كتاب عربي 21

عن زمن جميل مضى: مذكرات أنيس النقّاش نموذجا

1300x600
صدرت في بيروت مؤخرا عن دار بيسان؛ مذكرات المناضل البيروتي واللبناني أنيس النقّاش تحت عنوان: "مذكرات أنيس النقّاش: أطفال وأقدار"، وقد أعدّها وأشرف على إصدارها وكتب مقدمتها الكاتب والباحث صقر أبو فخر، وهو كان قد كتب عن بعض هذه المذكرات في كتاب صادر قبل عدة سنوات تحت عنوان: "أسرار خلف الأستار" عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر.

هذان الكتابان اللذان يستعرضان أجزاء مهمة من سيرة المناضل البيروتي واللبناني الولادة والمنشأ أنيس النقّاش والفلسطيني الهوى والانتماء والعالمي النشاط والاهتمام، يقدمان للقارئ العربي سيرة مهمة لشخصية رافقت التطورات اللبنانية والعربية والعالمية طيلة حوالي سبعين عاما.

فأنيس النقاش ولد في بيروت في خمسينات القرن الماضي وعاصر تطورات سياسية وأمنية مهمة، وكانت له أدوار أمنية كبيرة في مراحل متعددة من النضال ومنذ أن تفتحت عيناه على الحياة، من المشاركة في المسيرات دعما للثورة الجزائرية والثورة المصرية ودعم الشعب الفلسطيني، مرورا بانتمائه لحركة فتح ونضاله في صفوفها ودوره في العديد من المحطات الأمنية، وكذلك دوره في بعض المجموعات الأمنية المرتبطة بالثورة الفلسطينية، وخصوصا مشاركته مع المناضل العالمي كارلوس في اقتحام مركز منظمة أوبك في فيينا في العام 1975، وعلاقاته مع العديد من المجموعات الثورية العالمية، وصولا لعلاقاته ودوره مع المناضلين الإيرانيين والثورة الإيرانية، ومشاركته في محاولة اغتيال رئيس الوزراء الإيراني شاهبور بختيار في باريس، وسجنه في فرنسا وتحوله إلى الفكر الإسلامي ومن ثم خروجه من السجن، وعلاقاته مع المقاومة اللبنانية والفلسطينية وصولا إلى أدواره النضالية والفكرية والإعلامية في سنواته الأخيرة من عمره، ومواكبته لمختلف التطورات، ورؤيته النقدية للواقع العربي والإسلامي.

يقول الكاتب والباحث صقر أبو فخر في مقدمة الكتاب الجديد عن مذكرات أنيس النقاش: هذا الكتاب ليس سيرة ذاتية بل ذكريات؛ لأن سيرة أنيس النقاش أشمل وأبعد مدى وأكثر إحاطة وأعمق. وأنيس النقاش خلاصة جيل عربي تطلع بقوة إلى الوحدة وتحرير فلسطين والخلاص من الاستعمار، وتأسيس دولة عصرية وحرة وديمقراطية. وتجربة أنيس في هذا الميدان، على رونقها الآسر وخيباتها المرة، ما برحت كالرحيق الباقي من تلك الآمال الزاهية، ربما تنكمش تلك الأحلام وتنحسر، أو تنكسر، لكن رحيقها يظل فوّاحا.

ورغم أن المذكرات تنتهي عمليا عند خروج أنيس النقاش من السجن الفرنسي في العام 1990، لكنها تواكب الكثير من التطورات والمتغيرات التي حصلت طيلة سنوات طويلة من النضال العربي والفلسطيني والعالمي في مواجهة الكيان الصهيوني والمشروع الأمريكي، وخلال السنوات الثلاثين التي أمضاها أنيس النقّاش بعد خروجه من السجن الفرنسي لم يهدأ مطلقا، فقد تابع نضاله في كافة المجالات الأمنية والعسكرية والاقتصادية والإعلامية، وأنشأ مركز أمان للدراسات الاستراتيجية، وكان من أبرز المحللين عبر وسائل الإعلام والفضائيات، وكتب الكثير من الكتب والدراسات وأبرزها كتابه المهم: الكونفدرالية المشرقية، ومن ثم إنشاؤه مع عدد من الأصدقاء والصديقات "مجلس السلم للتعاون الإقليمي"، وكان يتنقل من عاصمة عربية الى عاصمة إسلامية أو أوروبية من أجل تحقيق الأهداف التي سعى إلى تحقيقها.
هذه المسيرة حصلت فيها أخطاء ومشاكل وواجهت تحديات متنوعة، ولكن لا يمكن للقارئ إلا أن يدرك كم كانت طموحات وأهداف تلك الأجيال المناضلة كبيرة، وكيف تجاوز هؤلاء المناضلون الكثيرة من العقبات والانتماءات الصغيرة نحو الانتماء إلى فلسطين والوحدة والإنسانية العالمية

