كتاب عربي 21

إدارة الصراع بين العزة والهوان والندية والمهانة.. مفاهيم ملتبسة (13)

1300x600
من المفاهيم الكاشفة في العلاقات الدولية وفي التعامل مع الصراعات المختلفة مفهوم "إدارة الصراع"، لما يشير إليه من قدرة على التعامل مع تلك الصراعات الناشبة ضمن تقدير الإمكانات وتعظيمها واختيار الوسيلة اللائقة لإدارة الصراع، والقدرة على تسيير الصراع إلى الجهة التي تنال من قدرات العدو أو الخصم وتصب في قوة الكيان. ومن هنا كان تعبير أستاذنا الدكتور حامد ربيع حينما أراد أن يربط بين الحرب والسلام، فأكد على تداخل المفهومين تداخلاً كبيراً خاصة فيما يتعلق بإدارة الصراع، وعلى وجه التحديد حينما يكون الصراع مصيرياً ووجودياً.

كما تحدث في كتابه "تأملات في الصراع العربي الإسرائيلي" عن خصائص لعملية إدارة الصراع؛ تتمثل في أن خصائص القيادة هي التي تحدد وتتحكم في أسلوب إدارة الصراع، وأن النجاح في عملية إدارة الصراع -وبغض النظر عن الخصائص القيادية- يفرض عنصرين: الملائمة مع الموقف من جانب (أي القدرة الإيجابية والسلبية مع ربط كل ذلك بطبيعة المشكلة التي تستتر خلف الموقف)، والتخطيط من جانب آخر الذي يجب أن يتسع فيفهم التخطيط بجميع أبعاده ابتداء من تحديد الأهداف إلى عملية معالجة الأدوات، وكذلك عدم الخلط بين عملية صنع السياسة، وعملية صنع القرار السياسي، وعلاقة كل منهما بعملية إدارة الصراع؛ فإدارة الصراع لا تعني صنع السياسة، وإنما هي تحديد الأهداف وبناء خطة الحركة، بمعنى تخطيط الحركة بمختلف مقوماتها، مما يتعين على السياسي في إطارها أن ينتقل إلى التنفيذ، والتنفيذ يعني اتخاذ مجموعة من القرارات تبدأ من اختيار اللحظة المناسبة، والرجل المناسب، إلى الانتهاء بتصفية جميع المشاكل الجانبية التي فرضتها الحركة الواقعية.
إدارة الصراع لا تعني صنع السياسة، وإنما هي تحديد الأهداف وبناء خطة الحركة، بمعنى تخطيط الحركة بمختلف مقوماتها، مما يتعين على السياسي في إطارها أن ينتقل إلى التنفيذ، والتنفيذ يعني اتخاذ مجموعة من القرارات تبدأ من اختيار اللحظة المناسبة، والرجل المناسب، إلى الانتهاء بتصفية جميع المشاكل الجانبية التي فرضتها الحركة الواقعية

كما يقدم جانبا آخر لعملية إدارة الصراع؛ من حيث إطارها الخارجي بأنها ليست سوى اتخاذ مجموعة متتالية من القرارات، مؤكدا أن الأمم التي تتخلى عن رسالتها والتي تنبع من مقومات وجودها ويرشحها لها التاريخ تسقط وتنتهي بالتحلل، وهذا ما تعيه جيدا جميع الدول الكبرى وتعمل على تجنبه.

ولعل هذه الرؤية الواسعة والكاشفة لإدارة الصراع هي التي تحدد استخدام وسائل عدة ضمن ملائمتها لحقيقة الصراع وطبيعته ومقاييس النصر فيه وبلوغها، وتعبر عن مقولة أستاذنا الدكتور ربيع: "خض الحرب من أجل فرض سلام حقيقي وعادل، وخض المفاوضات وكأنها الحرب التي تقتضي الكر والفر وتحاول كسب ما كان يمكن الحصول عليه من خلال الحرب في إطار من التفاوض والعمل الدبلوماسي".

