كتب

تاريخ أزمة اليسار الفكرية والنظام الريعي في تونس (2من2)

بقي اليسار التونسي سنواتٍ طويلة في موقع المعارضة، لكن المسار الثوري مفتوح ليكون اليوم في موقع الحكم- (الأناضول)

الكتاب: "اليسار وسرديته الكبرى: في إدراك الاقتصاد الريعي"
الكاتب: عزيز كريشان
الناشر: كلمات عابرة، جمعية نشاز، الطبعة الأولى، تونس 2021
(132 صفحة من الحجم الوسط)


يواصل الكاتب والباحث التونسي توفيق المديني عرض تاريخ اليسار في تونس، من خلال قراءته لكتاب "اليسار وسرديته الكبرى: في إدراك الاقتصاد الريعي"، للكاتب التونسي عزيز كريشان.. 

أزمة الماركسية، وأزمة الفكر النقدي لليسار التونسي 

تعيش الأحزاب اليسارية في تونس ـ على اختلاف مكوناتها، من حركة التجديد (الحزب الشيوعي التونسي سابقاً)، الذي تحوّل مع أواسط عام 2012 إلى (حزب المسار الديمقراطي)، والتجمع الاشتراكي التقدمي، الذي غيّر اسمه إلى (الحزب الديمقراطي التقدمي، ثم إلى الحزب الجمهوري في عام 2012)، مروراً بحزب العمال الشيوعي التونسي ،الذي غير اسمه أيضاًإلى حزب العمال التونسي  مع بداية الثورة، وحزب الوطنيين الديمقراطيين الموحد الذي اغتيل أمينه العام الشهيد شكري بلعيد في 6فبراير 2013، أزمة عميقة، ولهذه الأزمة أبعادها السياسية والاجتماعية والأيديولوجية.
 
وعلى الرغم ما قامت به كل هذه الأحزاب من نشاطات سياسية كلٍّ من موقعه، وقدمت تضحيات كبيرة، في مرحلة ماقبل الثورة وبعدها، فإنهالم تستطيع أن تنجز أهدافها السياسية، ولاسيما بناء ديمقراطية فعلية وحقيقية في تونس. فالحزب الشيوعي لم ينجز البديل التقدمي الديمقراطي في تونس الذي ظل يمجده طيلة تاريخه، والتجمع الاشتراكي التقدمي لم يحقق الإصلاح المنشود، وحزب العمال الشيوعي التونسي لم يقم بالثورة الوطنية الديمقراطية، و"الثورة الاشتراكية".

وتؤكد التجربة السياسية والتاريخية في تونس أن المعارضة اليسارية بمختلف مكوناتها لم تستطع أن تجند قطاعاً واسعاً من المواطنين، وبالتالي أن تعبر عن إرادة طبقة أو تحالف طبقي شعبي. و يعود هذا من وجهة نظرنا إلى أن أحزاب المعارضة اليسارية في تونس كانت أحزاباً مدنية، في وقت كانت فيه المدينة أقلية بالنسبة لسائر الشعب التونسي. وأن هذه الأحزاب كانت أحزاب نخبة من المثقفين في مدينة تونس العاصمة والمراكز المدينية الأخرى، وأنها لم تكن أحزاباً شعبية. ولأن المشاركين في هذه الأحزاب كانوا كذلك، وكانوا يعملون على هامش السلطة، فيدعون إلى المشاركة في الانتخابات، ويكتفون بالمطالبة بالإصلاحات، وظلوا بعيدين عن جماهير الشعب، التي هجرتهم.

ولهذا لم تصبح أحزاب المعارضة اليسارية أحزاب طبقة وشرائح اجتماعية ذات مصلحة في إحداث تحول ديمقراطي حقيقي وتغيير جذري. وظلت الطبقات والفئات الاجتماعية في تونس تسلك طريقها الخاص، عندما تريد أن تعبر عن إرادتها، كما حصل في انتفاضة 26 جانفي1978، و"ثورة الخبز" في نهاية 1983 وبداية 1984، وعندما أنجزت ثورتها في 14 جانفي2011 بإسقاط نظام زين العابدين بن علي، ولم تكن في مثل هذه الحالات مستعدة لاعتبار أحزاب المعارضة اليسارية، أي حزب منها، قيادتها. وهذه مسألة طبيعية، لأن قيادات الجماهير الشعبية التي تمردت في أكثر من مناسبة في تونس، كانت تريد تنظيم قطاعات منها، ووضع البرامج التي تعبر عن مصالحها، وانتهاج النهج الذي يلبي مطامحها، وهذا ما لم تستطع أحزاب المعارضة اليسارية أن تفعله .
 