وكان آخر ما كتبه بعد إصابته بمرض كورونا وخلال فترة الشفاء وقبل أن يسلم الروح نهائيا في العام 2021: أنا انتهيت والرواية ماتت. لكن موت أنيس النقّاش لم ينه روايته وحكايته وأدواره النضالية، وصدور هذه المذكرات وما فيها من معلومات وتجارب نضالية وأسرار يؤكد أن هذا المناضل البيروتي هو نموذج لشخصيات أخرى لبنانية وعربية وعالمية شاركت في مرحلة ما في النضال العالمي من أجل فلسطين والتحرر العربي ومواجهة المشروع الصهيوني، ودعم الشعب الفلسطيني.

وهذه المذكرات تنضم إلى غيرها من الكتب والدراسات والمذكرات التي أرّخت للنضال العربي والفلسطيني والإسلامي والعالمي، وإن كان أبرزها مؤخرا مذكرات المناضل منير شفيق الصادرة عن مركز دراسات الوحدة العربية، وغيرها الكثير الكثير.

نحن أمام تجربة نضالية مهمة ابتعدت عن الانتماء القطري والمحلي والمذهبي والطائفي، لتتحول إلى البعد الإنساني والوحدوي والعروبي والعالمي. كما أننا نطلع من خلال هذه المذكرات على تجارب نضالية لحركات وتنظيمات لبنانية وفلسطينية وعربية وعالمية، وقد كان لها تأثير وأدوار مهمة في التطورات السياسية خلال العقود السابقة، ولا سيما في مرحلة النهوض القوي والفلسطيني والعروبي، وصولا لانبعاث الصحوة الإسلامية في إيران والعالم العربي والإسلامي.

من يقرأ هذه المذكرات يستعيد ما يمكن تسميته: الزمن الجميل الذي مضى، ويطلّع على الكثير من المعلومات والتجارب وأشكال متنوعة من النضالات وتشابك الساحات والمراحل، ولا بد من التأكيد بأنه ليس كل ما تم القيام به من أعمال أمنية أو سياسية أو عسكرية كان في الاتجاه الصحيح، فهذه المسيرة حصلت فيها أخطاء ومشاكل وواجهت تحديات متنوعة، ولكن لا يمكن للقارئ إلا أن يدرك كم كانت طموحات وأهداف تلك الأجيال المناضلة كبيرة، وكيف تجاوز هؤلاء المناضلون الكثيرة من العقبات والانتماءات الصغيرة نحو الانتماء إلى فلسطين والوحدة والإنسانية العالمية.
من يقرأ هذه المذكرات يتيقن أنه لا يمكن الفصل بين الساحات المحلية والعربية والإقليمية والعالمية، وأن النضال من أجل فلسطين لا يقتصر على الشعب الفلسطيني وقواه المحلية بل هو نضال عالمي في كل الساحات

هذه المذكرات وغيرها من الكتب والدراسات التي تؤرخ لتلك المراحل المهمة من النضال الفلسطيني والعربي والإسلامي والعالمي مهمة جدا لتقييم تلك المراحل، والإطلالة من خلال ذلك على الواقع السياسي والدولي اليوم وكيفية مواجهة مختلف التحديات.

ومن يقرأ هذه المذكرات يتيقن أنه لا يمكن الفصل بين الساحات المحلية والعربية والإقليمية والعالمية، وأن النضال من أجل فلسطين لا يقتصر على الشعب الفلسطيني وقواه المحلية بل هو نضال عالمي في كل الساحات، وهناك ترابط بين القضية الفلسطينية وكل الهموم العربية والإسلامية والإنسانية.

نحن أمام تجربة مهمة جديرة بالقراءة والدرس والتمحيص من أجل الاستفادة منها اليوم، ولا بد من توجيه التحية للكاتب والباحث صقر أبو فخر ودار بيسان لإصدار هذه المذكرات المهمة، وعلى أمل أن نطلّع على بقية تجارب المناضل الراحل أنيس النقاش من خلال ما أصدره لاحقا ومن محبيه ورفاق دربه والذين ناضلوا معه في السنوات الثلاثين الماضية.

إنه الزمن الجميل الذي مضى، ولكن آثاره لا تزال حاضرة بيننا.

twitter.com/kassirkassem