قضايا وآراء

حماس وأحلافها.. ملاحظات بالأخلاق السياسية والذكاء السياقي

1300x600
بداية أؤكد على عمق كتابات محمد الشنقيطي، وأنه من الذين لا يشق لهم غبار في سبر أعماق ما يكتب عنه. وإن نقدي لبعض ما ورد في هذا المقال لا يعدو عن النقاش الذي يقلّب الأمر ويعطي مساحة للتفكير خاصة في موضوع شائك ملتبس كهذا الموضوع، وحيث تقدّر فيه المواقف بدقة وخبرة وسعة أفق في الدين والسياسة والفكر وفقه الواقع والسباحة المحترفة في المساحة الواقعة بين المبادئ والمقاصد، ومراعاة مآلات الأمور والأخلاق التي ينبغي ألا تبتعد عن السياسة، خاصة عند الحركات ذات المرجعية الإسلامية.

وأعتقد أنه في هذا السياق ينبغي لمن يتخذ القرار أن يكون من الراسخين في العلم، حيث يترتب على القرار دماء وأرواح ومصائر شعوب وكوارث حروب، ولا بدّ من توفر الخبرات الكافية والتفكير الجماعي الشوري بعيدا عن الفردي والارتجالي، وكذلك من معمعان الواقع المشتبك وليس بعيدا في وسط أكاديمي نظري. لذلك كانت الآية الكريمة تربط بين النفير والفقه (فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين..)، فهذا الفقه مستنبط من النفير في دروب الواقع وتجارب الناس، ومن الأهمية بمكان معرفة الإمكانيات والقدرات المتوفّرة حاضرا ومستقبلا، ومعرفة العدوّ من كل الجوانب المؤثرة ودراسة الظروف المحلية والإقليمية والدولية وموضوع التوقيت ومدى مناسبته.

كلّ ذلك له علاقة في تحقيق مآلات جيدة بعيدا عن المغامرة والمقامرة وردات الفعل العاطفية غير المدروسة جيدا. وفي هذا السياق نودّ أن نطمئن حبيبنا بأن المقاومة الفلسطينية، ومن خلال مسيرة طويلة حافلة بالاشتباك في أحلك الظروف قساوة وأكثرها تعقيدا، قد أصبحت ذات قدرة عالية على تجسيد كلّ هذا بروح جماعية حكيمة ورشيدة تجعلها تتجاوز كل الأخطاء السابقة، وأقرب إلى الصوابية والنجاح وتحقيق الانتصار. ولا أقول إنها معصومة ولا تخطئ أبدا، وإنما هو الاجتهاد الذي يقلّل من نسبة الوقوع في الخطأ ما استطاعت لذلك سبيلا.

لقد أبدعت سيدي في المقال عند الحديث عن الاخلاق والسياسة والذكاء السياقي وفي تفهمك لعلاقات حركة حماس بداعميها ساعة العسرة، رغم أن الأمر أبعد من هذا بكثير لأنها نجحت في صياغة علاقة محترمة قائمة على القواسم المشتركة وبعيدا عن الاشتراط أو الارتهان، وبعيدا عن الظهور بحالة علاقة المصلحة فحسب؛ كما تريدها ويريدها كثير من المنظرين السياسيين والمؤدلجين فكريا وثقافيا.

فإظهار الأمر بأن العلاقة قائمة على تحقيق مصلحة ساعة عسرة ليس من المصلحة وليس من الحكمة بمكان، خاصة ونحن نتحدّث عن دولة مسلمة قامت على ثورة ذات مرجعية إسلامية، ومنذ انتصارها تولي القضية الفلسطينية والمقاومة الفلسطينية اهتماما كبيرا قولا وفعلا. وقد أغلقت السفارة الإسرائيلية في حينها وحولتها إلى مكتب لمنظمة التحرير الفلسطينية، والقدس ساكنة في وجدان الإيرانيين وتحظى باهتمام خاص، ولم تتراجع قيد أنملة عن ذلك رغم الضغوطات والإغراءات الهائلة التي تُعرض عليها مقابل التخلي عن فلسطين، فهل نأتي لنقيم علاقة مصلحة في ساعة عسرة مع دولة تحمل كل هذا الإرث ولا نبحث فيما نجتمع عليه؟!