ولقد أخذت التطورات والأحداث العالمية منذ نهاية الحرب الباردة، تدفع إلى تحديد برنامج آلية التحرك نحو بناء ديمقراطية فعلية. وهذا البرنامج لا يتحقق بالوسائل التي تتبعها المعارضة اليسارية في شكلها الكلاسيكي القديم ، التي ترفض أن تمارس سياسة المعارضة الجدلية للسلطة، التي قد تؤدي إلى قطيعة مع السلطة، بل اكتفت بممارسة دور معارض لا يتجاوز حدود الوفاق الوطني، الذي أقرته الدولة التسلطية التونسية. ولذلك غابت التجمعات الشعبية عن أحزاب المعارضة اليسارية، في مواسم الانتخابات .

كما عجزت أحزاب المعارضة اليسارية التونسية بجميع فصائلها الماركسية اللينينية، عن عملية الاستقطاب والتنظيم الواسعة للجماهير العمالية والفلاحية لقيادتها نحو الانعتاق النهائي ، وأخفقت في اكتشاف البرنامج اللازم في مرحلة معينة، وحين أشارت إلى بعض ملامح التحول الديمقراطي، لم تكتشف الأسلوب اللازم الذي يحقق عملية بناء دولة الحق والقانون بالتلازم مع بناء مجتمع مدني حديث. وفي الوقت الذي كانت أحزاب المعارضة اليسارية  تعتبر نفسها أحزابا طليعية ثورية لقيادة  الطبقات الفقيرة، جاءت المحصلة التاريخية لمسيرة النضال السياسي في شكلها العكسي للمعادلة البسيطة لمهام الطليعة، إذ أصبحت هذه الأحزاب ظلاً تابعاً وذيلاً لحركة الجماهير الواسعة والمفعمة بالاحتمالات وخصوصيات التجارب .

لم تنقطع القوى الثورية الوطنية والديمقراطية والاجتماعية المناضلة عن النضال ضد الظلم والاستغلال والاضطهاد منذ قيام النظام التونسي ما بعد الاستقلال، وقدّمت مئات الشهداء وآلاف المساجين ،وخاضت ملاحم كبرى لعل أبرزها: تحركات الفلاحين الفقراء في أواخر ستينيات القرن الماضي، وحركة فيفري 1972 الطلابية والشبابية ،ونضالات النقابيين والطبقة العاملة التي توجت بالإضراب العام في 26 جانفي 1978، وانتفاضة الخبز في جانفي 1984، وانتفاضة الحوض المنجمي سنة 2008، علاوة على التحركات والنضالات ذات البعد القومي التي شقت كل هذه المرحلة دعماً لفلسطين والعراق ولبنان وسائر الأقطار العربية في المواجهة مع الكيان الصهيوني والقوى الإمبريالية و الكفاح من أجل الوحدة العربية ، حيث أدّى تراكم هذه النضالات إلى انتفاضة عارمة انطلقت شرارتها الأولى في 17 كانون الأول (ديسمبر) 2010 بسيدي بوزيد لتتمكّن جماهير الشعب من إسقاط بن علي، رأس الاستبداد والفساد، يوم 14 كانون الثاني (يناير) 2011.
 
وبدلاً من أن تقود القوى اليسارية والقومية الثورة التونسية على أرضية برنامج وطني ديمقراطي يحدد بدقة أهدافها  الاستراتيجية ، وهذا على شرط الاستيعاب والتعلم منها لا على شرط الوصاية والأبوة،  أصبحت هذه الجماهير المسحوقة والعفوية في المحافظات المهمشة والمحرومة من مشاريع التنمية ـ مستقطبة من قبل قوى الإسلام السياسي والتيارات السلفية المتشددة، المعادية لها استراتيجياً. وباتت هذه الطليعة اليسارية المشتتة تولد وتموت في المنفى، أو في صالونات المدن التونسية الكبرى، على هامش مدارس الاستهلاك الفلسفية .

