
ـ وتفوُّقه في مجال الحرب البرية، خفيفة الحركة.
ـ التأييد الأمريكي المطلق لإسرائيل، في شتى المجالات.

في أول تشرين الأول/ أكتوبر 1973، أصدر السادات التوجيه الاستراتيجي السياسي للقتال، إلى القائد العام: (تحدي نظرية الأمن الإسرائيلي.. إلحاق أكبر قدر من الخسائر بالعدو، وإقناعه بأن مواصلة احتلاله لأراضينا، تفرض عليه ثمنا لا يستطيع دفعه). وأتبعه السادات بتوجيه آخر (5/10) لم يخرج عن الأول، إلا في "تنفيذ المهمة بواسطة القوات المسلحة المصرية منفردة، أو بالتعاون مع القوات المسلحة السورية!" وإن عمد السادات إلى إدخال تغيير جوهري، سرا، على الاستراتيجية العليا، السياسية والعسكرية، نتيجة نياته الكامنة! حتى لا تصل القوات المصرية إلى المضايق، حسب خطة عبد الناصر؛  ما انتهى إلى "الانتصار الأمريكي". (ص283 ـ 333).

اتخذ وزراء النفط العرب قرارهم، في 17 تشرين الأول/ أكتوبر1973، بدخول النفط سلاحا في المعركة. (ص345 ـ 348).

لاحقا، تقدَّم الفريق سعد الدين الشاذلي، الذي تولى رئاسة أركان حرب القوات المصرية، فيما بين 16/5/1971 و12/12/1973، بـ"بلاغ خيانة ضد أنور السادات"، إلى النائب العام في مصر. (ص341 ـ 350).

ما تبع ذلك يدخل في عداد التداعيات، والتفاصيل، بدءا من "الحرب في الميزان" إلى "أ ـ الإيجابيات"، فالسلبيات، إلى رأي المؤلف في "إدارة العملية السياسية"، اعتمادا على ما كتبه هيكل في "خريف الغضب"؛ فحصيلة القتال، وموقف كل من إسرائيل، والدول العربية، قبل "لقاء السادات ـ كيسنجر"، و"شهادة وليام روجرز"، فـ"زيارة كيسنجر للسادات في مصر"، عشية "عودة العلاقات الدبلوماسية بين مصر والولايات المتحدة"، إلى "رسالة سرية من السادات إلى غولدامائير"، ثم "قرار فك الاشتباك على الجبهة المصرية"، وتعهد السادات لكيسنجر بعقد صلح منفرد، بين مصر وإسرائيل، وتعامل السادات بقلة وفاء مع الاتحاد السوفياتي، مع تقليص المقاطعة الاقتصادية لإسرائيل. (ص350 ـ 379).

أما الثمار المرَّة لهذا كله، فلعلها تمثلت فيما أطلق عليه المؤلف "مبادرة القرن"، حيث أعلن السادات، في 9/11/1977، استعداده للسفر إلى الإسرائيليين، والتقائهم في عقر دارهم (الكنيست)، وبعد عشرة أيام، نفَّذ السادات وعيده، أمام وقوع الجميع بين مُصدِّق، ومكذِّب. وما ترتَّب عن هذه "المبادرة" المشؤومة من كوارث، حاقت بقضايا العرب، وفي القلب منها القضية الفلسطينية.

وبعد، فنحن أمام كتاب موسوعي (567 صفحة من القطع الكبير) عن أخطر كارثة ألحقها حاكم عربي، بأمته، ووطنه، الكبير والصغير. وقد فتحت الباب لانهيارات، وكوارث متتالية. ما يجعل الاطلاع على هذه الموسوعة أمر بالغ الأهمية لكل ناشط سياسي عربي، وللأجيال القادمة، ومَن يعش يرى أكثر.