قضايا وآراء

مركزيَّة مصر وتديُّنها

1300x600
سلَّطنا الضوء -في مقالنا السابق- على بعض روافِد التديُّن المصري، في محاولةٍ منَّا لفهم ماهيته وطبيعته، وفي هذا المقال ننتقِلُ إلى الخطوة التالية في عمليَّة الفهم، وهي السعي لسبر أغوار العلاقة بين مركزيَّة مصر لعالم الإسلام، وطبيعة تديُّنها.

لقد تسبَّب تغيُّر طُرق التجارة، مع تعرُّف الأوروبيين إلى رأس الرجاء الصالح (1488م)، في صدمة اقتصاديَّة واجتماعيَّة وسياسيَّة للمجتمع المصري؛ أدَّت إلى اضطراب دوره الأممي، وهي الصدمة التي أفْضَت إلى انهيار السلطنة المملوكيَّة، وانفتاح البلد للعُثمانيين (1517م)، بوصفهم القوى المسلمة الوحيدة التي كانت مؤهَّلة -آنذاك- لوراثة مُلتقى الطرق الإسلامي، وتأخير التغلغُل الأوروبي في المشرق العربي، فقد كان إخفاق المماليك -آخر أمرهم- في التصدي للأوروبيين؛ إيذانا بفسخ عقد حكمهم، ونقله إلى من يستطيع الاضطلاع بدورهم من أبناء عمومتهم من سلاطين العسكر.

وإذا كانت المركزيَّة السياسيَّة والعسكريَّة للدولة العُثمانيَّة الفَتيَّة قد "سرقت الأضواء" من مصر مؤقتا طوال ثلاثة قرون -وحتى الحملة الفرنسيَّة (1798م)، التي كانت إيذانا بفسخ عقد العثمانيين- كانت المواجهة العسكرية مع الغرب على أشُدَّها؛ فإن المواجهة التي نجح فيها العثمانيون عسكريّا بادئ أمرهم، قد فشلوا فيها ثقافيّا على طول الخط، ومن ثم استمرَّت أهميَّة مصر الثقافيَّة ودورها في التذَبذُب -بغير انقطاعٍ- إبَّان الوجود العثماني، ولم يكن السبب المركزي لذلك -عندنا- إلا عروبة مصر، ونفور العُثمانيين العملي من التعرُّب (بما في ذلك عبد الحميد الثاني نفسه)، وعدم جديتهم فيه، علاوة على انشغالهم شبه الكامل بالحياة العسكريَّة، حتى بزوغ ما سُمي بعصر التنظيمات. ومن ثم؛ فلا نُغالي إذ نذهب إلى أن الأستانة العليَّة قد صارت العاصمة السياسيَّة لديار الإسلام فحسب، وإن ظلَّت القاهرة -إلى حدٍّ كبير- هي العاصمة الثقافيَّة طوال فترة الازدهار العثماني.
لا نُغالي إذ نذهب إلى أن الأستانة العليَّة قد صارت العاصمة السياسيَّة لديار الإسلام فحسب، وإن ظلَّت القاهرة -إلى حدٍّ كبير- هي العاصمة الثقافيَّة طوال فترة الازدهار العثماني

ويبدو أن الفرمان الذي جعل من "إيالة مصر" خديويَّة شبه مستقلة (عام 1867م)، كان إيذانا ببدء استعادة مصر لسائر عناصر هذا الدور المركزي بتمامه، حتى إن السيد جمال الدين الأفغاني -قدَّس الله روحه- سيمكُث في مصر الخديوية (1871-1879م) مُدَّة أطول مما أمضاه -بإرادته- في عاصمة العثمانيين وحاضرة "الخلافة" العَليَّة، ثم سيُصدِرُ -لاحقا- جريدة "العروة الوثقى" في باريس (عام 1884م)؛ للدفاع عن مصر واستقلالها في مواجهة البريطانيين، مُبينا أهمية هذا القُطر ومركزيته لعالم الإسلام.

