كتاب عربي 21

سر البرتغال الباتع.. دردشة ثورية مع خالد يوسف (1)

التجربة البرتغالية- جيتي
(قبل الدردشة)

عزيزي خالد..

لم ولن أهاجمك كشخص، فأنا لا أهاجم أحدا لشخصه، ولم ولن أهاجمك كمخرج، فأنا لا أهاجم الأعمال الفنية والأدبية، كل ما أفعله أنني أنقدها، وهذا حق وواجب في الوقت نفسه، فالنقد مهما قسى وكشف وفنّد، هو في الأساس الصحيح تقدير موضوعي للجهد الفني والأدبي وليس تهجما جاهلا عليه..

أعرف يا خالد أن الفصل بين المبدع وعمله الفني مسألة صعبة، وأعرف أن الهجوم عليك وعلى عملك الدرامي المعروض حاليا، سيخلط بين دوافع كثيرة يتجاور فيها الفني والسياسي مع الشخصي، لكن هذا الخلط لا يثنيني عن النقد، حتى لو كنت أتوقع وجود إشكاليات في الاختلاط والالتباس وسوء التلقي، فالنقد يبقى ما بقي العمل كشيء لزوم الشيء، حتى لا يمر العمل الفني بحمولته عابرا الزمن من غير تفتيش حميد، وتدقيق نزيه، وتصويب أمين، ونقاش حر إن سمح حراس الأقفال.

واحتراما للود القديم لن أكتب ملاحظاتي بصيغة الغائب، سأصوغها في شكل دردشة ودية عن الثورة والدراما والتاريخ، أيضا عن القرارات البسيطة التي نتمادى فيها (باستسهال أو بقصد) فتتحول بفعل التراكم من رفة جناح فراشة رقيقة في حديقة الماضي؛ إلى إعصار مدمر على سواحل المستقبل.

(ديكتاتور الجمهورية الجديدة)

عزيزي خالد..

هل يعجبك سالازار؟

أظنك تعرف أن الديكتاتور الدموي كان محبوبا عند أعداد غير قليلة من الشعب البرتغالي، بعد أن قدم نفسه كمنقذ للبلاد من الخراب بخطة "الإصلاح الجريء"، وتعرف أنه مؤسس ما سماه "استادو نوفو" يعني "الدولة الجديدة" (أو الجمهورية الجديدة كما يسميها سالازار مصر)..

لم يكن سالازار رئيساً ولا جنرالا، لكنه كان ديكتاتورا بدرجة رئيس وزراء، وطبعا يا خالد كان لا بد من تغيير الدستور ليسمح ببقاء الديكتاتور قرابة 40 سنة، قيّد فيها الصحافة ومنع الكلام وأطلق سراح الشرطة في القمع، متعللا بأن "إصلاحه الجريء" يحتاج إلى عدم وجود معارضة و"كلام فارغ" وتحت ضغط القمع والفقر وانتشار الجواسيس والوشايات في الأوساط الثقافية والشعبية. اختفى كثيرون، وتعفن في السجون كثيرون، ولجأ إلى المنافي كثيرون، فطاردهم المخبرون وفرق الاغتيال، وبعد أن عجزت المعارضة عن إنجاز أي تغيير بالانتخابات أو بالوسائل السياسية السلمية، تدخل القدر ليصنع مفارقة درامية نادرة، أحكيها لك باختصار شديد:

كان سالازار يحكم منذ أوائل الثلاثينيات، وقرب نهاية الستينيات انزلقت قدم الديكتاتور العجوز في الحمّام فسقط على رأسه ودخل في غيبوبة..

