مقالات مختارة

أعداء الشعوب

1300x600

لكل الدول في مختلف العصور أعداء، وتحدد الدول معالم سياساتها وفقا لحالة التحدي التي يفرضها العدو، المتربص الذي يستعد للانقضاض في أي لحظة مواتية، ومن أي ثغرة طارئة.


ثمة عدو واحد على الأقل يقض مضاجع أي دولة، وأحيانا أكثر من عدو بدرجات متفاوتة. وعلى سبيل المثال في زماننا، كان الإرهاب هو العدو لأمريكا خلال العقدين الماضيين، ثم أصبحت الصين وروسيا هما العدو. والصين هي العدو بالنسبة لتايوان، وغالبا ينشأ العداء بسبب الجوار المتوتر. تركيا واليونان، هندوراس وسلفادور. بيرو وأكوادور. أرمينيا وأذربيجان. الهند وباكستان. السعودية وإيران. 


وثمة نظرية في السياسة تشترط وجود العدو لتستمر الدولة في البقاء، فالعدو هو الذي يفرض التحدي على الدولة لتبقى في حالة تأهب ويقظة، قادرة على حشد الشعب خلف معركة مصيرية مستدامة. عقب سقوط جدار برلين قال مستشار الرئيس السوفياتي غورباتشوف ألكسندر أرباتوف موجها كلامه للدول الغربية: سنقدم لكم أسوأ خدمة، سنحرمكم من العدو. 


 اهتم المفكرون والخبراء الاستراتيجيون بحالة العالم في العقود التالية لسقوط الأنظمة الاشتراكية، وانتصار دول الغرب الرأسمالي من زاوية الأعداء والحلفاء، فكرة العدو كانت حاضرة بقوة، فالصدام التالي سيكون بين الحضارات السبع الرئيسية حسب نظرية هنتنغتون. 


 ثمة عدو مختلف بالنسبة لغالبية شعوب العالم الثالث، قادر على إيقاع ضرر كبير على الدول والشعوب، وإبقائها في حالة التخلف والتبعية. وهو أكثر خطورة من العدو الخارجي الصريح، هذا العدو هو مؤسسة الجيش حين تتخلى عن دورها وتتحول لممارسة السياسة، بالحكم المباشر عقب الانقلابات، أو غير المباشر بإدارة شؤون البلاد خلف واجهة مدنية لا تملك إلا قدرا محدودا من الصلاحيات، وبسيطرته على السلطة، يشطب الجيش العمل السياسي، ويسلب الشعب حقه في اختيار قياداته، وتصادر الحريات، وتمنع الاحتجاجات بفرض قوانين الطورائ، وغيرها من الإجراءات التعسفية، لتحصين السلطة العسكرية من أي خطر يمكن أن يتهددها.

 

إن جوهر الصراع الدائر في منطقتنا العربية منذ عقود هو نضال ضد العسكر وسيطرتهم على مقاليد السلطة من دون أي مشروع وطني حقيقي ينهض بالبلاد ويحررها من الهيمنة والتبعية

في كل دول العسكر يشكل القادة وكبار الضباط طبقة ببناء هرمي تستحوذ على كل الامتيازات، وتمتد سيطرتها إلى الاقتصاد والصناعة والتجارة والإعلام، لتصبح كل مؤسسات الدولة في قبضة العسكر، ثم يعاد تنظيمها لتخدم أجندتهم واستمرارهم في السلطة. 


تزعم الدساتير والمناهج المدرسية أن الجيش هو حامي الوطن، والشعب والحدود ومؤسسات الدولة والدستور الخ، ويصدح فحول الشعراء ويشدو المغنون بعظمته وإنجازاته الجبارة. مجرد كلمات فارغة من أي مضمون حقيقي، ولا تعكس الحقيقة التي باتت من المسلمات اليقينية، وهي أن خراب الدول وتخلفها وانهيارها، إنما يقع في هذا العصر بسبب رئيسي هو تدخل الجيش في السياسة، وليس المقصود هنا مشاركة الجيش مع باقي مؤسسات الدولة في حالات الخطر، كوقوع عدوان خارجي، أو حلول كارثة طبيعية تستدعي تظافر كل الجهود، ليصبح القرار مسؤولية جماعية يشارك فيه الجميع، أما في الأحوال الاعتيادية فلا شأن للجيش بإدارة شؤون الدولة.


الأمثلة أكبر من الحصر على حالة تخلف البلدان حين يتولى الجيش شؤونها السياسية. كل دول أمريكا اللاتينية وأغلب دول آسيا وأفريقيا، ومنطقتنا العربية تعد نموذجا مثاليا ومختبرا حيا على المأساة التي صنعها حكم العسكر. فالواقع أن مؤسسة الجيش إذا انحرفت عن مهامها وأهدافها واستولت على الحكم تصبح هي العدو الأول للشعب.


لنتأمل تهديدات وردت في بيان أصدره ضباط النصف التابع لحفتر في اللجنة العسكرية، الذين يزعمون أنهم يمثلون الجيش أو جزءا منه على الأقل. 


إيقاف تصدير النفط.


قفل الطريق الساحلي بين شرق البلاد وغربها.


إيقاف تسيير الرحلات الجوية الداخلية.


كل هذه الإجراءات سيقع ضررها على الناس، المرضى والجرحى ومحدودي الدخل، وستخسر الدولة مبالغ ضخمة إذا أوقف تصدير النفط مع الأسعار المرتفعة، أما الخطر الأكبر فهو تكريس حالة الانقسام وتهديد وحدة البلاد. هل ثمة مطالب مهما كانت مشروعيتها، تبيح تهديد المواطن في معيشته، وزيادة أعباء السفر عليه، وتهديد الوحدة الوطنية؟ 


هؤلاء الضباط وغيرهم كثير ولاؤهم ليس للوطن، بل لشخص قبلوا به زعيما عليهم، وتحت رايته قاتلوا شعبهم جنبا إلى جنب مع مرتزقة جلبهم زعيمهم من مختلف الدول، ولم يعترضوا على تعرض عاصمتهم لقصف المقاتلات المصرية والإماراتية. ورضوا بأن يتقلد أبناء زعيمهم المدنيون أعلى الرتب العسكرية في زمن قياسي. 


هل ثمة شك في أن هذا السلوك وهذه المواقف لا يمكن أن تصدر إلا من عدو؟ وما الذي يمكن أن يفعله العدو الخارجي أو المستعمر أكثر من ذلك؟


لا يمكن إغفال الاستثناء في وجود ضباط لهم موقف مختلف، يرى أن مهمتهم ليست ممارسة السلطة، ولكنهم عاجزون عن تغيير عقيدة المؤسسة، وفرض رؤيتهم وقناعاتهم. 

 

إن جوهر الصراع الدائر في منطقتنا العربية منذ عقود هو نضال ضد العسكر وسيطرتهم على مقاليد السلطة من دون أي مشروع وطني حقيقي ينهض بالبلاد ويحررها من الهيمنة والتبعية، وبسبب طول أمد ممارسة العسكر للسلطة في أكبر الدول العربية، وإخفاق الموجات الثورية في الإطاحة بهم، فإن الصراع معهم سوف يستمر زمنا لن يكون قصيرا.


الأكثر قراءة اليوم
الأكثر قراءة في أسبوع