ومن ثم فإن تبادل المواقع بين التفاوض والحرب، والتعامل مع المفاوضات بقوانين الحروب، مفهوم يؤكد عليه خبراء العلاقات الدولية بالاعتبار الذي يعظم الأوراق الضاغطة والحركة الفاعلة لكل خطوة بشكل محسوب، وباستخدام كافة الأوراق لحصار الخصم ووضعه في الزاوية، ومن هنا جعله أستاذنا الدكتور ربيع علما وفنا.

تواردت على ذهني كل تلك المعاني المهمة للمقارنة بين موقفين في الوقت الراهن، الأول في إدارة الصراع والتفاوض حول سد النهضة والأزمات التي تولدت عن استمرار إثيوبيا في ما خططت له من الملء الأول إلى الملء الثالث الذي أعلنت عنه مؤخرا، حيث أكد السيسي الذي تورط في اتفاق إعلان المبادئ في العام 2015 أن "مسار سد النهضة مسار دائما دبلوماسي وتفاوضي، والهدف منه أنه في أي مشكلة نلجأ في علاجها إلى حاجتين: الصبر والتفاوض ثم إجراءات نعملها إحنا على مستوى الدولة من مثل استخدام مياه الصرف ومعالجتها".
تبادل المواقع بين التفاوض والحرب، والتعامل مع المفاوضات بقوانين الحروب، مفهوم يؤكد عليه خبراء العلاقات الدولية بالاعتبار الذي يعظم الأوراق الضاغطة والحركة الفاعلة لكل خطوة بشكل محسوب، وباستخدام كافة الأوراق لحصار الخصم ووضعه في الزاوية

أما المشهد الثاني فيتعلق بقيام الكيان الصهيوني باستهداف قادة المقاومة عامة، وقادة المقاومة من الجهاد الإسلامي في غزة على وجه الخصوص، فجاء رد المقاومة كاشفا عن فهمها الجيد لإدارة الصراع رغم اختلاف موازين القوة العسكرية، ورغم محدودية الأوراق الضاغطة التي تملكها، ورغم أن البيئة المحيطة بذلك الصراع إقليمية ودولية غير مواتية ولا زالت تتعامل مع الصراع العربي الصهيوني في سياق تحيزات ظاهرة وفاضحة؛ كامنة وباطنة، سواء من دول غربية لا زالت تكرر هذه الدعوى الزائفة والباطلة التي تتعلق بحق الكيان الصهيوني في الدفاع عن نفسه، وكذا فإن الدول العربية والإقليمية لا زالت تهرول إلى مسالك تطبيعها مع ذلك العدو ضمن تصاعد ظاهرة المتصهينة العرب.

هنا وجب علينا أن نتساءل: ما هو موضع الالتباس والتلبيس في مفهوم إدارة الصراع حينما يستهين طرف مستهدف، ويرسل هذه الكلمات التي تعبر عن مهانة وتشكل في حقيقة الأمر ليس دعوة للتفاوض، ولكنها تؤول في النهاية إلى خضوع واستسلام، والسير في ركاب استراتيجية الخصم وفق المعطيات التي يفرضها والإملاءات التي يرسخها في سياساته الفعلية من دون خطاب زاعق أو تنازل عن تلك الاستراتيجية التي يتبعها من طرف واحد.

ومن هنا فإن إدارة الصراع جملة وتفصيلا لا بد أن تقوم على فرض مفهوم الندية في هذا، وفي إحداث الإيلام المناسب حتى تنحسم مادة الحرب كأحد أساليب الصراع، وإلا فإن ترك الأمر على عواهنه وفي مساره المرسوم له يعني ضمن ما يعني تحكم الطرف الآخر في مسارات الصراع ووجهاته وأشكاله، بل وحتى في مآلاته.