كان في القصر رئيس على الهامش (يشبه حالة المستشار عدلي منصور في جمهوريتنا القديمة)، فرضت عليه الأحداث وأعباء الحكم أن يصدر قرارا بإقالة سالازار وتعيين رئيس وزراء جديد، لكن الديكتاتور يستفيق فجأة من غيبوبته، فلم يجرؤ أحد أن يخبره بإقالته وتعيين حاكم غيره، بالعكس استمروا في التعامل معه كزعيم مسيطر يحكم البلاد، وظل الرجل المريض يعقد الاجتماعات مع وزراء "أونطة" ويقرأ صحافة ملفقة تتم طباعتها خصيصا له وحده، ويصدر القرارات ويمارس سلطاته الشاملة في تمثيلية وهمية يواصل فيها دور الحاكم المطلق، حتى مات بعد عامين تقريباً وانتهت المهزلة.

(الوردة والبندقية)

القصة تبدو لطيفة وغريبة يا خالد.. لكن اللطافة والطرافة لم تتوقفا عند تمثيلية تلفيق الواقع وإيهام الديكتاتور من خلال اختراع سيناريو متكامل تُعقد فيه اجتماعات وزارية لا تنفع البلاد في شيء، وتُطبع فيه صحف كاذبة لا يقرأها غير رجل واحد، ويتم فيه تقديم تقارير مزورة تتحدث عن الإنجاز والإعجاز والاستقرار، وتهمل أخبار المعارضة التي بدأت تظهر بين الطلاب في الجامعات كمقدمة لتمرد يسعى لتغيير حال البلاد نحو حلم الديموقراطية. وبعد أحداث كثيرة حدثت الثورة القرمزية وتصالح القرنفل مع البنادق، فقد اضطر الجنود لوضع زهور القرنفل في فوهات بنادقهم، لطمأنة الشعب الثائر أن الجيش لن يطلق الرصاص على المطالبين بالحرية..

بعد انتهاء "الاستادو نوفو" تصور الطيبون يا خالد أن زمن الأكاذيب انتهى، وأن الثورة قادرة على كشف الحقائق وإقامة العدل وإنصاف المقهورين، ورد الاعتبار للشهداء والسجناء السياسيين وضحايا القمع في المنافي. استغرق الأمر سنوات من النضال الديموقراطي للقضاء على الحكم العسكري، وبعد أن استقرت الأمور فكر أصحاب الذاكرة الوطنية في تخليد نضال الثوار، وفي نهاية عام 2017 قدموا اقتراحا لبلدية العاصمة بإنشاء نصب تذكاري يتضمن أسماء المضطهدين في فترات القمع السالازاري، وظل الاقتراح قيد المداولة لأكثر من ثلاث سنوات حتى وافق عليه مجلس مدينة لشبونة في اجتماع استثنائي يوم 19 أيار/ مايو 2021، وبالطبع كانت فرحة كبيرة أن يشعر أسر الضحايا بتكريم ذويهم الذين دفعوا ثمن الحرية بدمائهم وعذاباتهم في السجون وفي المنافي..

لا شك أن الفكرة راودتك كثيرا يا خالد كما راودت أغلبية المشاركين في ثورة يناير، أن تتم إعادة الاعتبار لشهداء الثورة، ولضحايا القمع الأمني قبلها وبعدها، وأعتقد أن هذه الفكرة كانت الدافع الذي شجعك على كتابة سيناريو فيلم سينمائي يرتكز على قصة يوسف إدريس عن المقاومة الشعبية والمنشورة تحت عنوان "سره باتع"، وهي القصة التي كتبها إدريس متأثرا بمشاعره الوطنية تجاه حالة المقاومة في بورسعيد أثناء العدوان الثلاثي، وهي فكرة لها أصداء كثيرة في حياة وأدب إدريس سواء من خلال تجربته المتفردة مع المقاومة الجزائرية، أو من خلال قصته الكافكاوية المميزة "حمال الكراسي" التي كتبها تحت تأثير النكسة العسكرية المزلزلة في صيف 1967 (وسوف نعود إلى هذه القصة في وقت لا حق ضمن دردشتنا عن السر الباتع)..

