قضايا وآراء

التطبيع واجتماع النقب الصادم

1300x600

وصفَ الشيخ كمال الخطيب نائب رئيس الحركة الإسلامية في الداخل الفلسطيني الوزراء العرب المشاركين في قمة النقب، بـ"الأنذال وأشباه الرجال". وهو وصف غاضب، فمن استمع إلى كلماتهم التي ألقوها على مسامع يائير لابيد وزير خارجية الكيان الصهيوني، يحس بإحساس غريب هجين، بعيد عن قيم العربي وشيمه؛ حيث يتجلى الهوان في أجلى صوره الممكنة..
 
لم يعد الأمر مجرد موالاة للعدو، بل تجاوزه إلى الاستسلام، وبذل كل دنيّة ممكنة في سبيل إرضاء العدو التاريخي، ومن ذلك معاداة الأخ الضحية والتنكر له، والتضحية بقضيته، لا بل المشاركة الفاعلة في كسر شوكة المقاومة وتثبيت المزاعم الصهيونية في حقها باغتصاب ما تبقى من أرض يقف عليها الفلسطينيون، بعد أن ابتلع الكيان الغاصب الغالبية العظمى من أراضيهم، وبعد أن اعتدى على المقدسات ودنسها وقتل المدافعين عنها أو اعتقلهم أو منعهم من الصلاة في ثالث أقدس الأقداس في العقيدة الإسلامية.

أريد فقط أن أفهم حالة الخذلان التي حملتها كلمة وزير الخارجية الإماراتي، وأن أستطيع إقناع نفسي بأن ذلك ممكن الحصول بكل هذا القبح وهذه الرداءة؛ حيث لم يسبق لمسؤول عربي من أي مستوى أن أبدى مثل هذا التواطؤ على نفسه وشعبه وأمته وعلى القضية المركزية للأمتين العربية والإسلامية، على المكشوف، وبكل هذا التنكر الباعث على الاشمئزاز وقشعريرة الضلوع.

 

إن مجرد قبول وزراء الخارجية العرب الأربعة عقد الاجتماع في النقب يؤشر على انهيار قيمة العروبة بكل ما تحمل من أرث ومعنى وقيمة. أما الدين، فقد ودّعوه منذ زمن، ولم يعد ثمة وجود له في قلوبهم التي طمس الله عليها؛ جراء ما طبعوا وخانوا وهانوا وأهانوا..

 



مهما تكن الدوافع وراء ما كان في اجتماع النقب؛ فلا شيء يبرر كل هذا الانبطاح.. فما كان من كلمات الوزراء العرب أهان الأمة جمعاء، وأعطى انطباعا كارثيا عن العربي وإمكانية استسلامه وانهيار قيمه دفعة واحدة وبكل هذه البساطة؛ فما فعله الوزراء العرب هو تماما ما يمكن أن يفعله حاكم هزيل بعد أن يحتل عدوٌّ وطنه، فينهار ويقر بالسيادة للعدو، ويقدم فروض الطاعة، ثم يرجو المحتل أن يحفظ عليه حياته وحياة أهله وبنيه..!!

هكذا بدا وزراء الخارجية العرب مستسلمين دفعة واحدة، وهم يقدمون فروض الطاعة، وبذل ماء الوجه على مذبح التطبيع المهين، بكل ما يحمل ذلك من معان ودلالات..
 
أحاول البحث عن مبررات حقيقية لما حدث، فأتساءل: هل هو الاستنجاد بالكيان الصهيوني في مواجهة استحقاقات دولية جراء المؤامرات والتحركات غير القانونية التي لعبتها الإمارات في الولايات المتحدة وأوروبا من تنصت على هواتف مسؤولين وإعلاميين، ومن رشاً وُضعت في كل جيبٍ سياسي ممكن، ومن تدخل في قرارات بعض الساسة الغربيين بالإغراء بالمال؟ فهل المطلوب من لابيد أن يعمل على تحسين صورة أبوظبي في الولايات المتحدة؟ أم هو طلب الحماية من إيران لحفظ أمن الإمارات والبحرين؟ أم هو استحقاقات يفرضها الانخراط في جمعيات سرية دولية؟ وهنا أعني الماسونية تحديدا تلك الجمعية السرية التي بات كثيرون يهربون من الإشارة إليها علانية، مع أنها وراء كل كوارث أمتنا وخيانة حكامنا، وخراب بلادنا.. وهل المطلوب لتحقيق بعض المصالح أن يصل الأمر هذا الحدّ من الهوان الذي لم يكن أحد يتخيل حدوثه؟!

لقد استضاف لابيد وزراء العار العربي في منطقة النقب الفلسطينية التي تتعرض لأسوأ عملية تهويد، وتواجه عدوانا صهيونيا ضد الأرض والهوية، في محاولة لتهويد المنطقة وطرد أهلها منها على مرأى من العالم ومسمع.. إن مجرد قبول وزراء الخارجية العرب الأربعة عقد الاجتماع في النقب يؤشر على انهيار قيمة العروبة بكل ما تحمل من أرث ومعنى وقيمة. أما الدين، فقد ودّعوه منذ زمن، ولم يعد ثمة وجود له في قلوبهم التي طمس الله عليها؛ جراء ما طبعوا وخانوا وهانوا وأهانوا..

