قضايا وآراء

غانتس- عباس أكثر من مجرد لقاء

1300x600
بدا لقاء وزير الدفاع الإسرائيلي الجنرال غابي غانتس مع رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، في مقر المقاطعة برام الله الخميس الماضي، مختلفاً عن اللقاءات السابقة التي تنقلت ما بين المقاطعة ومنزل غانتس في مستوطنة رأس العين قرب تل أبيب. ورغم أنه يندرج ضمن السياق العام لتلك اللقاءات، إلا أنه بدا مختلفاً عنها أو ربما للدقة تحديثاً لها؛ ليس فقط لارتباطه الوثيق بزيارة الرئيس الأمريكي جو بايدن إلى المنطقة، وإنما لسعيه إلى رسم معالم المرحلة القادمة فلسطينياً وفق الأسس العامة التي وضعت أيضاً خلال اللقاءات السابقة، وبما يتساوق ولا يتعارض مع الأهداف التي يحاول بايدن تحقيقها ضمن مساعي رسم معالم المنطقة خلال المرحلة القادمة.

بدأت اللقاءات السابقة مع تشكيل الحكومة الإسرائيلية الحالية منتصف العام الماضي، بالتزامن مع دخول إدارة ديمقراطية جديدة إلى البيت الأبيض في واشنطن خلفاً لإدارة دونالد ترامب الجمهورية؛ التي أوقفت الاتصالات السياسية مع السلطة الفلسطينية ولم تضغط على حكومة بنيامين نتنياهو السابقة لوقف قطيعتها السياسية مع رام الله.

تولى غانتس الانفتاح على رام الله ضمن الانفتاح على واشنطن وعواصم غربية أخرى، وفتح قنوات اتصال مباشر مع قيادة السلطة يمكن وضعها نظرياً في الإطار السياسي، رغم غياب الأفق السياسي والمفاوضات وفق حل الدولتين، والاكتفاء بدعم السلطة أمنياً واقتصادياً واجتماعياً ضمن خطوات لتحسين الأوضاع الفلسطينية ومنع انفجارها في وجه الاحتلال، وحتى أمريكا نفسها الباحثة عن تهدئة إقليمية للتفرّغ لملفات أخرى. هذا لا يسري على الضفة الغربية فقط وإنما غزة أيضاً، مع اختلاف نسبي ضمن سياسة إسرائيلية لحظت تقوية سلطة فتح في رام الله، وإضعاف سلطة حماس في غزة مع تحاشي انهيارها التام؛ بما يؤدي حتماً إلى خروج الأوضاع عن السيطرة هناك وانفجارها في وجه إسرائيل ومصر والمنطقة بشكل عام.
فتح قنوات اتصال مباشر مع قيادة السلطة يمكن وضعها نظرياً في الإطار السياسي، رغم غياب الأفق السياسي والمفاوضات وفق حل الدولتين، والاكتفاء بدعم السلطة أمنياً واقتصادياً واجتماعياً ضمن خطوات لتحسين الأوضاع الفلسطينية ومنع انفجارها في وجه الاحتلال، وحتى أمريكا نفسها الباحثة عن تهدئة إقليمية للتفرّغ لملفات أخرى

وبالعودة إلى اللقاء الأخير الذي عقد كما العادة أيضاً بشكل مفاجئ ودون إعلان مسبق لضرورات أمنية وسياسية، أيضاً لتجنب الضغوط والانتقادات ضده. وكما قال بيان وزارة الدفاع الإسرائيلية المقتضب، فقد هدف إلى تهيئة الأجواء الأمنية ومواصلة التنسيق الأمني قبل زيارة جو بايدن. وكالمعتاد أيضاً لم يصدر بيان رسمي عن السلطة أو حتى رواية رسمية عن اللقاء وما جرى فيه، بينما أشارت تسريبات عن مصادر فلسطينية مطلعة إلى تركيز عباس على أهمية خلق الأفق السياسي دون تحديد جوهره، ولكن يقصد به غالباً المفاوضات وحل الدولتين، مع شكوى وتذمّر من الممارسات الإسرائيلية لجيش الاحتلال والمستوطنين ضد الفلسطينيين على اختلاف انتماءاتهم السياسية والحزبية، إضافة إلى التصعيد المستمر في القدس والضفة الغربية، بما يراكم الصعوبات أمامه فيما يخص مواصلة التنسيق الأمني الذي كان ولا يزال مستلباً له.

رد غانتس كان تقليدياً أيضاً، وتضمن التذرّع بالأجواء السياسية في إسرائيل والدخول في أجواء الانتخابات المبكرة، وبالتالي صعوبة العودة إلى المفاوضات أو بلورة أفق سياسي -سأل عباس متى لم تكن عندكم انتخابات فهذه الخامسة خلال أقل من أربع سنوات تقريباً- واستفاض غانتس في المقابل في شرح ما أسماه البوادر والتسهيلات الاقتصادية والاجتماعية تجاه الضفة الغربية وغزة، مطالباً عباس بمواصلة الجهود الأمنية لمنع عمليات المقاومة، كما وقف ملاحقة إسرائيل أمام المحكمة الجنائية الدولية.

