قضايا وآراء

أبو الحسن الندوي.. رحَّالة الفكر والدعوة

1300x600
تَحِلُّ في شهر كانون الأول/ ديسمبر من كل عام، ذكرى السيد أبو الحسن علي الحسني الندوي، العلامة المتفنن، والفقيه المحدِّث، والمؤرخ المتكلم، والداعية الرحالة؛ الحنفي مذهبا، الماتُريدي اعتقادا، والنقشبندي طريقة. وهو كذلك المفكر السياسي المتفَرِّد، الذي اشتهر برفضه القاطع للمركزيَّة التي أضفاها الإسلاميون على الممارسة السياسية في السياق الحديث، وأيقن بخطرها. ومن هذا الرفض عينه؛ صدر عزوفه التام عن ممارسة أي لون من ألوان السياسة الحزبيَّة.

ولِدَ داعية الهند في السادس من شهر محرَّم الحرام 1333هـ (5 كانون الأول/ ديسمبر 1914م)، في بيت علم وتقوى. يُرفع نسبه إلى حضرة سيدنا الإمام الحسن بن علي عليهما السلام، عن طريق محمد النفس الزكيَّة. كان شمال شبه القارة الهنديَّة من الأقاليم التي شَهِدَت هجرات منتظمة للسادة من آل بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وخصوصا لکھنؤ وكشمير؛ إذ كانتا من حواضر الهند التي اختلط فيها التسنُّن بالتشيُّع منذ قرون.

وقد توفي أبوه العلامة المؤرخ عبد الحي الحسني (عام 1923م)، وهو بعد في التاسعة؛ فعلَّمته أمه القرآن الكريم، ثم بدأ دراسته النظامية بتعلُّم العربية والأوردية والفارسيَّة بمساعدة شقيقه الأكبر؛ الذي كان يدرُس الطب آنذاك، بعد تلقيه لحصَّته من العلوم الإسلاميَّة.
المفكر السياسي المتفَرِّد، الذي اشتهر برفضه القاطع للمركزيَّة التي أضفاها الإسلاميون على الممارسة السياسية في السياق الحديث، وأيقن بخطرها. ومن هذا الرفض عينه؛ صدر عزوفه التام عن ممارسة أي لون من ألوان السياسة الحزبيَّة

وفي عام 1926م؛ التحق السيد بدار العلوم ندوة العلماء، وعلى مُحدِّثيها تلقى السنَّة النبوية. ثم التحق عام 1927م بالقسم العربي في جامعة لکھنؤ فكان أصغر طلاب الجامعة، حيث توسَّع في درس اللغة العربية وبعض الأدب الأوردي، قبل تخرُّجه في عام 1929م. وبين عامي 1928 و1930م توفَّر على دراسة اللغة الإنكليزية، وقراءة جمهرة مما كتب فيها عن الإسلام، وعن تاريخ الحضارة الغربية ومراحل تطورها. ثم أتقن الفارسيَّة إتقانا تامّا - وهي لُغة الإسلام وعلومه في الهند، قبل الغزو البريطاني - واطَّلَع على بعض مما جادت به قرائح أهلها، فضلا عن اطلاعه على قسط كبير من الفكر العربي آنذاك، بإشراف العلامة تقي الدين الهلالي المغربي. وقد انتقل عام 1932م إلى لاهور، ليتلقى طرفا من تفسير القرآن الكريم، ثم مكث بعدها شهورا في دار العلوم ديوبند؛ لتحصيل شيء من علوم السُّنَّة، وبعض الفقه والتجويد والتفسير.

وقد تعرَّف إلى أحوال البلاد العربيَّة وعلمائها وأدبائها ومفكريها، من الصحف التي كانت تصل إلى شقيقه وإلى دار الندوة. وفي مجلة "المنار"، التي كان ينشرها السيد رشيد رضا؛ سينشر الندوي أولى مقالاته وهو ابن سبعة عشر ربيعا (1931م) عن السيد أحمد بن عرفان الشهيد، الذي كان هو كذلك موضوع أول كتبه، المنشور عام 1938م. وبين المقال والكتاب، اختير الأستاذ للتدريس في ندوة العلماء عام 1934م، وصار مُعلِّما للتفسير، والحديث، والتاريخ، والمنطق، والأدب العربي. وقد تزوَّج رحمه الله في نفس العام، بيد أن الله تعالى كان قد زاده بسطة في العلم؛ ليُعوِّضه بها عن أولاد الصّلْب.

