كتاب عربي 21

في القابلية للانقلاب

1300x600

صحيح أن الانقلابات التي عرفتها البلاد العربية في السنوات الأخيرة كانت ضربة قاصمة لمسار الثورات التي انطلقت من تونس في أواخر سنة 2010، لأنها انقلبت على مسار التغيير الذي انتظرته المنطقة طويلا. لقد أعادت الانقلابات شعوب المنطقة إلى مرحلة أخطر من مرحلة الخمسينيات وما لحقها من انقلابات عسكرية وضعت أسس النظام الاستبدادي المغلّف بمقولة الدولة الوطنية. 

إذا كان من المبكّر الحكم على مآلات الانقلابات الأخيرة في مصر وتونس وليبيا والسودان خاصة فإنها بلا شك تعمل على إعادة استنساخ الوضع القائم قبل ثورات الربيع مع استبطان الهدف الأساسي وهو منع كل احتمالات تجدد الثورات. لقد كانت الانقلابات مؤشرا على أن الثورات لم تكن قادرة على استكمال مسارها السياسي والاجتماعي والاقتصادي وهو الأمر الذي حكم عليها بالفشل وجعل إسقاطها أمرا ممكن التنفيذ.
 
لا ينجح أي تغيير سياسي سواء كان ثورة أو انقلابا إلا إذا توفرت له الشروط الملائمة في سياق اجتماعي واقتصادي خاص وهي الشروط التي لا يمكنه من دونها أن يحقق الهدف منه. ففي الحالة العربية فشلت الثورات أو بتعبير أكثر دقة فشلت الموجة الثورية الأولى ونجحت الانقلابات وهو ما يعني منطقيا أن الشروط التي توفرت لإنجاح الانقلابات لم تتوفر لإنجاح الثورات. هذه الحالات تمكن تسميتها "القابليّة للانقلاب" أو "قوّة القابليّة للانقلاب" و"القابلية للثورة" أو "ضعف القابلية لنجاح الثورة". 

في القابلية للثورة 

القابليّة مصدر صناعي لغةً ويعني الحالة القابلة للمجرور بعدها وهو الثورة فهو يصف وضعا قابلا لحالة ما مستجيبا لشروط حدوثها. كانت البلاد العربية في وضع قابل للانفجار الذي انطلق من تونس ثم امتدّ إلى عدّة أقطار فيما بعد. وهي أقطار استجابت إلى شروط الانفجار التونسي سواء بالمحاكاة عبر استنساخ المنوال الثوري أو بالفعل الذاتي عبر العدوى الثورية.
 
كثيرة هي الأطوار التاريخية التي توجد فيها المجتمعات في حالة تنذر بالانفجار بسبب تردي الأوضاع المعيشية أو بسبب القمع الأمني والاستبداد السياسي لكنها لا تنجح إلا في حالات قليلة في المرور إلى طور الثورة العارمة التي تتسبب في إسقاط النظام. فقد عرفت مجتمعات عربية كثيرة انتفاضات واسعة واحتجاجات عريضة على مدى تاريخها الحديث لكنها سرعان ما تخمد سواء بسبب ردة الفعل الأمنية أو بسبب انحسار المدّ الاحتجاجي ذاتياّ.

 

إن نجاح الانقلابات يعني أنّ المنطقة العربية ونخبها لم تكن مستعدّة تمام الاستعداد للانتقال الديمقراطي وأنها لم تبلغ مرحلة النضج التي تستطيع أن تتجاوز بها خلافاتها القديمة وارتهانها إلى الخارج لتؤسس بناء سياسيا جديدا. هذه الخلاصة تمثل أخطر حصيلة الربيع العربي وأهمّ دروسه التي إن تمّ استيعابها والبناء عليها فإنها ستكون الشرط الأساسي لنجاح الموجات الثورية القادمة

 



الثورة إذن هي الحركة الاحتجاجية الشعبية التي تنجح في إسقاط النظام القائم وهذا هو الهدف الأساسي الأول لكل ثورة. بناء على ما تقدّم فإن كل المقولات التي تنزع عن الربيع العربي صفة الثورة هي مقولات تجانب الصواب بل تستنقص من المنجز الثوري فتتجنى عليه بصفات تقلل من حمولته الشعبية وقدرته على إسقاط النظام.
 