من هذه الزاوية بدا اللقاء مختلفا كلياً مع عرض غانتس -رغم نفي تقليدي من رام الله- أن تتوقف السلطة عن متابعة الدعاوى أمام الجنائية الدولية مقابل ممر آمن للفلسطينيين في الضفة الغربية؛ يسمح بسفرهم جوّاً عبر مطار رامون قرب مدينة إيلات في الأراضي المحتلة عام 1948.
هذه الخطوات مرتبطة كذلك بالتطورات في إسرائيل، حيث ستجري الانتخابات المبكرة نهاية العام الجاري ولا توقعات بتشكيل حكومة جديدة قبل بداية العام الجديد وربما الربيع القادم، مع عدم تجاهل احتمال الذهاب إلى انتخابات مبكرة سادسة في ظل حالة عدم الاستقرار السياسي

إلى ذلك عرض غانتس إجراءات بدت طويلة المدى أيضاً وشملت 5500 لمّ شمل لأُسر ومواطنين في الضفة الغربية وغزة، وستّة مخططات هيكلية للبناء في مناطق الضفة، وفتح معبر سالم بشكل دائم لدخول عرب 48 إلى مدينة جنين لتحسين الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية الضاغطة، وتخفيف نسبة البطالة المرتفعة فيها.

التسهيلات شملت غزة أيضاً مع رفع عدد تصاريح العمال وإدخال مزيد من المواد والمستلزمات الضرورية، بما في ذلك محاولات حلّ أزمة الكهرباء الخانقة وتحسين عمل المعابر، مع أحاديث عن استئناف المساعي للتوصل إلى صفقة تبادل أسرى مع حماس لإتاحة الفرصة أمام مشاريع كبرى بغزة وأيضاً دون أفق سياسي.

والخلفية للخطوات السابقة تتعلق بالمرحلة القادمة، حيث لا أفق ولا مفاوضات وإنما مجرد تحسين للأوضاع الاقتصادية والاجتماعية ومنع انفجارها في فلسطين.

هذه الخطوات مرتبطة كذلك بالتطورات في إسرائيل، حيث ستجري الانتخابات المبكرة نهاية العام الجاري ولا توقعات بتشكيل حكومة جديدة قبل بداية العام الجديد وربما الربيع القادم، مع عدم تجاهل احتمال الذهاب إلى انتخابات مبكرة سادسة في ظل حالة عدم الاستقرار السياسي، ما يعني أن حالة الجمود السياسي ستستمر لعام آخر على الأقل.
لقاء غانتس- عباس والحركة الإسرائيلية الأمريكية المنسقة تهدف أساساً إلى ضمان عدم التشويش الفلسطيني على المستجدات والتحولات الإقليمية، ولكن مع عدم تجاهل الملف كلياً، كما فعل دونالد ترامب، أو طرح حلول لتصفية القضية وإزالتها نهائياً عن جدول الأعمال، وإنما إبقاءها مجمدة عملياً

وتضاف إلى ما سبق التطورات الإقليمية الأخيرة، وبما فيها أهداف جولة بايدن المتضمنة توسيع التطبيع والاتفاقيات الإبراهيمية وإدماج إسرائيل في المنطقة، والبحث عن إطار أو جسم إقليمي ترعاه الولايات المتحدة بمشاركة إسرائيل والدول العربية للتنسيق في قضايا متعددة، سياسية وأمنية واقتصادية واجتماعية.

وبناء عليه يمكن الاستنتاج أن لقاء غانتس- عباس والحركة الإسرائيلية الأمريكية المنسقة تهدف أساساً إلى ضمان عدم التشويش الفلسطيني على المستجدات والتحولات الإقليمية، ولكن مع عدم تجاهل الملف كلياً، كما فعل دونالد ترامب، أو طرح حلول لتصفية القضية وإزالتها نهائياً عن جدول الأعمال، وإنما إبقاءها مجمدة عملياً مع غسيل كلمات عن حل الدولتين ومساعدات وإغراءات مالية ضخمة؛ كي يبقى الوضع الفلسطيني تحت السيطرة لأبعد مدى زمني ممكن.

المهمة تبدو مستحيلة بالطبع؛ كون الاحتلال مستمر كما تجلياته في الاستيطان والتهويد والقتل والتشريد والتضييق على مناحي الحياة المختلفة للفلسطينيين، ما يعني أن الانفجار قادم حتماً وهو أصلاً مسألة وقت فقط، بينما فعل فلسطيني توافقي وحدوي مختلف سيجعله أقرب مما يظن الغزاة والمطبعون.