وقد تزامَنت استعادة هذا الدور المركزي مع استكمال حفر قنال السويس (افتُتحت في عام 1869م)، التي سعى الخديوي إسماعيل إلى جعلها وسيلة لاستعادة مصر مركزيتها الاقتصاديَّة، التي فَقَدتها بسبب تغيُّر طرق التجارة، وبقطع النظر عن المآلات الاقتصاديَّة الكارثيَّة لسياسات إسماعيل، فقد كان افتتاح القنال بداية الانفصال الاقتصادي لمصر الحديثة عن الدولة العليَّة، كما كانت الحملة الفرنسية بداية الانفصال السياسي، وكان بناء محمد علي لجيشه بداية الصعود العسكري.

وإذا كان الفرمان المذكور قد شَرَعَ يستعيد لمصر مكانتها الدينيَّة والفكريَّة والثقافيَّة، حتى هاجرت إليها أعداد ضخمة من الشوام المشتَغِلين بالصحافة والطباعة والنشر؛ فمن المقطوع به أن استقرار السيد الأفغاني فيها -ما يقرُب من العقد- قد رسَّخ ذلك الوضع، وأكَّد ما انبنى عليه، خصوصا حين ارتبطت نشاطاته الدعوية والسياسيَّة اللاحقة بمصر، وجعلَت منها مركزا للحركة الجديدة، وصار أشهر تلاميذه مصريّا. وإن المطالع لجريدة "العروة الوثقى"، ولجمهرة إنتاج السيد، يُدرِكُ أنه لم يكن واعيا بهذه المركزيَّة عاملا على ترسيخها فحسب، وإنما كان يسعى جاهدا لتقعيد جديد (نظري-حركي)، يجعل من مصر أنموذجا قياديّا حقيقيّا لعالم الإسلام، بيد أن الأجل لم يُسعِفهُ لإتمام ذلك، ولا حَفِظَ "تلامذته" خطهُ ولا ساروا على هديه. بل إننا نذهب إلى أن انحرافهم عن طريقه قد بلغ مداه بعد وفاته بأقل من عقدين؛ فكان ما نُسميه بـ"الإحياء السلفي" -رشيد رضا ومحب الدين الخطيب، وجيلهما- نكبة حقيقيَّة؛ دقَّت مسامير كثيرة في نعش هذه المركزيَّة، واستمرَّت الكارِثة في التفاقُم، حتى بلغ الصراع بين الإخوان المسلمين وعبد الناصر ذروته، مما أفضى إلى توظيف الإخوان لشبكتهم العالميَّة في "نقل" المركزيَّة -الفكريَّة والدينيَّة- والنموذج القيادي إلى راعيهم آنذاك: المملكة السعوديَّة الفتيَّة.
استمرَّت الكارِثة في التفاقُم، حتى بلغ الصراع بين الإخوان المسلمين وعبد الناصر ذروته، مما أفضى إلى توظيف الإخوان لشبكتهم العالميَّة في "نقل" المركزيَّة -الفكريَّة والدينيَّة- والنموذج القيادي إلى راعيهم آنذاك: المملكة السعوديَّة الفتيَّة

بيد أن الباحث المحقق في تاريخنا الفكري والثقافي والديني؛ يُدرِكُ أن "دور" الإقليم أو الشخص القائد لا يُمكن أن يَنتَقِلَ إلى غيره بقرار سياسي أو "تنظيمي"؛ فإن شخصيَّة الإقليم وطبيعة الأنماط الفكريَّة والتاريخيَّة التي تكشفها تجربته، هي المحدِّد الحقيقي لإمكان اضطلاع إقليم -أو فرد أو جماعة بشريَّة- بدور قيادي تاريخي. وإذا أقررنا بأن هجرة الإخوان إلى السعوديَّة قد أسهَمَت -مع مغامرات النظام الناصري وحماقاته- في خنق مصر، وإجهاض قيادتها؛ فصبَّت جهودهم مُجتَمِعة في دعم دعوى السعوديَّة، باستلام زمام هذه القيادة؛ فإن الناظر إلى حركة هذا التاريخ خلال العقود الأخيرة، ومنذ "انتقال" هذه القيادة (بين 1960-1970م)؛ يجد أن ما حدث لم يكن انتقالا حقيقيّا للقيادة، وإنما مجرَّد إزاحة لمصر، وخنق للتيارات التي تمر عبرها، وخلق لحالة من "الفراغ"، تسمح لأي قوى صاعِدَة بأن تدَّعي القيادة، حتى إن كانت مُنغَلِقَة تَلِغُ في الغلو، وليست مؤهلة بطبعها لذلك.