جاب الندوي حواضر الإسلام في الهند للمرة الأولى عام 1939م، وكان مولانا محمد إلياس الكاندهلوي (مؤسس جماعة التبليغ والدعوة) ممن التقاهُم في جولته؛ فتأثر به تأثُّرا عميقا، وأفاد منه إفادة عظيمة في فهم طبيعة العمل الدعوي والإصلاحي. وقد صار التطواف في ربوع العالم الإسلامي بعدها ديدنه، داعيا إلى الله ومحاضرا وسائحا إلى يوم وفاته؛ فألقى عشرات المحاضرات في شتى الجامعات، منها الجامعة المليَّة الإسلامية بدهلي، وجامعة دمشق، والجامعة الإسلامية في المدينة المنورة. وقد وثَّق وقائع هذه الرحلة الربانية وتفاصيلها، في عدد من كتبه ورسائله الماتعة.

وفي عام 1945م؛ اختير عضوا في مجلس إدارة ندوة العلماء، ثم نائبا لمدير شؤون التعليم عام 1951م بترشيح من العلامة السيد سليمان الندوي، ثم مُديرا للشؤون التعليمية عام 1954م على أثر وفاة الأخير، ثم سكرتيرا عامّا للندوة عام 1961م، بُعيد وفاة شقيقه الأكبر ومُعلمه الأول؛ الحكيم الدكتور عبد العلي الحسني.
كان رحمه الله غزير الإنتاج، إذ صدر له أكثر من خمسين كتابا، باللغتين العربية والأردية؛ أشهرها: "السيرة النبوية"، و"رجال الفكر والدعوة"؛ الذي كانت نواته محاضرات ألقاها في جامعة دمشق عام 1956م، بالإضافة إلى كتابه الأشهر على الإطلاق: "ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟"

وقد تجلَّى اتساع نطاق نشاط السيد في إصداره واضطلاعه بتحرير عدد كبير من الدوريات العربيَّة والأورديَّة، عدا ما اختير مستشارا له، بالإضافة إلى تأسيسه لعدد من الجمعيات العلميَّة والتعليميَّة الإسلامية، وعضويته رحمه الله في العديد من المحافل العلميَّة الكبرى، ومنها مثلا عضويَّة مجلس شورى دار العلوم ديوبند، وعضويَّة المجمع العلمي العربي بدمشق، وعضويَّة المجلس التأسيسي لرابطة العالم الإسلامي بمكة المشرفة. كما كان عضوا مؤازرا بمجمع اللغة العربية الأردني، وعضوا في رابطة الجامعات الإسلامية، ورئيسا لرابطة الأدب الإسلامي العالمية. ورغم أنه انضمَّ في شبابه إلى جماعة المودودي الإسلامية، وجماعة التبليغ والدعوة، إلا أنه سرعان ما تركهما؛ إذ لم تستطع أيهما استيعاب طاقاته.

كان رحمه الله غزير الإنتاج، إذ صدر له أكثر من خمسين كتابا، باللغتين العربية والأردية؛ أشهرها: "السيرة النبوية"، و"رجال الفكر والدعوة"؛ الذي كانت نواته محاضرات ألقاها في جامعة دمشق عام 1956م، بالإضافة إلى كتابه الأشهر على الإطلاق: "ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟"، الذي ألَّفه بين أعوام 1944 و1947م، وقدَّم له الشهيد سيد قطب مُثنيا على رؤيته ونهجه، ومتأثرا به.

ولم يتوقَّف عطاء السيد الطويل في سبيل خدمة دينه وأمَّته، إلا ساعة انتقل إلى جوار ربه في 23 رمضان 1420 هـ ق (31 كانون الأول/ ديسمبر1999م)؛ فلعلَّ الله يجمع في ما خطَّ يراعه الصدقة الجارية والعلم الذي يُنتفع به. اللهم لا تحرمنا أجره، ولا تفتنَّا بعده، واغفر لنا وله.

twitter.com/abouzekryEG
facebook.com/aAbouzekry