كتاب عربي 21

لماذا تسبح اليونان عكس التيار؟

1300x600

تشهد منطقة الشرق الأوسط حالة غير مسبوقة من خفض التصعيد بدأت بشكل ملحوظ في بداية العام 2021، واستمرت في العام 2022، وذلك بموازاة استمرار جهود التقارب والمصالحة بين عدد من الأقطاب الرئيسية في الإقليم. مهدّت عدّة تطورات أساسية على المستوى الدولي والإقليمي لمثل هذا الخفص في التصعيد كان أبرزها خسارة دونالد ترامب وفوز جو بايدن في الانتخابات الرئاسية الأمريكية في تشرين الثاني/ نوفمبر من العام 2020، تبع ذلك إعلان العلا في كانون الثاني/ يناير من العام 2021، ثمّ انتهاء مرحلة الثورات العربية التي انطلقت عام 2011، تلاها انتشار جائحة كورونا، وأخيراً الحرب الروسية ضد أوكرانيا.

ونتيجة لهذه المعطيات، حصل تقارب بين مجموعة واسعة من الدول المتنافسة والمتصارعة خلال المرحلة الماضية، كالتقارب الإماراتي-الإيراني، والسعودي-القطري، والمصري-القطري، والتركي-المصري، والإماراتي-التركي، والسعودي-الإيراني، والتركي-الإسرائيلي، والتركي-السعودي. وبالرغم من أنّ نوع ودرجة المصالحات اختلفت بين دولة وأخرى، إلاّ أنّ السياق العام حافظ على نوع غير مسبوق من التهدئة الإقليمية. 

دولة واحدة فقط بدت شاذّة عن السياق العام ومتضرّرة من خفض التصعيد وتعمل جاهدة على تقويضه وهي، اليونان. تنظر أثينا إلى التطورات الإيجابية بشكل سلبي ذلك أنّ خفض التصعيد يضرب مصالحها في العمق. اليونان، دولة تعيش عملياً على المماحكات، والتوترات، والتصعيد المستمر، وصناعة العدو، ولعب دور المظلوم لأنّ ذلك يؤمّن لها حماية من قبل دول أخرى كالاتحاد الأوروبي والولايات المتّحدة، ويبقيها في حيّز الطفل المدلّل الذي يحتاج إلى عناية دائمة. 

في 2019 و2020، لعبت اليونان دوراً سلبياً في التصعيد الخطير الذي جرى شرق البحر المتوسط وكادت تدفع المنطقة برمّتها إلى حرب بعد استدراجها عدداً من اللاعبين الإقليميين والدوليين لمواجهة تركيا. في العامين المذكورين، أنشأت اليونان تحالفات مع مصر والإمارات والسعودية وإسرائيل بالإضافة إلى نظام الأسد في سوريا وحفتر في ليبيا وكل من باستطاعته أن يتسبب بمشاكل لأنقرة. وزادت على ذلك أن استجلبت دعماً أمريكيا وغطاءً فرنسياً وحاولت استدراج الاتحاد الأوروبي وباقي دول حلف شمال الأطلسي إلى صدام مع أنقرة. وبالرغم من أنّها فشلت في مسعاها، إلا أنّها بقيت تأمل في أنّ تحالفاتها الإقليمية ستقوم بالعمل المطلوب نيابة عنها. 

عملياً، أدتّ مرحلة خفض التصعيد والمصالحات الإقليمية إلى تجريد اليونان من أوراقها، وتفاقمت مشكلتها مع اندلاع الحرب الروسية-الأوكرانية حيث ازدادت أهمّية تركيا بالنسبة إلى مختلف اللاعبين، كما ازدادت اهمّية منطقة شرق البحر المتوسط. وفي هذا السياق بالتحديد، يسعى الأوروبيون إلى استبدال مصادر النفط والغاز الروسي. 

أحد المناطق المرشحة مستقبلاً لتنويع واردات أوروبا من الطاقة هي منطقة شرق المتوسط. الحل الأسرع والأوفر والأسلم لنقل الغاز من هذه المنطقة هو من خلال اتفاق مع تركيا بالإضافة لتفعيل خط أنابيب إسرائيل-تركيا-أوروبا الذي سيأتي بالضرورة على حساب الخط الوهمي الذي من المفترض أن يصل إسرائيل بقبرص بجزيرة كريت بالبر اليوناني، ويمر عبر مساحة مائية تقول تركيا إنّها تابعة لها. 

