مقالات مختارة

مأزق الحوار الوطني

1300x600

أي رهانات على الحوار الوطني في تحسين البيئة العامة وضخ دماء جديدة بالحياة السياسية الراكدة، تستحق أن تأخذ وقتها قبل إصدار الأحكام.


التعجل بإصدار الأحكام المسبقة غير التنبيه إلى مواطن الخطر، التي تتهدد الفرصة السانحة.
الأول فعل سلبي، والثاني عمل إيجابي.


إذا ما أردنا للحوار الوطني أن يساعد على بناء تماسك وطني بأوقات حرجة يتغير فيه العالم ويضطرب الإقليم، فلا بد أن تكون هناك مصارحة بالمأزق الذي هو فيه الآن.
المصارحة مسألة رأي عام يتابع من بعيد، دون أن يبدي حماسا كبيرا للحوار وما قد يصل إليه من مخرجات.


اكتساب ثقة الرأي العام لا تتأسس على كلام في الهواء، أو وعود لا تتحقق.


بقدر ما يرى أمامه من إجراءات تحسن مستويات معيشته وتطمئنه على مستقبله وتفسح أمامه المجال للتنفس السياس الحر، تتأكد ثقته أننا على الطريق الصحيح.


كان من أبرز دواعي القبول الواسع بالدعوة الرئاسية للحوار، رغم أي تحفظات من هنا أو هناك، أنها تفتح الأبواب الموصدة في وجه سجناء الرأي، وتساعد على بناء توافقات وطنية تحتاجها مصر لتجاوز أية أزمات تعترض مستقبلها ومصيرها.


يتبدى ــ هنا ــ مأزق الحوار قبل أن يبدأ جدول أعماله الفعلي.


المأزق يلخصه: تباطؤ ملحوظ فيما هو سياسي، وتسرع مفرط فيما هو اقتصادي.


جرت إفراجات لها قيمتها عن أعداد من مسجوني الرأي، الذين لم يحرضوا على عنف أو انخرطوا في إرهاب، لكنها أقل مما كان متوقعا ومنتظرا.


عند أي إفراجات ولو محدودة، يرتفع منسوب الحماس للحوار والانخراط فيه.


وعند أي تباطؤ، يرتفع المنسوب العكسي وتتردد في بعض أوساط المعارضة دعوات الانسحاب منه.
لا أحد عاقل في مصر مستعد أن يتحمل مسؤولية إفشال الحوار الوطني، فالعواقب سوف تكون وخيمة والبلد سوف يدخل في مرحلة انكشاف سياسي واقتصادي واستراتيجي، فيما هو لا يحتمل أي اضطرابات اجتماعية غير مستبعدة.


المسؤولية مشتركة بين الحكم والمعارضة في إنجاح الحوار الوطني، والوصول بالبلد إلى بر الأمان، أو أن يكون أكثر ثقة في نفسه وفي قدرته على مواجهة تحدياته الصعبة.


حسم ملف محبوسي الرأى دون إبطاء مسألة أساسية لضخ دماء الثقة في شرايين الحوار وإضفاء الصدقية عليه.


لم يعد خافيا على أحد أن هناك أطرافا في الدولة لا تريد للحوار أن ينجح، ولا للإفراجات عن سجناء الرأي أن تأخذ مداها حتى يغلق ذلك الملف، ولا لصورة البلد في ملف الحريات العامة وحقوق الإنسان أن تتحسن.


لن يصدق أحد في العالم أن هناك حوارا وطنيا جديا في مصر يستهدف نقلها إلى حال جديد بمحض عبارات إنشائية، فملف الحريات وحقوق الإنسان متخم، والحملات على نظام الحكم الحالي لا تتوقف في الميديا الغربية.


قد يقال إن الحوار لم يبدأ بعد، وأنه بالكاد انتهى من اجتماعاته الإجرائية، وهذا صحيح، لكن جوهر التفاهمات التي سبقته، أكدت أن الإفراج عن مسجوني الرأي، مقدمة الحوار وليس الحوار نفسه.
هذه نقطة مفصلية في أية مصارحة ضرورية تعمل على إنجاح الحوار الوطني.