كانت البداية بلقاء الوزيرين يائير لابيد وعبد الله بن زايد، وقد كان لقاء حميما، كأنه لقاء أخوين توأمين بعد غياب طويل، فقد تعانق الاثنان عناق الود والوئام والحميمية؛ ليعلق مواطن إماراتي على صورة العناق بالقول: "سيدي سمو الشيخ عبدا لله بن زايد آل نهـيان وزير الخارجية والتعاون الدولي والوزير الإسرائيلي حفظهم الله ورعاهم"، فقد وصلت الفاجعة إلى أن يدعو الإماراتي لواحد من أعدى أعداء الأمة من لصوص التاريخ والجغرافيا بحفظ الله ورعايته؛ فأي مصيبة هي؟!

وفي كلمته قال عبد الله بن زايد: "من المؤسف أن الإمارات خسرت 43 عامًا منذ أن قامت مصر بتطبيع علاقاتها مع إسرائيل"، وأضاف قائلا للابيد: "أنت صديق ولست مجرد شريك"، وفي البيان الختامي للاجتماع سيئ الذكر دان وزراء خارجية الإمارات ومصر والبحرين والمغرب العملية الفدائية التي أدت إلى مقتل شرطيين على أيدي فلسطينيين، بينما لم يشر البيان ولا تصريحات أي من الوزراء (العرب) إلى جرائم قوات الاحتلال الغاشم. أو إلى الكارثة التي يعاني منها أهل النقب أين عقد الاجتماع الآثم، حيث يخوض بدو المنطقة صراعا وجوديا مع قوات الاحتلال التي تعمل على طردهم من أراضيهم التي يقيمون فيها منذ العام 1948.

 

ها نحن اليوم نرى بأم أعيننا نتائج هذا التقارب المذل، حيث التنكر لكل القيم العربية والإسلامية، بعد أن تم إلقاء بوصلة (النوخذة) الخليجي في مياه المتوسط، لتنضم إلى عشرات البوصلات التي رميت في البحر المتوسط منذ النكبة الأولى حتى اليوم..

 



لم تكن مواقف الوزراء الآخرين بأقل سوءا من موقف وزير الخارجية الإماراتي، فقد حلق الجميع في فضاء الارتهان لإرادة العدو بشكل مؤسف ومريع، يؤشر على كواليس وخلفيات تواطؤ وانحدار يصعب فهمه، خصوصا حين يكون بهذا المستوى المفاجئ والصادم، فما كان من لقاءات واجتماعات وتحركات سبقت اجتماع النقب لم تكن كافية للتقليل من حجم الصدمة التي أصابت المراقبين للحدث.

حين بررت دولة الإمارات التطبيع والتطور المتسارع في علاقاتها الاستثنائية بالكيان الصهيوني بأنها جاءت لتذليل العقبات أمام الفلسطينيين والصهاينة وأنها تصب في صالح القضية الفلسطينية؛ طبل المهرج الإعلامي الخليجي وبعض العربي لهذا الهذيان، وتم استغلاله من قبل الذباب الإلكتروني بشكل يبعث على السخرية. وقد ضحكنا وقت إذْ على هذه التبريرات وسخافة المنطق الذي جاءت في سياقه.

وها نحن اليوم نرى بأم أعيننا نتائج هذا التقارب المذل، حيث التنكر لكل القيم العربية والإسلامية، بعد أن تم إلقاء بوصلة (النوخذة) الخليجي في مياه المتوسط، لتنضم إلى عشرات البوصلات التي رميت في البحر المتوسط منذ النكبة الأولى حتى اليوم..

نحن لا يمكن لنا أن نتفهم مطلقا أية عملية تطبيع تقوم بها أية دولة عربية، وكل ما يمكن أن نفهمه أن ثمة شعوبا عربية عصية على الاستسلام لإرادة الخونة. ومن يظن أن شعب الإمارات أو البحرين أو مصر أو المغرب أو السعودية راض عما يحدث فهو واهم ولا يعرف طبيعة المجتمعات العربية والخليجية جيدا، حيث يظن كثيرون أن الشعب الخليجي منهمك بالرفاهية ودعة العيش، ولا تعنيه قضية فلسطين، ويظنون أن بضعة مئات من الذباب الإلكتروني هم الشعب الخليجي؛ ذلك أنهم لا يعرفونه عن قرب لأنهم لم يعيشوا في الخليج، ولم يتعرفوا إلى وعي أبنائه وعزة أنفسهم وسمو أرواحهم وثبات مواقفهم. ولو أتيح للشعب الخليجي التعبير عن نفسه في استطلاع محايد آمن، لعرفنا أنه أجلّ بكثير مما يتصور بعضنا.

وفي حين ترفض الغالبية العظمى من الشعب العربي عملية التطبيع التي بتنا نفهم طبيعتها، ورأينا مخرجاتها في التطبيع المصري والأردني سابقا، حيث اعتدنا على مضامينها ومقتضياتها، إلا أن التطبيع الإماراتي والبحريني والمغربي مختلف عن كل ما كان، فهو ليس مجرد تطبيع، بل هو انصهار سياسي ومحاولة لإلحاق الاجتماعي به، ليصبح التطبيع تلطيخا لكل قيمة عروبية أو إسلامية لصالح الفكر التلمودي.

لقد بلغ السيل الزبى، وآن أن يعود إلى مساره الطبيعي.. وآن للشعوب العربية أن تنتفض من جديد، فلم يعد السكوت ممكنا..!!