لا شك أنك تقدر الدراما ومفارقاتها ومفاجآت التشويق يا خالد، ولا شك أيضا أنك مثل كثيرين تفكر في أحداث يناير الغامضة وتسأل نفسك: من قتل بنونة ومينا وجيكا وأبو ضيف ونسرين ومحمد الجندي وآلاف الشباب؟ ومن دهس المتظاهرين بالحافلة المسروقة في شارع القصر العيني؟ ومن يكون الطرف الثالث؟ ومن أحرق المجمع العلمي وأنشأ تكتلات العنف وتنظيمات الأقنعة المسلحة وهاجم المباني والفنادق في محيط السفارة الأمريكية ليقدم للسادة في واشنطن رسائل مشفرة؟ وربما فكرت يا خالد مثل ثوار البرتغال ورغبت في إقامة نصب تذكاري يخلد أسماء الشهداء والمضطهدين الذين دفعوا الثمن فادحا من أجل الثورة التي "عرّت كتف البلاد وكشفت ظهرها"!

فكرة حلوة مفيش كلام، لكن (يا ترى.. يا هل ترى) نقدر ننفذها من غير أكاذيب ولا تلفيق؟.. نقدر ننفذها من غير ما نزوّر الحقائق وننسب البطولات لحد تاني.. ربما كان في الصفوف المضادة للثورة وأهدافها؟

عزيزي خالد..

لا تشغل بالك كثيرا بسؤالي الاعتراضي، وركز في حكايتي الرمزية عن "التجربة البرتغالية"، فالمبادرة التي أعجبتني عن "النصب التذكاري" تحولت فجأة إلى مهزلة درامية وتاريخية تستحق التأمل، فبعد إنشاء النصب التذكاري للثوار المضطهدين، نشر أحد المثقفين مقالا صادما كشف فيه أن "النصب" يتضمن أسماء مخبرين ووشاة وعملاء سريين لجهاز الشرطة السياسية في البرتغال! وهاجت الدنيا، فالمثقف الذي نشر المقال لم يكن من "أهل الشر"، لكنه أستاذ للتاريخ وناشط سياسي مستقل يدعى "ديوجو رامادا كورتو"، يكتب في مجلة أسبوعية اسمها "الرأي".

ومن المفارقات الأشد أن كورتو هاجم في مقاله شاعرا ومثقفا بارزا، واتهمه بالعمالة للبيدا (PIDE)، هو اختصار اسم جهاز الشرطة السرية في دولة سالازار الجديدة، وانفجر النقاش في أنحاء البلاد ليس فقط بسبب اتهام الشاعر الأزوري العظيم "بيدرو دا سيلفيرا"، ولكن بسبب حالة الخلط والتلفيق وتزوير التاريخ التي شوهت "فكرة النصب التذكاري" وجمعت بين الشهداء والعملاء والوشاة في قائمة واحدة باعتبارهم "أبطالا وأساطير".. وقالوا إيه علينا دول..؟

(الصندوق الأسود)

بعد نقاشات وتحقيقات وشهادات مطولة تمت تبرئة الشاعر الأزوري من العمالة، واعتذر كورتو عن اتهامه لسيلفيرا، لكن تبين أن المؤرخ لم يخطئ بلا سبب، فالعملاء الخبثاء وضباطهم في "البيدا" كان ينتحلون أسماء بعض المشاهير ويتخذونها كغطاء لمهامهم القذرة، ومنهم العميل أراجاري كامبوس الذي انتحل اسم "بيدرو دا سيلفيرا" وتم تكليفه باختراق أوساط المعارضة البرتغالية المنفية في البرازيل، ومنهم العميل "ماريو دي كارفالو" الذي اخترق المعارضة في أوروبا وأسهم في اغتيال رئيس الأركان البرتغالي "أمبرتو ديلجادو"، الخصم السياسي الكاريزمي لسالازار، والذي حقق شعبية جارفة قبل أن يرحل إلى المنفى ويتم اغتياله في عملية أمنية مثيرة للجدل حتى الآن.