وظلت الحركة الوطنية والثورية التونسية التي تعد أكثر من 15 تنظيماً ومنظمة وحزباً في مرحلة السبعينيات عاجزة ومتشرذمة تنظيمياً، وتعاني من التأخرالتاريخي والتخلف عن مواكبة حركة الشعب، وأصبحت تبحث بعد ثورة الشعب التونسي الأخيرة، وفي خضم الأبوة والوصاية والتشرذم والقتامة ـ عن حزبها السياسي الثوري، الذي ظل رضيعاً يحبو على الأرض. فبعد مرور ثلاث سنوات على الثورة، دخلت تونس عصراً جديداً شهدت فيه تغيرات، غيرت المشهد السياسي فيها بصورة جذرية، وفي مقدمة هذه التغييرات حرية تكوين الأحزاب بشكل جعل عددها يقارب المائتين. وبذلك انتقلت صورة الواقع السياسي من المطالبة بحرية تكوين الأحزاب إلى التساؤل عن وظيفتها، ودورها في الحياة السياسية الوطنية، في ظل هيمنة عدد من الأحزاب ضمن محاصصة كرّست سيطرة الإسلام السياسي متمثلاً في حزب النهضة الإسلامي، وأدخلت البلاد في تجاذبات وانقسامات زادت في تشويه صورة التعددية السياسية لدى الرأي العام الوطني.

وعلى الرغم من هذا الكم الهائل من التنظيمات والأحزاب اليسارية في تونس، يكتشف من يدرس تاريخها أنها متموقعة ضمن القوى الاحتجاجية السياسية والاجتماعية والتخندق المطلق في صفوف المعارضة الراديكالية، رافضة "الإقلاع" من إرهاصات الإيديولوجيات، باتجاه بلورة رؤية سياسية جديدة، تحشد القوى في إطار بناء حزب يساري كبير، ينشد الحكم، على الرغم من التجربة النضالية العريقة في تونس التي كثيرًا ما راهنت على التحديث السياسي والاجتماعي، وفتحت الآفاق، ولو نسبيًا، أمام الفكر الليبرالي، على حساب الفكر التقليدي المشدود إلى منطق المحافظة.
 
لم تنجز الأحزاب والتنظيمات اليسارية قطيعة منهجية مع التقليد، إنّها قطيعة مع الوعي المتأخر والمتخلف والمستلب، وليست قطيعة مع التاريخ، أو التراث أو الهوية، ولا هي قطيعة مع الشعب. إنها قطيعة اليسارالتونسي (حركة الوطنيين الديمقراطيين في شتّى تنظيماتها ومدارسها، وحزب العمال التونسي) مع المرجعية التقليدية لليسار، ثورة أكتوبر البلشفيّة في 1917، كأهمّ لحظاتها التأسيسيّة. 

فلماذا لا يزال اليسار التونسي الراهن يختار موروث الحرب الباردة للحظته التأسيسيّة لما تسمى الجبهة الشعبية، لا سيما أنّ المقولات الأيديولوجية والسياسية التي ارتبطت بالاشتراكية العلمية، والاتحاد السوفييتي، وأطروحات الثورات الوطنية الديمقراطية في العالم الثالث، خلال زمن الحرب الباردة، صارت خبراً للتاريخ، مع انتصار إيديولوجيا النيوليبرالية؟، فما هي مهمة المرحلة الجديدة، وما هي خصائصها؟ 

بقي اليسارالتونسي سنواتٍ طويلة في موقع المعارضة، لكن المسار الثوري مفتوح ليكون اليوم في موقع الحكم. لكن، تبقى الأسئلة القائمة: هل يمكن فعلاً لهذه التصورات اليسارية أن ترى النور في تونس؟ وهل بلغ هذا التيار النضج الكافي الذي يجعله يتعظ مما وقعت فيه الأحزاب السابقة؟ وهل هناك ما يدعم نجاح هذا المشروع، على المستويين، الداخلي والخارجي، أيضا؟

 

هيمنة المسألة السياسية على الفكر العربي، بادعائها أنها تحتكر الحقيقة العلمية للتاريخ الاجتماعي، وباستمالتها الفكر واستخدامه وأحياناً في جعله رهن الاعتقال، وتدجينه، وحتى التنكيل به، واختلال العلاقة بين الأيديولوجي والسياسي، يدفع الحوار السياسي بين القوى السياسية ذات التوجه اليساري والحركات الإسلامية على تنوعها إلى سجال أيديولوجي، تسود فيه الرؤية الحصرية.