 

عملياً، أدتّ مرحلة خفض التصعيد والمصالحات الإقليمية إلى تجريد اليونان من أوراقها، وتفاقمت مشكلتها مع اندلاع الحرب الروسية ـ الأوكرانية حيث ازدادت أهمّية تركيا بالنسبة إلى مختلف اللاعبين، كما ازدادت اهمّية منطقة شرق البحر المتوسط. وفي هذا السياق بالتحديد، يسعى الأوروبيون إلى استبدال مصادر النفط والغاز الروسي.

 



لكل هذه الأسباب، عادت أثينا إلى التصعيد من جديد. سلسلة من الإجراءات الاستفزازية المقصودة ضد أنقرة آخرها زيارة قام بها رئيس الوزراء كيرياكوس ميتسوتاكيس إلى واشنطن، والتقى خلالها بالرئيس الأمريكي جو بايدن وألقى خطاباً أمام الكونغرس. في هذه الزيارة، حرّض كيرياكوس علناً ضد أنقرة وحثّ المشرّعين على إيقاف مشروع بيع مقاتلات أف-16 مطوّرة إلى تركيا، وطلب إبقاء الحظر قائما على منع بيع مقاتلات (أف-35)، وتعهّد بمنع الاعتراف بقبرص الشمالية أو التوصل إلى حل الدولتين. لاقى تحريض رئيس الوزراء ترحيباً حارّاً من قبل أعضاء الكونغرس حيث يلعب اللوبي اليوناني إلى جانب اللوبيات الأخرى مثل الأرميني والإسرائيلي دوراً كبيراً في التأثير على صناعة القرار. 

وردّاً على التحرّكات اليونانية، أعلن الرئيس التركي الأسبوع المنصرم أنّ بلاده ألغت اجتماع المجلس الاستراتيجي المشترك مع اليونان. وكشف أردوغان عن أنّ الطرفين كانا قد اتفقا على عدم إشراك دول أخرى في نزاعهما، لكنّ كيرياكوس نكث عهده. وقال الرئيس التركي إنّه "لم يعد هناك أحد اسمه ميتسوتاكيس بالنسبة لي، ولا أقبل بعقد لقاء كهذا معه إطلاقا، لأننا نواصل طريقنا مع الأشخاص الشرفاء الذين يحفظون عهودهم".

الرئيس التركي ذكّر بأخطاء كان قد ارتكبها مسؤولون أتراك سابقون عندما قبلوا بانضمام كل من اليونان وفرنسا بعد خروجهما من الناتو، مشيراً إلى أنّ شكل العلاقة بين هذه الدول وتركيا اليوم دليل على هذا الخطأ الفادح. وردّ الجانب اليوناني على هذه التصريحات بالقول إنّه لا ينوي الدخول في سجالات. المثير للاستغراب هو قيام اليونان خلال العامين الماضيين باتفاقين دفاعيين، واحد مع فرنسا والآخر مع الولايات المتّحدة الأمريكية، يقوم الطرفان بموجبهما بالدفاع عن اليونان. وإن ليم يتم التعبير صراحة عن العدو، إلاّ أنّ سياسة اليونان وتموضع القوات يشير إلى أن المقصود تركيا وليس روسيا.

وبينما يفسر المسؤولون الأمريكيون إنشاءهم المزيد من القواعد العسكرية في اليونان وإرسالهم المزيد من الجنود إلى هناك على أنّه رسالة لطمأنة اليونان، فسيؤدي التحرك الأمريكي في هذا الاتجاه إلى تشجيع أثينا على مواصلة سياساتها الاستفزازية والتصعيدية بدلاً من لجمها. ومن شأن ذلك أن يؤدي أيضاً إلى الوقوع في خطأ في الحسابات قد تدفع ثمنه اليونان والمنطقة. فضلاً عن ذلك، فإنّ نشر المزيد من القوات الأمريكية في محيط تركيا الإقليمي لا يعتبر رسالة إيجابية بالنسبة إلى تركيا، وقد تنظر إليه على أنّه مصدر من مصادر التهديد مستقبلاً، وهو ما يعني جر أمريكا وتركيا إلى الصراع في وقت من المفترض أن يلعب فيه الأمريكيون دوراً حيادياً أو أن يلجموا اليونان للحفاظ على مصالحهم في المنطقة.