وكذلك كان بين الأسماء البارزة للوشاة شخص يسمى "دوارتي دي جوسماو"، عاش حياته كمناضل معارض للديكتاتور سالازار، وبعد رحيله بسنوات كشفت الوثائق عن العار المخزي للدكتور جوسماو، ونشرت الصحافة 14 تقريرا كان جوسماو قد قدمها للشرطة السرية؛ تضمنت معلومات كثيرة عن طبيعة عمل المخبرين ومكافآتهم المالية وأساليب إخفاء نشاطهم، ومدى الحقارة الأخلاقية التي سادت في التعامل الأمني مع المعارضة السياسية.. والمضحك المبكي يا خالد أن "المناضل المخبر" كان قد مات قبل سالازار بخمسة أعوام تقريبا جراء حادث سيارة في ريو دي جانيرو، حيث كان يتجسس على السياسيين المنفيين ويسميهم في تقاريره بالمخربين الشيوعيين المعارضين للدولة الجديدة، والصدفة وحدها ساعدت على كشف التاريخ السري للواشي المتخفي بعد العثور على صناديق تتضمن نسخا من تقاريره ومعلوماته عن المعارضة واتصالاته مع الشرطة؛ في شقة سكنية كان يقيم بها لفترة أثناء ملاحقته للمعارضين..

(الثورة العكاشية)

لا تهتم يا خالد بالأسماء البرتغالية الصعبة الواردة في هذه القصص، ولا تنشغل بأسئلة من نوع: مالنا ومال البرتغال (ما لنا وما للبرتغال؟).. العبرة يا خالد بالتلفيق الذي يمسخ ويزور تاريخنا كله تقريبا، فأنا منشغل بالطريقة التي يكتبون بها التاريخ في بلادنا، وتؤلمني نتائج كتابته بالقدرة، وبالقوة..

وأنبهك على الفرق بين القدرة والقوة في كتابة التاريخ، فالقوة ترتبط بالسلطان وقوة فرض الحقائق بالسلاح، والقدرة تتوفر لمن يقدر على التسجيل من الكتبة والنحاتين والرواة، والمؤسف أن تجتمع القدرة والقوة في اتجاه واحد، لأن القوة تستطيع إخضاع وتأجير وتسخير من يملكون القدرة على الكتابة والحكي وإقامة النصب التذكارية، فيصبح هذا من ذاك، حتى يصدق توفيق عكاشة أنه قائد تاريخي لثورة 30 يونيو، ويجد المنابر التي يعلن فيها ذلك للعموم، فيصلني الكلام ويصل لغيري..

قد نسخر في زماننا من قول كهذا القول العكاشي، لكن بكل أسف مثل هذه الافتراءات تمر عبر الزمن فيتحول "التلفيق" إلى "حقائق تاريخية"، وهي الفاجعة التي صدمتني في سيرة شيخ الأزهر عبد الله الشرقاوي الذي قدمه التاريخ لنا كثائر في مواجهة نابليون، بينما في الأصل كان عميلا بالأجر في ديوان الغازي، ومثله شيخ السادات الأشراف ونقيبهم من بعده خليل البكري، بينما لا يكاد التاريخ يذكر الشيخ الثائر أحمد الشرقاوي الذي جنّد سليمان الحلبي وحمّسه وآواه، وانتهت حياته بالإعدام وإلقاء جثته في النفايات وراء أسوار القلعة.

وهكذا يا خالد دأب تاريخنا الرسمي على التزوير وتعوّد أن يسرق من أحمد ويعطي لعبد الله، فيختلط الشهيد بالعميل، ويذهب المجد لمن لا يستحق..

في المقال المقبل نواصل الدردشة في عدد من القضايا العامة، قبل أن أتناول المسلسل بالنقد الصريح، راجيا أن تعود الصراحة بالنفع للجميع.

tamahi@hotmail.com