 



إذا أردنا لليسارالتونسي أن يعيش،ويستمر عبرالقرن الواحد والعشرين،ينبغي عليه صوغ فكره وثقافته و سياسته على عكس فلسفة وإرث انحطاط الاشتراكية المشيدة ،التي أدت إلى ما نسميه النظام الشمولي المتناقض مع الحداثة والديمقراطية. وهو ما يستدعي إعادة بناء اليسار التونسي بمفهومه العصري خارج السلطة المرجعية للإشتركية المشيدة في القرن العشرين، وربطه بالقيم الديمقراطية الإنسانية، وبالتالي إندماجه واندراجه في تاريخ الحضارة الكونية.

اليسار التونسي يحتاج إلى العقلانية السياسية من أجل التحرر من الخطاب الشعبوي، وإقامة علاقات صحيحة وسليمة مع الحركات السياسية الأخرى التي تتبنى منظومات أيديولوجية قومية وإسلامية، ذلك أنه من أسوأ التقاليد التي كرستها الحركات السياسية العربية على اختلاف مرجعياتها الفكرية: الماركسية والقومية والإسلامية، هي انتهاج الخطاب الشعبوي الذي يهيمن عليه الطابع الأيديولوجي، والذي تكمن وظيفته في التسويغ والتبرير وطمس واقع الفروقات والاختلافات واللجوء الى التوفيق والتلفيق، والذي يفتقر إلى العقلانية، ويقلل من أهمية المسألة الفكرية ويحط من شأنها، ولا ينطلق من حقيقة أن الفكر العقلاني هو الذي يصنع التغيير الجذري وبالتالي يصنع التاريخ، ذلك أنه ليس ثمة من تاريخ ممكن من دون حركة الفكر.
 
ويظل التنازع بين المسألة السياسية الضاغطة بحجم وجودها، وثقلها في الخطاب السياسوي الشعبوي وبين الفكر العربي المعاصر قائماً، لأن السياسة في طبيعتها الأصلية، وهي تبحث عن التغيير، تخدم المصلحة طبقية كانت أم حزبية، بصرف النظر عن المشروع السياسي المنضوية في سيرورته، قد لا تستمد معاييرها من الحقيقة الموضوعية، في حين أن الفكر باستخدامه العقل العلمي والفلسفي، هو الذي ينتج التصورات الصحيحة والرؤى العلمية عن حقائق التاريخ الاجتماعية وعلاقاتها.

فهيمنة المسألة السياسية على الفكر العربي، بادعائها أنها تحتكر الحقيقة العلمية للتاريخ الاجتماعي، وباستمالتها الفكر واستخدامه وأحياناً في جعله رهن الاعتقال، وتدجينه، وحتى التنكيل به، واختلال العلاقة بين الأيديولوجي والسياسي، يدفع الحوار السياسي بين القوى السياسية ذات التوجه اليساري والحركات الإسلامية على تنوعها إلى سجال أيديولوجي، تسود فيه الرؤية الحصرية. وهي تمثل صياغة جديدة للأحادية والنظرة الإقصائية التي تحل نفسها محل الكل الاجتماعي، وتطرد الآخر من عالمها، ولا تنظر إلى الاختلاف والتعدد إلا على أنه كفر.

النظام الريعي والأوليغارشية الريعية في تونس

لم تكن رأسمالية الدولة التابعة خلال عقود الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، التي انساقت فيها تونس،خارج سياق علاقات الانتاج الكولونيالية. وكانت في الوقت عينه عملية تاريخية معقدة ومزدوجة، فهي من ناحية تجددت في سيرورتها البرجوازية الكولونيالية التقليدية في عملية الاستبدال الطبقي السياسي، لمصلحة تحررها الاقتصادي، وهي من ناحية أخرى ولدت بالضرورة التاريخية فرز طبقي داخل الطبقة المتوسطة التي حلت في السلطة السياسية محل البرجوازية التقليدية، حيث انفصلت تلك الشريحة العليا منها، التي تمتلك السلطة وتسيطر على جهاز الحزب والحكومة، عن سائر شرائح الطبقة المتوسطة، لتتحول في إطار من تجدد علاقات الانتاج الكولونيالية إلى فئة البرجوازية التكنوبيروقراطية الكولونيالية.وكانت النتيجة التاريخية لهذه التجربة أن حصل التماثل الطبقي، بين البرجوازية التكنوبيروقراطية الكولونيالية والبرجوازية الكولونيالية التقليدية، لتكون البرجوازية الكمبرادورية الجديدة.

