تقارير

هل "الثورات" في العالم العربي محكومة بالفشل.. ما البدائل؟

المشاريع الإصلاحية التي يمكن أن تساهم بإحداث التغيير التراكمي ينبغي أن تؤسس وتبنى على التنوع والمواطنة
تُظهر وقائع الثورات العربية خلال العقود السابقة (سواء الانقلابات العسكرية منها أو الثورات الشعبية)، إضافة إلى تجارب ثورات الربيع العربي مؤخرا، أنها آلت – في معظمها - إلى الفشل، ولم تنتقل معها الدول العربية التي حدثت فيها من واقع الضعف والتخلف إلى واقع القوة والازدهار، والسير قدما باتجاه النهضة والتقدم.

إخفاق الثورات العربية  في تحقيق غاياتها، وتعثرها في إنجاز أهدافها التي لطالما داعبت خيالات وأحلام الشعوب المغلوبة على أمرها، والمقهورة من واقعها يفتح الباب واسعا أمام أسئلة المعوقات التي حالت دون تحقيق ذلك، كما يلحُّ كثيرا في إثارة أسئلة البدائل الممكنة لإحداث التغيير المطلوب، مع ضرورة دراسة تلك التجارب وتحليل عوامل ضعفها وإخفاقها للإفادة منها.

وفي ضوء ذلك فإن من واجب القوى الفاعلة والحية في الأمة، تعميق البحث وتقليب النظر لتحديد خيارات الإصلاح والتغيير المناسبة للحالة العربية، وهل مآلات تلك التجارب تقتضي استبعاد خيار الثورات، وقصر ميادين العمل على مراكمة المشاريع الإصلاحية بمختلف مستوياتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية.. للانعتاق من حالة الضعف والاستلاب والاستبداد التي تخيم على المجتمعات العربية منذ عقود طويلة؟

في تعليقه على موضوع التقرير لفت أستاذ العلوم السياسية في الجامعات الأردنية، الدكتور أحمد البرصان إلى أن ما وقع في العالم العربي خلال العقود السابقة "لا يمكن اعتباره ثورات، بل هو انقلابات عسكرية، كانت تنتقل فيها السلطة من أنظمة ملكية إلى جمهورية، وكذلك كان الحال في تجربة الربيع العربي، فلم تكن ثورات بالمعنى الحقيقي لذلك".


                                أحمد البرصان، أستاذ العلوم السياسية بالجامعات الأردنية.

وأضاف: "الثورات تعني وقوع تغيير شامل في مختلف الميادين السياسية والاقتصادية والفكرية والاجتماعية، كالثورة البلشفية في الاتحاد السوفيتي، والثورة الفرنسية، والثورة الإيرانية.. أما ما جرى في العالم العربي فهو قيام مجموعة من العسكريين بانقلابات عسكرية، وأغلب تلك الزمر إما مدعومة من الخارج، وإما أنها تفتقر إلى رؤى وبرامج لإدارة البلاد وفق تلك التصورات".

وردا على سؤال "عربي21" إن كانت الحالة العربية مؤهلة للثورات، وقادرة على اجتراحها، قال البرصان: "الشعوب العربية كغيرها من الشعوب الأخرى، ولا يوجد ما يمنعها من القيام بذلك، لكنها تعيش في ظل أنظمة سياسية تحكمها نخب تم تهيئتها لتسلم السلطة بعد خروج الاستعمار العسكري، لتتسلم هي الحكم ولتقوم بذات المهمة، مما يصعب مهمة التغيير والإصلاح في ظل تلك الأنظمة".

وتابع: "اجتراح الإصلاح والتغيير يبدأ من امتلاك الوعي الفكري والسياسي، والذي يعني بناء نموذج متكامل يستمد مضامينه وأفكاره من تراث الأمة وتاريخها وحضارتها، ولا يكون تابعا وخاضعا لنماذج مأخوذة من ثقافات وحضارات أجنبية خارجية، ومن ثم يتم إشاعة ذلك النموذج على المستوى الشعبي، يبنى عليه رأي عام قوي ومتماسك، لتتولد قاعدة شعبية تتبناه وترعاه وتحميه وتدافع عنه".

من جهته أكد الكاتب والإعلامي السوري، أحمد الهواس ما ذهب إليه الدكتور البرصان، إذ قال: "لم تجر منذ إنشاء الدولة الوطنية في العالم العربي، وبروز الدولة العربية في المئة عام الفائتة ثورة شعبية بالمعنى الحرفي للكلمة، في ظل الكيانات التي أوكل حكمها من قبل من "صنعها" لمن يُبقي تلك الكيانات قائمة دون أن تصل لمرحلة الاستقلال الفعلي فكانت دولا وظيفية بامتياز".


                                              أحمد الهواس، كاتب وإعلامي سوري.

وأضاف: "وقد تحولت في المرحلة الحالية لدول خدمية، فما جرى في حقبة الخمسينيات والستينيات كانت انقلابات عسكرية في دول عربية كبيرة لتكريس الحكم الفردي، وادّعى منفذوها أنها ثورات وطنية، وفي حقيقة الأمر أنها أجهضت ما في تلك الدول من حكم مدني، وصنعت دولة الفرد الذي كرّس الفساد والاستبداد، وصحّر المجتمع سياسيا، وجرّفه معرفيا، وابتلع الدولة بعد أن ابتلع النظام".