إذا ما تمت الإفراجات بصورة كاملة، لا تستثني سجين رأي واحدا، فإنها تصنع فارقا هائلا في البيئة السياسية العامة، كما في الإعلام الدولي وداخل الأوساط الحقوقية والأكاديمية، التي دأبت على نقد الملف الحقوقي المصري طوال تسع سنوات.


عند الإعلان عن الحوار الوطني، تردد على نطاق واسع داخل مراكز القرار وفي صالات التحرير باتساع العالم سؤال واحد: هل الأمر جاد أم أنه مجرد خدعة؟.. هكذا بالحرف.


الإجراءات وحدها قبل أي شيء آخر، هي التي تغير مسار النظر الدولي، الذي أنهك البلد وأساء إلى صورته.


من مصلحة النظام الحالي، كما من مصلحة المعارضة والبلد كله، إنهاء ملف سجناء الرأي وتحسين البيئة العامة وفتح المجال العام.


على خلفية الملف الملغم، شككت صحف دولية في جدارة مصر باستضافة قمة المناخ المرتقبة.
هذا سبب إضافي للحسم بأسرع ما يمكن، فطالما أن القرار هو إنهاء أية مظالم داخل السجون، فلا معنى للتعسف مع أسماء بعينها، ولا للتباطؤ النسبي في معدل الإفراجات.


حتى الآن ليست هناك تغطية صحفية دولية مناسبة، أو معتنية بالحوار الوطني في مصر.
السبب ببساطة أن هناك جبالا من الشكوك تراكمت على مدى سنوات طويلة، إذا ما أردنا إزالتها، فلا بد من إنهاء الملف بالكامل.


هذا هو الوجه الأول لمأزق الحوار الوطني.


الوجه الثاني، أن الإجراءات الاقتصادية المتسارعة في وقت ضيق بذريعة مواجهة الأزمة تهز من ثقة الرأي العام في الحوار كله.


إذا فقد الحوار ثقة الرأي العام على تجاوز أزمته الاقتصادية الخانقة، فإنه يخسر قضيته مسبقا قبل أن يدخل إلى جدول أعماله.


ما معنى أي حوارات اقتصادية، أو مداخلات في الأزمة وسبل مواجهتها، إذا سبقتها إجراءات على الأرض تصنع أمرا واقعا إضافيا يسحب من صدقية الحوار نفسه؟


الناس تصدق الأسواق، تعاني وتئن من ارتفاعات الأسعار دون أن يتبدى أمامها أمل في تجاوز الأزمة.
المأساوي هنا أنه إذا ارتفع صوت يتحدث بجدية في الأزمة الاقتصادية، أسبابها ودواعيها ونتائجها الماثلة، يتعرض على الفور إلى حملة انتقادات تكاد أن تكون اغتيالا معنويا للشخصية.


إذا كانت الصدور تضيق بأي نقد للإدارة الاقتصادية، كأنه من المحرمات، فما داعي الحوار أصلا؟!
إذا لم يكن ممكنا لنخبة الاقتصاديين المصريين من مختلف المدارس الوطنية أن تناقش وتحاور وتنقد، وتقترح حلولا عملية تساعد البلد على تجاوز أزمته الاقتصادية، فإن الثقة العامة في الحوار كله قد تتقوض.


أمام المأزق المزدوج للحوار الوطني، فإنه لا بد من حسم ملف محبوسي الرأي بأسرع ما يمكن، والتوقف بالوقت نفسه عن أي إجراءات اقتصادية جديدة؛ بانتظار ما يسفر عنه من توافقات تساعد على مواجهة الأزمة، وتخفيف الأعباء المعيشية عن المواطنين.

 

(الشروق المصرية)

الأكثر قراءة اليوم
الأكثر قراءة في أسبوع