ولا يعني ذلك أنّي موافق على السياسات الإيرانية أينما حلّت أو ارتحلت، نحن نتحدث عن ملف العلاقة مع الفلسطينيين والمقاومة الفلسطينية، وعلى رأيك في علاقة الجزائر مع الاتحاد السوفييتي أيام الثورة الجزائرية، فلا يعقل عند إقامة أية علاقة أن تفتح ملفّات هذه الدولة وتنسجم معها انسجاما كاملا. السياسة قائمة على التقاطعات السياسية، وفي حالة المشترك الديني والارث الثقافي نبحث عن المشتركات أيضا، هناك من يبحث عن المفرّقات والمتفجّرات ويجيد استدعاءها من العمق التاريخي ليضعها على سطح المكتب السياسي ويجعلها شماعة لتخريب أية علاقة تستفيد منها المقاومة الفلسطينية، كمن كلما ذكر الموضوع استدعى الدولة الصفوية! وكم يتمنى العدو الصهيوني قطع هذه العلاقة، بل ويحلم بتحويل هذا العمق الاستراتيجي لصالحه كما كانت أيام شاه إيران، ولكن الأمور تحوّلت مائة وثمانين درجة بعد سقوط حكم الشاه.

لقد كنت ناجحا وموفّقا عندما قسّمت المقال إلى بساط نظري وتنزيل واقعي، فكان النجاح تامّا في القسم النظري، حيث برعت في تدريس مادة الأخلاق السياسية والأخلاق في العلاقات الدولية (كما ذكرت)، ولكنك ابتعدت كثيرا يا عزيزي في القسم الثاني وهو التنزيل الواقعي. لقد أصّلت للموضوع في قسمه الأول بعمق وذهبت إلى مطبّات الفكر الغربي في الموضوع حيث الميكافيلية التي تبرر الغاية الوسائل، وحيث تبعه الفيلسوف الأميركي مايكل وولزر من خلال نظرية "الأيدي القذرة"، التي يرى من خلالها أن "السياسي يحتاج إلى اقتراف الشر من أجل خدمة الخير، بينما في أصحاب المرجعية الإسلامية كان قولك: "إن الممارِس السياسي الرشيد هو الذي يفلح في التوفيق بين المبادئ والمصالح، فلا يفرط في أي منهما، وبذلك يكون مبدئيا وبراغماتيا معا".

وخلصت إلى أن "وظيفة الممارِس السياسي هي تحقيق ما يمكن تحقيقه من المبادئ والقيم في واقع الناس، ضمن معادلات الزمان والمكان والإمكان. ولذلك فإن التنظير السياسي أسهل بكثير من الممارسة السياسية، والمعارضة السياسية أسهل بكثير من قيادة الدول". ووصلت بعد ذلك إلى الذكاء السياقي: "القدرة على أخذ كل العوامل المؤثرة في القرار بعين الاعتبار، وعدم إغفال أي أثر من الآثار التي قد تنتج عن القرار. وهنا تأتي أهمية الخبرة المتراكمة، والحساسية الاجتماعية، والتشاور الواسع، والبعد عن الارتجال، والاستعانة بأهل الدراية، قبل اتخاذ أي قرار سياسي ذي بال".

ثم تساءلت:

"وبناء على هذا البساط النظري، نتساءل الآن: هل نجحت قيادة "حماس" في الالتزام بالقيم السياسية الإسلامية في تحالفاتها مع إيران وامتداداتها العربية؟ وهل اتسم قادتها بالذكاء السياقي وهم ينسجون تحالفاتهم ويديرونها سياسيا وإعلاميا؟".

وهذا سيدي ما وقعت في خلافه، حيث ذهبت للتنظير على الممارس السياسي الذي عجنته الخبرة ووصل إلى التفكير الجماعي الشوري بين من ملكوا أدوات التفكير العميق والحريص للوصول إلى المآلات المطلوبة، فقلت: "فيبدو لي أن كسب "حماس" في هذا السياق كسب ملتبس. فقد كانت "حماس" -إلى عهد قريب- مدرسة نموذجية في حُسن التسديد، والجمع بين السياسة والجهاد، بتوازن فكري، وتخطيط إستراتيجي، وحكمة سياسية، وهو ما لم تفلح فيه أغلب الحركات الإسلامية الأخرى. لكن الأعوام الأخيرة شهدت تراجعا واضحا في هذا المستوى من النضج".