الثورة مصدرها الشوارع والميادين حيث تنتهي حركة الثورة عندها فلا تتجاوزها إذ ليس مطلوبا من الثورة إنجاح المسارات الثورية في بناء ما بعد الثورة باستئصال النظام القديم ووضع نظام جديد مكانه. هذا الفعل هو فعلٌ ما بعد ثوريّ ويسمى "المسار الانتقالي" أو "المرحلة الانتقالية" التي ستحكم على الثورة بالفشل أو النجاح. الثورة الناجحة هي الثورة التي تُسقط النظام والمسار الانتقالي الناجح هو المسار الذي ينجح في التخلص من النظام القديم ويؤسس لنظام جديد مختلف عنه تماما.  

في القابلية للانقلاب

تحدث الانقلابات عادة في مسارات مختلفة عن المسارات التي عرفتها المنطقة العربية مؤخرا لأنها مسارات ثورية تعمل على التأسيس لنسق سياسي واجتماعي جديد. صحيح أن المسارات تشترك في خاصيات عديدة منها وضع الأزمة والاحتقان التي تسبق كل انقلاب لكن خصائص أخرى فارقة تميّز بين النسقين.
 
يحدث الانقلاب بخلاف الثورة من داخل النظام نفسه سواء بالقوة العسكرية أو بنوع آخر من القوى المادية أو المعنوية كما حدث في تونس وليبيا ومصر والسودان. فإذا كان مصدر الثورة خارجا مكانا عن نطاق السلطة أي في الشوارع والميادين فإن مصدر اندلاع الانقلاب لا يكون إلا من داخل السلطة نفسها.
 
من جهة أخرى تكون الانقلابات عادة وخاصة في المنطقة العربية مدعومة أو موجهة خارجيا لكنها لا تنجح إلا بواسطة الأدوات الداخلية والفاعل الداخلي. وهو الأمر الذي يجعل من القوى الداخلية شرطا أساسيا في إنجاح الانقلاب مهما بلغت قوّة توغّل الفواعل الخارجية أو تغوّلها.
 
لقد نجح الانقلاب المصري ضد ثورة يناير لا ضد تنظيم الإخوان كما تروّج لذلك أبواق النظام العسكري لأنه استفاد من فشل القوى المصرية السياسية والمدنية في تأمين الانتقال الديمقراطي. وهو تقريبا نفس الأمر الذي حدث في تونس وليبيا والسودان حيث فشلت النخب التي تولّت مسؤولية الانتقال الديمقراطي في تجميع قواها من أجل منع عودة النظام القديم.

 

يحدث الانقلاب بخلاف الثورة من داخل النظام نفسه سواء بالقوة العسكرية أو بنوع آخر من القوى المادية أو المعنوية كما حدث في تونس وليبيا ومصر والسودان. فإذا كان مصدر الثورة خارجا مكانا عن نطاق السلطة أي في الشوارع والميادين فإن مصدر اندلاع الانقلاب لا يكون إلا من داخل السلطة نفسها.

 


 
لقد كانت الدولة العميقة أعمق مما تصوّر الجميع وهي التي بقيت ممسكة بمفاصل الإدارة والأمن والجيش والاقتصاد والمجتمع المدني وخاصة الإعلام فاستفادت من قلّة خبرة الثوار الجدد لتدفع بالتجربة الوليدة نحو الفشل فتجهز بذلك على ما بقي منها. لم تدرك القوى الثورية أنّ أوّل شروط نجاح الثورة هو استئصال كل أسس النظام القديم وتفكيك مكوناتها داخل الدولة والإعلام والاقتصاد وتقديمها للمحاكمة.
 
لقد استهنت قوى الثورة بقوة الدولة العميقة وقدرتها على التجدد وسط أجواء النشوة الثورية بشكل سمح لكثير من المندسّين أن يتبوّؤوا مناصب قيادية وأن يعيدوا النظام القديم إلى دفّة السلطة بفعل الانقلاب. لم يكن الانقلاب ممكنا لو لم تتوفر له الشروط الملائمة لينقض على الثورة من داخلها لا من الخارج مستفيدا من حالة الفوضى التي أعقبت سقوط واجهة النظام.

بناء على ما تقدّم فإن نجاح الانقلابات يعني أنّ المنطقة العربية ونخبها لم تكن مستعدّة تمام الاستعداد للانتقال الديمقراطي وأنها لم تبلغ مرحلة النضج التي تستطيع أن تتجاوز بها خلافاتها القديمة وارتهانها إلى الخارج لتؤسس بناء سياسيا جديدا. هذه الخلاصة تمثل أخطر حصيلة للربيع العربي وأهمّ دروسه التي إن تمّ استيعابها والبناء عليها فإنها ستكون الشرط الأساسي لنجاح الموجات الثورية القادمة والتي لن تتأخر طويلا لأنّ شروط الانفجار لاتزال قائمة بل إنها ازدادت قوة.