لم يفض منوال التنمية في تونس إلى خلق طبقة بورجوازية محلية بالمعنى الماركسي للكلمة، أي طبقة رأسمالية تمتلك أدوات الإنتاج وتستغل اليد العاملة المحلية وتتنافس على الأسواق عبر تطوير الإنتاج والمخاطرة. بل إن هيمنة الأنظمة الاستبدادية على الحكم واستفحال الزبونية والفساد، أفرز طغمة غنائمية يقتصر دورها على التموقع على مقربة من مراكز القرار والاحتماء بالسلطة السياسية واستعمال أجهزة الدولة للتوسع اقتصاديا ولعب دور الوسيط للمستثمرين الأجانب لدخول السوق التونسية أو لاستغلال الموارد المحلية. وأصبح القرب من السلطة أسهل وأنجع وسيلة لمراكمة الثروة، خاصة مع تدهور قيمة العمل، وهي الظاهرة التي يصفها كريشان "بالريع السياسي".

غير أن الأزمة الاقتصادية والمالية العالمية لسنة 2008 ـ 2009، كانت لها تداعيات خطيرة على الاقتصاد التونسي، لجهة أنها كشفت بصورة جلية مأزق نمط التنمية المتبع في تونس طيلة العقدين الماضيين.

فقد ركز نمط التنمية هذا على ثلاثة قطاعات أساسية، هي:

ـ قطاع صناعة المنسوجات و الملبوسات الذي يعتمد على اليد العاملة الرخيصة.
 
ـ قطاع الصناعات الصغيرة والمتوسطة، الذي يقوم بتصنيع قطع الغيار الميكانيكية والكهربائية والالكترونية، التي تأتي مادتها الأولى من الخارج ثم تعود إليه، من دون الارتباط بحلقات إنتاجية أفقية.
 
ـ قطاع السياحة الذي يشكل مصدر الدخل الثالث من العملة العبة للبلاد، فهوموجهه لذوي الدخل المتوسط والضعيف من الأوروبيين. وفي ظل الأزمة العالمية التي تعيشها بلدان الاتحاد الأوروبي، تقلص عدد الوافدين من السياح الأوروبيين على تونس.

 

المورد الرئيسي الذي يعتمده هذا النظام لمراكمة الربح ذو طابع سياسي بامتياز ويتمثل في قرابة "الأوليغارشياالريعية" من السلطة المحلية ودخولها في علاقة "خذ وهات" معها. إنه نظام مبني بهدف تكثيف شكل خاص من أشكال الريع، وهو "ريع المواقع".

 



ويجمع الخبراء على أن هذه القطاعات في مجملها لا توفّر فرص عمل كافيةً للوافدين إلى سوق العمل مِمِّن هم على درجة عالية من التعليم. إضافة إلى ذلك، أن تونس تعتمد في النمو على سوق واحدة هي سوق الاتحاد الأوروبي التي تستوعب 80 في المئة من الصادرات التونسية، لكن الاتحاد الأوروبي ومنذ سنة 2008، يعيش في ظل الإسقاطات المدمرة للأزمة الاقتصادية والمالية العالمية، والنمو فيه لا يزال بطيئاً جداً، فضلاً عن أن بعض دوله أعلنت إفلاسها المالي، كاليونان، وأيرلندا... وهذا ما جعل الركود في الطلب الأوروبي ينعكس سلبياً بصفة آلية في الاقتصاد التونسي، إذ تجلى ذلك من خلال انكماش الاستثمار، بعد أن كانت تونس تتلقى مئات الملايين من اليورو على هيئة قروض من بنك الاستثمار.

يعتبر الكاتب عزيز كريشان أنَّ النظام الريعي القائم في تونس لا يستند إلى ملكية مادية أو فكرية، بل ينبني على منطق مخالف تمامًا لما عهدناه من الأنظمة الريعية الأخرى (التي ترتكز على موارد وفيرة للاستغلال كالنفط أو التكنولوجيا…). فالمورد الرئيسي الذي يعتمده هذا النظام لمراكمة الربح ذو طابع سياسي بامتياز ويتمثل في قرابة "الأوليغارشياالريعية" من السلطة المحلية ودخولها في علاقة "خذ وهات" معها. إنه نظام مبني بهدف تكثيف شكل خاص من أشكال الريع، وهو "ريع المواقع".