ولعل المقارنة المباشرة ضمن هذين الحدثين وما واكبهما من تصريحات يعبران كيف يمكن للضعيف أن يعظم مصادر قوته ويستخدمها فيجعل للضعف سقفاً، ولقوة العدو حداً. وإن هذا ما يجعل الكيان الصهيوني من بعد قيامه بعملياته تلك والردود الحاسمة من المقاومة، كما كل مرة وبعد قيامه باستهداف المدنيين في غزة، ينتظر دخول وسطاء على الخط للأسف الشديد حتى تؤمن الطرف الصهيوني لا الطرف الفلسطيني، حتى وإن ادعت تلك الأطراف عكس ذلك.

ولعل هذا الملاحظ من وقائع هذا الصراع وتطور عالم أحداثه فيما أثبته كثير من المحللين ومن الخبراء السياسيين والعسكريين حول الشكل الذي يتخذه هذا الصراع وتصعيده، ومحاولة حصره وتبريده، ولكن المقاومة أكدت بفعلها على قدرتها أن تقدم ردعا رغم اختلال موازين القوة في السلاح وفي العتاد: "إِن تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ ۖ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ" (النساء: 104) لتعبر ضمن هذه المعادلة الاستراتيجية القرآنية عن معاني القدرة على النيل من العدو، وكذلك رغم تقديم التضحيات التي تعبر عن ثمن هذه المواقف التي تحقق الردع المناسب للعدو، فلا تجعله منتصراً بلا حساب، ومعتدياً بلا عقاب.
هكذا تبدو عمليات إدارة الصراع على الأرض حينما تنال من جوهر المفهوم، فتدلس عليه بخطاب مهين وعملية تخاذل في السلوك السياسي وفي المواجهات الحقيقية

لكن سنرى في أمر سد النهضة من استخدام الخطاب المرسل، سواء اتجه هذا الخطاب إلى أهل الوطن نفسه أو اتجه إلى العالم أو اتجه إلى الخصم أو العدو، فيحمل الكلمات المرسلة حول أسلوب يصفه صاحبة بالحكمة والصبر والقيام بالتفاوض، وهو أمر مع تحقيق الخصم لأهدافه في هذا المقام، تكتمل الدائرة في النيل من الأمن المائي المصري الذي يهدد الأمن القومي المصري جملة ويصيبه في مقتل، في الحال وفي الاستقبال. وهو ما يمكن تفسيره بالتخاذل الخطير ومتوالية التنازلات الخطيرة التي تحدث في عملية إدارة الصراع فتفتقد كل أصول المواجهة، وكل مؤشرات الندية، وهو أمر يخفض سقف القوة ويجعله متآكلا -رغم القدرة على المواجهة- ويعظم من مستوى الضعف عند الخصم فيحوله إلى قوة من جراء فعل التنازل والتخاذل.

هكذا تبدو عمليات إدارة الصراع على الأرض حينما تنال من جوهر المفهوم، فتدلس عليه بخطاب مهين وعملية تخاذل في السلوك السياسي وفي المواجهات الحقيقية. وهكذا يكون الخطاب، وكذلك الممارسة المصاحبة له تقوم بكل ما من شأنه من تطابق الأقوال والأفعال والقدرة على تعظيم أدوات القوة، واستخدامها لتحقيق الردع المطلوب مع الخسارة التي يمكن حسابها في هذا المقام، فيتأكد كيف أن إدارة الصراع بين الندية والمهانة. وشتان بين الخيارين وبين الخطابين، وكما يقال فإن المفاهيم لا تبنى في فراغ ولا تبنى في كتابات ولا في خطابات أو كلمات، ولكن المفاهيم تبنى على الأرض وبالأفعال المطابقة للأقوال. هنا فقط تكون إدارة الصراع جوهراً وحقيقة، فناً وعلماً حرباً وسلماً.

twitter.com/Saif_abdelfatah