وذهبت لمناقشة هذه التراجعات في الأعوام الأخيرة:

أولا: قولك لم تنجح بعض قيادات حماس في التمييز بين ظروف الاضطرار وظروف الاختيار التي تشبه التمادي في الاستهتار بدماء شعوب شقيقة.. وضربت مثلا تجاوزها حدود العلاقة الاضطرارية بإيران وحزب الله إلى التوسع في علاقات اختيارية، وصولا إلى قولك مثل نظام بشار الأسد. وقد وصلت إلى الاستدلال بأن هناك إخلالا في الأولويات الشرعية والسياسية، وليتك بقيت على السياسية لأنها مبنية على التقديرات في موازنة المصالح المرسلة، أما حكمك بأن هذا أيضا خلل في الأولويات الشرعية فهنا تكمن مصيبة ادّعاء الوكالة الحصرية لك للفهم الشرعي في العمل السياسي، وهذا خارج عن كلّ المقدّمات التي قدّمت لها في الثلثين الأولين من المقال.

والسؤال هنا: ما الذي يدفع قيادة حماس لمخالفة الأولويات الشرعية إن كان ذلك صحيحا؟ وقولك "بعض قيادات حماس" هذا غير صحيح؛ لأن الموقف المعلن يعبّر عن موقف الحركة لا بعض قيادات الحركة، خاصة في العلاقات بهذا الحجم الهام والحسّاس.

ثانيا: هذه التقريرات التي أعطيتها منزلة الحقيقة الكاملة بحاجة إلى إثباتات علمية واستدلالات دقيقة؛ لا إطلاق الأوصاف على عواهنها، بينما بالإمكان مناقشتها من خلال التقييم السياسي الاجتهادي العملي بعيدا عما وصفت، وتركها دون تحديد "في الأعوام الأخيرة"، وهو قولك: "يبدو الخطاب السياسي والإعلامي الصادر عن حركة "حماس" في الأعوام الأخيرة غير منضبط أحيانا، وغير مَصوغ بمستوى الإحكام اللازم. فقد كثرت فيه العاطفية المفرطة، والفلتات اللفظية، والمبالغات الخطابية".

ثالثا: قولك على بعض قادة حماس وناشطيها أنهم أعجبتهم خبرتهم بالسياسة والحرب فظهر في نبرتهم الأستاذية والوصاية على اختيارات الشعوب، واعتبار القضية الفلسطينية هي القضية المركزية للأمة.. الخ.. بداية موضوع القضية المركزية ليس جديدا، وإنما هو معتبر من قبل الفلسطينيين من عشرات السنين. ثم هذه النظرة الفوقية تحاسب عليها المواقف الرسمية للحركة، فهل رأينا ذلك في خطابها الرسمي؟ لا أظن ذلك أبدا.

رابعا: في قولك: "يبدو أن بعض قادة "حماس" فقدوا حاسة التوازن الضروري بين ثلاثي الالتزام المبدئي، والتخطيط الإستراتيجي، والتكتيك العملي. وهو توازن حيوي في كل عمل سياسي رشيد". تحذير في مكانه وهو مطلوب دائم، ولكن ما الذي جعلك تقرّر بان قادة حماس قد فقدوا حاسة التوازن الضروري؟ ولماذا التهرّب من مناقشة موقف الحركة ببياناتها الرسمية إلى القول: بعض قادة حماس؟

خامسا: ثم الحديث عن العمق الجغرافي والديمغرافي من منظور التاريخ السياسي والجغرافيا السياسية، والذي قرّرتَ فيه بأنه لم يختلف ما بين الاحتلال الصهيوني المعاصر والاحتلال الصليبي القديم، هل أنت متأكد بأن الجغرافيا السياسية هي ذاتها، وهل ما زلت من الذين يقولون إن التاريخ يعيد نفسه؟ هل الوسط المحيط بفلسطين اليوم هو ذاته أيام الصليبيين، بذات التركيبة؟ وهل لو ظهر صلاح الدين اليوم فسيشكّل جيشه من هذا المحيط: الأناضول والموصل وحلب ودمشق والقاهرة؟ هل أنت متأكد بأنه سيعيد فتح الأنفاق ما بين غزة ومصر مثلا؟ وهل هناك إمكانية لنقل المتطوعين من هذه المناطق إلى المعركة هنا؟

وتقريرك سيدي عن أنه "لا تحرر للقدس دون تحرير محيطها في هلال شرق المتوسط".. هل تنتظر حماس ذلك وتؤجل العلاقة مع إيران، التي وصفتها بأنه تلاق عابر "لا يعبّر عن العمق الحقيقي لفلسطين على المدى البعيد مهما تكن الثمار عاجلة"؟ إذا تنتظر حماس الآجل على المدى البعيد وتترك العاجل؟ ما هو المطلوب العملي لمثل هذه الأفكار؟

لا يا سيدي، العلاقة العابرة التي وصفتها هي علاقة ثابتة للسياسة الإيرانية ماديا وسياسا وأمنيا وعسكريا مع فلسطين، ودون قيد أو شرط منذ أربعة عقود، بينما من دعوتهم ليحلّوا محلّ إيران لم يفلحوا بتوفير الوقود لإضاءة غزة في شأن مدني إنساني خالص. هم من نفروا في الميدان وأرواحهم على أكفّهم، يدركون تماما حالة التوازن الضروري أكثر مني ومنك ومن كل الأكاديميات النظرية.