ولن يجرؤ مُنصفٌ على إنكار هيمنة حالة عامَّة من اليبوسة الفكريَّة، والتجلُّط الاعتقادي، والجفاف الروحي، والاضطراب النفسي، بسبب تسلُّط "قيادة" مشبعة بعناصر غلوّ مزعجة، فكأنها خنقٌ لتيارات الفكر الإسلامي، وسد عنيد تتكسَّر فوقه أكثر تياراته بدل تلاقُحها؛ ليصُبَّ هذا الإجهاض المستمر -والمتعمَّد- في زيادة غلو النموذج الذي تطرحه السعوديَّة وانغلاقه على نفسه، حتى ضجَّ به أصحابه أنفسهم، وقرَّروا تحطيمه مؤخرا، والتخلُّص منه ومن تكاليفه الباهظة كافة؛ ليرتدَّ غلوهم من الإفراط المزعج إلى تفريط مُخيف يُدهِشُ الكثيرين، فكأنه آت من عالم آخر!
إذا كانت المملكة الفَتيَّة، التي حازَت بعض لُباب العروبة وأصولها، وشرَّفها الله بالحرمين؛ قد عَجزَت عن أداء هذا الدور، فإن تُركيا عنه أعجَز؛ لعُجمتها وتمركُزها حول الذات القوميَّة، ودع عنك تغلغُل الوجدان العلماني. وقُل مثل ذلك في إيران، باختلافات طفيفة

وفي الوقت نفسه، يسعى الهاربون -من الإخوان وسائر الإسلاميين- إلى تركيا إلى تكرار تجربة سلفهم مع السعودية، بغير إدراك لاختلافات اللحظة التاريخيَّة، ولافتقاد تركيا الطبيعي والبدهي لمقوِّمات هذه القيادة، مهما أبْدَت حكومتها من دعم سياسي "مُخلِصٍ" للقضايا الأممية، ومهما حاوَلَت قلب مفعول السياسات الكماليَّة، فإن أعظم ما تطمح إليه سلطة كهذه؛ هو العودة المستحيلة إلى "عظمة" الإطار العثماني، وهو الإطار الذي افتقَدَ -في ذروة مجده- مقومات القيادة الفكريَّة والدينيَّة والثقافيَّة كافة لعالم الإسلام، مهما تورَّم تأثيره!

وإذا كانت المملكة الفَتيَّة، التي حازَت بعض لُباب العروبة وأصولها، وشرَّفها الله بالحرمين؛ قد عَجزَت عن أداء هذا الدور، فإن تُركيا عنه أعجَز؛ لعُجمتها وتمركُزها حول الذات القوميَّة، ودع عنك تغلغُل الوجدان العلماني. وقُل مثل ذلك في إيران، باختلافات طفيفة. ومهما أبدى سلاطين القُطرين من سياسات "عاطفيَّة" تخدم الإسلام وتُحابي أهله، فإن العُجمة المتأصِّلَة ستظلُّ سدّا يحول بينهما وبين هذه القيادة، بل ستظل هذه العُجمة -شبه الشوفينيَّة- مؤججا لرغبتهما في دور مصري، لا يُحقق التوازن بين الإمبراطوريتين لحساب عالم الإسلام فحسب، بل يكبح جماح عُجمتهما، ويوظِّفُ جنوحهما؛ إذ يُمسك بمقاليد الثقافة الإسلاميَّة في منطقة متوسطة تنأى عن الإفراط والتفريط، وهي إمكانيَّة ممكنة مقدورة، حتى إن كان هذا الفاعل في أضعف حالاته السياسيَّة.

وللحديث بقيَّة، إن كان في العُمر بقيَّة!

twitter.com/abouzekryEG
facebook.com/aAbouzekry