قضايا وآراء

النخب السورية وضحايا مدنيي القصف الأمريكي

1300x600
خلال أسبوعين نشرت نيويورك تايمز تحقيقين مطوّلين عما حرصت الإدارات الأمريكية على وصفها بـ"الأضرار الهامشية"، والمقصود بها الضحايا من المدنيين خلال عمليات قصفها لتنظيم الدولة في سوريا منذ عام 2014، يوم تشكل التحالف الدولي بقيادتها لقتال تنظيم الدولة، بينما رأس وأس وجوهر الإجرام السوري الذي تسبب بظهور تنظيم الدولة وغيره بقي طليقاً حراً يمارس هواياته بالقتل بالكيماوي والبراميل المتفجرة، وكل ما تفتقت عنه الذهنية الطائفية الإجرامية، ومعه استدعاء مليشيات طائفية واحتلالات أجنبية لضمان بقائه قاتلاً ومهجراً ومقتلعاً للشعب. ولم تكتف أمريكا بهذا، وإنما دعت ومعها القوى الغربية للتفاوض معه، واعتبرته شريكاً أساسياً ورئيساً في ما وصفته بعملية سياسية؛ قد تطول كما طالت عملياتها السياسية المعهودة في فلسطين وغيرها.

التحقيقان اللذان أجرتهما صحيفة نيويورك تايمز صادمين لكل من تابع ويتابع الشأن السوري، لا سيما وقد وثقت الصحيفة حين نقلت عن لاري لويس، مستشار البنتاغون والخارجية الأمريكية سابقاً في سوريا، ومؤلف تقرير ضحايا المدنيين في سوريا لعام 2018، وتكمن أهمية تقاريره في كونه المطلع المباشر على بيانات الضحايا المدنيين، حيث يقول وفقاً للتحقيق: "إن ضحايا المدنيين بسوريا نتيجة الغارات الأمريكية، يعادل عشرة أضعاف ضحايا القصف الأمريكي في أفغانستان، وإن أرقام هذه الضحايا أكثر مما تخيلت، وهي تزداد باضطراد، وقد هالني وصدمني ذلك".

تروي التحقيقات عن شهود عيان أمريكيين وغير أمريكيين حجم الإجرام الأمريكي في استهداف المدنيين في منطقة الباغوز بالجزيرة السورية، تحت ذريعة مقاتلة تنظيم الدولة، وكيف تم استهداف زورق يقلُّ مدنيين فارين من جحيم القصف في الرقة وهو يعبر نهر الفرات عام 2017 ما أدى إلى مقتل 30 مدنياً على متنه، دون أن يرف جفن للقيادات العسكرية والمدنية الأمريكية.
ضحايا المدنيين بسوريا نتيجة الغارات الأمريكية، يعادل عشرة أضعاف ضحايا القصف الأمريكي في أفغانستان، وإن أرقام هذه الضحايا أكثر مما تخيلت، وهي تزداد باضطراد، وقد هالني وصدمني ذلك

وتوثق التحقيقات كيف أن ما توصف بمجموعة "سندان تالون" المتخصصة بهذه الاغتيالات الجوية نفذت قتلاً بارداً لثلاثة مدنيين عام 2016 في منطقة منبج بريف حلب، على الرغم أن كل المؤشرات تؤكد أنهم مدنيون، إذ لم يكونوا مسلحين، وإنما كانوا يجنون محصول الزيتون في كرومهم. وعلى الرغم من احتجاج ضباط كبار في الاستخبارات الجوية بشكل سري على تصرفات وسياسات تلك المجموعة، لعدم اكتراثها لاستهداف المدنيين، كانت الآذان صماء تجاه دعواتهم واستنكاراتهم.

وقد قدّرت التحقيقات عدد الهجمات الجوية والصاروخية التي تعرض لها تنظيم الدولة في المنطقة منذ عام 2014 وحتى الآن بـ112 ألف ضربة.

وبينما كانت التحقيقات الأمريكية تنتشر، كانت عمليات القصف تتواصل في دير الزور اليوم (13 كانون الأول/ ديسمبر 2021). ووفقاً لسكان محليين، فإن الغارات وعمليات الخطف التي أصبحت معتادة تحت ذريعة مقاتلة تنظيم الدولة، استهدفت معلمين ومدنيين لا علاقة لهم بالتنظيم ولا بالعمل المسلح.

هذه البلطجة الأمريكية ومعها البلطجة الروسية والإيرانية التي تزاود على بعضها في الإجرام والقتل بحق الشعب السوري، يقابلها للأسف خرس وصمت أو جبن وخَوَر نخبوي سوري؛ إن كان على صعيد منظمات حقوقية، أو مراكز دراسات، أو على صعيد مثقفين وإعلاميين، ربما الكل يخشى إن هو انتقد أو حقق في هذه الانتهاكات، أن تسلط عليه القيادات الأمريكية سيفها المعروف بدعم ومساندة الإرهاب، ولذا يلوذ الكل تقريباً بالصمت، بينما من أوجب واجبات المنظمات الحقوقية الكشف عن هذه الجرائم وهذه الانتهاكات الخطيرة المتكررة منذ سنوات، وليس منذ أيام أو أسابيع أو أشهر.
ربما الكل يخشى إن هو انتقد أو حقق في هذه الانتهاكات، أن تسلط عليه القيادات الأمريكية سيفها المعروف بدعم ومساندة الإرهاب، ولذا يلوذ الكل تقريباً بالصمت، بينما من أوجب واجبات المنظمات الحقوقية الكشف عن هذه الجرائم وهذه الانتهاكات الخطيرة المتكررة منذ سنوات