سادسا: تحدثت عن "قصر النظر وشعارات الوحدة والأخوة الإسلامية، وأن تفرّط "حماس" أو أي قوة فلسطينية أخرى في شعوب هلال شرق المتوسط سعيا وراء مكاسب عابرة أو منافع عاجلة مع إيران".. يا للعجب، من فرّط في الثاني؟ حماس فرطت أو تفرّط بهذه الشعوب؟ المشكلة ليست في الشعوب وإنما في الدول التي تفرّط وتحاصر وتطبّع وتتآمر، وهذه التي تصفها بالعابرة وكأن الذي تقدّمه علبة كبريت أو فتات من المعونات الإنسانية!

أود أن أسالك سؤالا، كباحث عميق وقوي وتقدّم دائما مادة دسمة قوية وفق شروط البحث العلمي الذي عوّدتنا عليه: هل اطلعت على حجم المساعدات كمّا ونوعا التي تقدمها إيران؟ وعلى مدار كم من السنوات زمانيا؟ وما أثر هذه المساعدات على قوة المقاومة وفي معادلة صراع الأدمغة مع العدوّ الصهيوني؟ وهل هناك من قدّم عشر ما قدمته إيران من دول العمق الجغرافي الذي تعتبره ثابتا وهذه عابرة؟

وأقول هنا بمناسبة ذكرك لشعارات الأخوّة: لم لا نبحث عن مكونات ومشتركات الأمة الواحدة ولو بحدّها الأدنى، لتكون العلاقة التي تنسجها المقاومة الفلسطينية مع إيران نموذجا للاستفادة من المشتركات بدل تغذية روح الكراهية؟ وحتى لو كنت من الباحثين فقط عن علاقة المصالح، فهل من المصلحة بمكان أن ننظّر ونعلن بأننا يا إيران لا نريد من علاقتنا معكم إلا تحقيق مصلحتنا في وقت العسرة، ثم بعد ذلك لكم دينكم ولنا ديننا؟ ماذا لو رأيت مفكرا إيرانيا ينظّر لعلاقة المصلحة العابرة معنا؟

أتمنى عليك سيدي أن تعيد قراءة علاقة المبادئ والأخلاق بالسياسة والأخذ بعين الاعتبار المعطيات الواقعية التي يقولها من نفروا ومن أيديهم في النار، ومع الأخذ بعين الاعتبار ترتيبات المنطقة الجديدة بعيدة عن إسقاطات تاريخية لا وجود لها، وعن موازين القوى خاصة معسكر الأعداء والمتآمرين والمتربصين، وبالذات مسألة الاتهام بالأستاذية وأنت تختم مقالك بجمل وعبارات مكتنزة بهذه الأستاذية : "أتمنى أن يفهم بعض قادة "حماس" المتحمسين حدود البراغماتية السياسية، وأن لا يضيعوا العمق الاستراتيجي في لقاء عابر مع إيران وامتداداتها على قارعة الطريق في لحظة تاريخية معتمة".

قل لي بالله عليك كيف اعتبرت هذا العمق المتخلّي عن فلسطين بامتياز، ومنهم من "عقد اتفاقيات سلام" ومنهم من طبّع ومنهم من ينتظر الفرصة ومنهم من أغلق المنافذ والأنفاق على غزة لدرجة أن قادة العدو قالوا: لم نكن نتوقّع ذلك بأحلامنا الوردية، وقالوا لرئيس حكومتهم حينها نتنياهو تعلم منهم كيف فعلوا ما عجزت عنه، بينما تعتبر من يقف بالباع والذراع ويساند عسكريا وأمنيا وسياسيا وماديا دون شرط أو قيد بأنه على قارعة الطريق في لحظة معتمة؟

اسمع سيدي تصريحات من هم بين مطرقة الأعداء وسندان الأصدقاء.. ماذا يقولون؟