ويمتاز المنوال الاقتصادي التونسي بضعف قيمة العمل، والتقيُّد بأجندات خارجية والانسياق الأعمى وراء سياسات التبادل الحرِّ وتهميش القطاعات الطبيعية كالفلاحة، والتركيز على القطاعات الثانوية والريعية والاستنزافية، مثل السياحة. وهو منوال غير منتج ولا يخلق مواطن شغل، ومكبل للاقتصاد الطبيعي العضوي ومُفقر للعامة ومتسبب في كوارث اجتماعية صحية لا تحصى ولا تعد. 

إن إعادة النظر في المنوال الاقتصادي مسألة على غاية من الاستعجال والأهمية لكنها تعني مواجهة مباشرة مع الطغمة الرأسمالية الطفيلية المتمعشة منه التي لا مصلحة لها في تغييره، بل تعمل بنسق حثيث على الإبقاء عليه ومزيد تكييفه لصالحها.

من الواضح أنَّ استفحال جائحة كورونا (2020 ـ 2021) وتداعياتها الخطيرة مرتبطة بمنوال التنمية القائم في تونس، والذي وصل إلى طريقٍ مسدودٍ، ويحتاج إلى تغييره بمنوال تنميةٍ جديدٍ، لكنَّ عملية التغيير هذه تصطدم بطبقة رأسمالية طفيلية وفاسدة تقف على رأس النظام الاقتصادي الريعي ، هدفها المراكمة السريعة للربح والحفاظ على مواقعها وامتيازاتها. وهي تتكون من كبار رؤوس الأموال وثلة من المسؤولين الساميين، تحيط بهم شبكات علاقات في الدولة العميقة، والمنظمات والمؤسسات، ومحمية من قبل المنظومة السياسية الحاكمة منذ سنة 2011 ولغاية الآن التي تَدَّعِي زُورًا وَبُهْتَانًا أنَّها حاميَةٌ الثورة، لكنَّها في الواقع العملي هي منظومة سياسية متحالفة مع الفساد، والإرهاب، والاقتصادي الموازي (التهريب).

وترتبط هذه الطبقة الرأسمالية الطفيلية الفاسدة خارجيًا بالدوائر المالية وبالاقتصاد المعولم عن طريق شبكات التبادل الحُرِّ والعلاقات مع الممولين والبنوك والمستثمرين الأجانب، من داخل ومن خارج الدولة. مما يجعلها قناة للمصالح الخارجية في تونس. تَصْدُرُ عن هذه الطبقة الرأسمالية  الطفيلية أهم السياسات العمومية المالية والتنموية والتحفيزية والحمائية التي تتحكم في العلاقات الاقتصادية، وذلك مهما كانت نتائج الانتخابات كما لاحظناه في السنوات العشر الأخيرة.

على المستوى الاقتصادي، تتموقع هذه الطبقة الرأسمالية الطفيلية بالخصوص في ثلاث أصناف من الأنشطة: القطاعات الريعية البحتة كالصناعات الاستخراجية والاتصالات والمالية والتجارة المبنية على الملكية الفكرية، والقطاعات التي تستغل اليد العاملة الرخيصة كالنسيج والصناعات الغذائية والخدمات، والقطاعات التي تحتكرها الدولة أو تحفزها أو تمنعها. وهي إما قطاعات تتمتع بامتيازات ضخمة أو بحماية خاصة، مما يفسر تحولها في الأخير إلى قطاعات تولّد ريع المواقع.

تمتاز هذه الطبقة الرأسمالية الطفيلية الفاسدة بقُدرتها على تطويع القوانين لخدمتها وتكييف السياسات العمومية بما يخدم مصالحها، مُتماهية مع الهيمنة الخارجية. وهي تتموقع أيضا في أهم التمثيليات النقابية والأطر التفاوضية، والطبقة السياسية الحاكمة، وتلعب دورًا واضحًا في رسم السياسات الاقتصادية بما يخدم مصالحها ويقصي مصالح بقية الفئات الاجتماعية، ولعل كارثة جائحة كورونا كشفت عن الوجه القبيح لسياساتها. إذ تعتبر منبعا لا ينضب للفساد بكل أنواعه، وحاضنة لتبييض الأموال وبوابة للتهرب الضريبي كما بينته وثائق باناما وفضائح البنوك العمومية.

 

إقرأ أيضا: تاريخ أزمة اليسار الفكرية والنظام الريعي في تونس (1من2)