للأسف حتى الآن لا نجد اهتماماً وتوثيقاً نخبوياً سورياً لمثل هذه الجرائم التي ارتكبتها القوات الأمريكية تحت شعار تنظيم الدولة، فلا معلومات حتى الآن عن عدد الضحايا المدنيين الذين سقطوا نتيجة الغارات الأمريكية المستمرة لسنوات، إلاّ ما نشر بشكل عام عبر هذين التحقيقين. أما النخب السورية من كتّاب ومراكز دراسات ومنظمات حقوقية ومؤسسات إعلامية، فضلاً عن معارضة، فغائبة تماماً، وكأنها تخشى من وصمها بالإرهاب إن هي تحدثت عن أضرار مدنية تسببت بها غارة أمريكية استهدفت إرهابيين مفترضين، كما حصل أخيراً في إدلب، حيث من كشف وقوع الخسائر المدنية في الغارة الأمريكية على شخصية تركت منظمة حراس الدين منذ فترة؛ كان الطرف الأمريكي وليس السوريين.

طوال الحرب الأمريكية على طالبان في أفغانستان، كانت الغارات الأمريكية من خلال طائرات بلا طيار لا تتوقف، وكانت باكستان في تلك الفترة حليفة واشنطن، ولكن ومع هذا نشطت منظمات حقوقية باكستانية في توثيق كل ضربة أمريكية وضحاياها، ولم تُرهبها التهديدات الأمريكية ولا الحكومية الباكستانية في مواصلة عملها التوثيقي. أما في الحالة السورية فللأسف نرى أن هذا غائب تماماً عن المنظمات الحقوقية، فليس هناك أحد من وثّق حجم الأضرار التي لحقت بالجزيرة السورية نتيجة الحرب الأمريكية على تنظيم الدولة، ولا أحد يعلم بدقة حتى الآن حجم التهجير الخطير الذي وقع على مناطق العرب السنة في تلك المنطقة، بسبب هذه الغارات.

كل هذا مسؤول عنه بشكل مباشر النخب، التي يُفترض أن تكون نخباً عضوية ملتحمة مع شعبها ومآسيه ومعاناته، لا تخشى طاغية ولا تخشى جبروت دولة كبرى أو صغرى، ما دامت توثق الحقيقة وتكشفها، وإلاّ فكيف استطاعت نيويورك تايمز وغيرها من وسائل الإعلام الأمريكية على اختراق هذه المساحات، بينما أصحاب القضية والأرض غائبون عن واجباتهم ووظائفهم.
أكثر ما تخشاه الدول وتحديداً الأنظمة الديمقراطية التي تحظى بإعلام ديمقراطي مستقل كحال الإعلام الغربي والأمريكي تحديداً؛ هو الحديث عن الضحايا المدنيين

أكثر ما تخشاه الدول وتحديداً الأنظمة الديمقراطية التي تحظى بإعلام ديمقراطي مستقل كحال الإعلام الغربي والأمريكي تحديداً؛ هو الحديث عن الضحايا المدنيين. ولا زلت أتذكر ويتذكر معي من تابع الأحداث حينها كيف أن نشر وبث صور الضحايا المدنيين للقصف الأمريكي في أفغانستان وباكستان والعراق على قناة الجزيرة وغير الجزيرة؛ كان أكثر ما يُزعج ويقلق المسؤولين الأمريكيين، ولا يزال، وبالتالي فالإعلام ومعه المؤسسات الحقوقية والمراكز البحثية، بكشفها الحقيقة تستطيع أن تلعب دوراً كبيراً في الدفاع عن الضحايا، وهي الآن مدعوة بشكل عاجل للتركيز على هذه المسألة، وعلى غيرها من ضحايا الإرهاب الروسي والإيراني والمليشيات الطائفية، كما تفعله اليوم هذه المليشيات في دمشق وريف حلب والبادية، حيث تضع المدنيين أمام خيارين؛ إما التشيع، والعمل معها كخدم وأجراء، أو التهجير، وهو ما جعل عشرات الآلاف من الأشخاص يفرون من بادية تدمر وأطرافها لوحدها.

النخب السورية وغيرها من النخب، لا يمكن أن تكون نخباً للشعوب، ما لم تتحرر من عقدة الخوف والمراقبة الذاتية وغير الذاتية، بحيث يكون الرقيب الوحيد أمامها ضميرها، ومعاناة شعوبها، وإلاّ فلا تنتظر هذه النخب أن تكون محل اقتداء واحتذاء ما لم تضحِّ من أجل الحقيقة. والنخب الحقيقية الملتحمة مع الشعوب وقضاياها، والناظرة إلى بعيد وليس إلى الآني، ولا إلى المصالح الشخصية أو الحزبية والفئوية، هي ما تفتقره الأمة، التي تنتظر قدوات حقيقية لا تخشى أحداً، وإنما تخشى أن يسائلها شعبها وتاريخها عمّا فعلته أو لم تفعله.