وواصل الإعلامي السوري الحواس، رئيس تحرير موقع رسالة بوست، حديثه لـ"عربي21" بالقول "الثورات التي اندلعت في نهاية 2010 كانت هي الثورات الشعبية الحقيقية، وكانت تمضي نحو الاستقلال الأول، فكل استقلالات الدول العربية ليست ناجزة، وليست دولا ذات سيادة، بل أنظمة تملك السلطة، وممنوع عنها السيادة".

ورأى أن ثورات الربيع العربي "لم تفشل، بل تم العمل على إفشالها، ففي الوقت الذي عجز فيه (الوكلاء والموظفون)، جاء الراعي لهم، فرأينا كيف تم مقاتلة الثورة السورية بقوى كبرى، كذلك حجم الأموال الذي قُدم للانقلاب على الحكم المدني المنتخب في مصر، وما جرى أيضا في تونس، ودعم حفتر في ليبيا، وكذلك تهيئة الأجواء ليتمدد الحوثي في اليمن، وتطوى صفحة الثورة اليمنية".

وعن طبيعة معوقات الثورات العربية، لفت الهواس إلى أن "مشكلة الثورات العربية داخلية وخارجية، فعلى المستوى الداخلي فإن القوى الخشنة بيد من تمت الثورة عليهم، فضلا عن التصحر السياسي السائد، وهو ما منع من تشكل جبهة ثورية داخلية، بل إن من يحسب على التغيير في مصر وتونس ـ مثلا ـ تعاونوا مع القوة الخشنة، أو الدولة العميقة مقابل إنهاء (الخصوم) الثوريين" على حد قوله.

أما المشكلة الخارجية، فتكمن، حسب الهواس في أن "التغيير في العالم العربي، يعني هدم الدولة الوطنية التي كرسها الغرب في العالم العربي، وهذا يعني انهيار البناء الرسمي العربي، ونهوضا جديدا، نهوض لن يتوقف على الدول العربية، بل سيمتد إلى الفضاء الإسلامي، لذلك لا بد من تحويل الربيع العربي إلى جحيم".

وأكمل: "وكان دور الأنظمة التي هددها التغيير أو اقترب منها تحويل الدول الثائرة إلى بقايا دول، وشعوبها تتجرع المرارة، وتصبح مثالا سيئا بدل أن تكون عامل جذب لبقية الشعوب في العمل على التحرر والانعتاق" مضيفا: "الثورات لا تُهزم لكنها تتعثر، ما حصل من ثورات مضادة، ومن سفك دماء وتهجير شعوب لن يوقف الثورات بل سيعيدها بموجات أخرى وأساليب مختلفة".

وفي ذات الإطار أبدى الأكاديمي اليمني، أستاذ علم الاجتماع السياسي بجامعة صنعاء سابقا، الدكتور عبد الباقي شمسان تحفظه على "مفردة فشل الثورات" مضيفا: "نحن في حالة انتقالية، وكان بالإمكان أن تختصر لكن تراكم الأحداث، وترك مختلف الحقول تؤسس ذاتها على الصراعات والدعم غير المعلن، هو ما أوصل غالب القوى والجماعات إلى حالة من اليأس، وتدهور الأحوال المعيشية حتى يتم التدخل لإيجاد تسوية تحت ضغط دولي، لأن جميع الأطراف غير قادرة على حسم الأمور".


                        عبد الباقي شمسان، أستاذ علم الاجتماع السياسي بجامعة صنعاء.

وتابع: "نحن أمام إعادة صياغة للمنطقة، لصالح هيمنة إسرائيلية على المنطقة، وهيمنة غربية تعود إلى منابع النفط، وإعادة الدول العربية إلى ما قبل الدولة الوطنية، بإثارة الصراعات العرقية والدينية والمذهبية داخل الدولة الواحدة، وتغليبها على محددات وأطر الدولة الوطنية الجامعة".

وتعليقا على ما يقال عن فشل الثورات العربية، قال شمسان لـ"عربي21": "هناك تعثر وعدم قدرة على إدارة تلك الثورات من خلال برامج ورؤى واضحة، ولكن القوى الثورية التي ما زالت موجودة، ستراكم خبرتها وتستفيد مما حدث، وإن تمكنت القوى الوطنية على مستوى الوطن من إعادة تنظيم ذاتها، وإيجاد برامج تتفهم الاستراتيجيات الدولية لإعادة صياغة المنطقة لربما تتمكن من مواصلة العمل لإنجاح مشاريعها".

ورأى أن "المشاريع الإصلاحية التي يمكن أن تساهم بإحداث التغيير التراكمي ينبغي أن تؤسس وتبنى على التنوع والمواطنة، وعلى الكفاءة، ومن ثم تمثيل كل القوى بنسب حقيقية وليس تبعا لما فرضته وقائع ما بعد الثورات من تمدد بعض القوى بفعل امتلاكها للقوة العسكرية، وفرض نفسها على الساحة تبعا لحجمها العسكري".

ونبه في ختام كلامه إلى أن ما يجري في المنطقة العربية من تفجير كافة الحقول، وتذكية الصراعات الطائفية والمذهبية، وعدم قدرة الأطراف المتصارعة على حسم الخلافات، سيؤثر بصورة إيجابية ـ على ما فيه من سلبيات وسوداوية ـ على الأجيال الشابة في العالم العربي، التي ستتعلم من هذه التجارب، وستكتسب معرفة وخبرات جديدة، تؤثر على وعيها ورؤيتها بصورة إيجابية، تساهم في صياغة مشاريع إصلاحية تُبنى على التنوع والمواطنة واحترام حقوق الجميع.