قضايا وآراء

العشرية السوداء (3): إعلام البروباغندا والتحريض

ساهم الإعلام في التمهيد للانقلاب في مصر
البروباغندا لمن لا يعرف هي الدعاية الفجّة، أو الرسائل الموجهة بهدف التأثير في الرأي العام، وهي تختلف عن الإعلام بمفهومه العلمي الذي يهتم بتقديم المعلومات بمهنية حتى وإن تضمن أبوابا للرأي يعبر فيها كل صاحب رأي عن موقفه ورؤيته. وقد تحول الإعلام المصري خلال السنوات العشر الماضية إلى بروباغندا فجة، وفقدَ سمْته كإعلام شهد أزهى أيامه عقب ثورة 25 يناير 2011 وحتى الانقلاب عليها في 3 تموز/ يوليو 2013.

منذ اللحظات الأولى لانقلابه عبّر الجنرال السيسي عن رغبته في إيجاد إعلام يشبه إعلام عبد الناصر، إعلام يقوم بحشد الرأي العام خلفه في كل سياساته وإجراءاته دون نقاش، كما كان الحال مع ناصر. ومنذ اللحظات الأولى لانقلابه اهتم السيسي بصناعة ما وصفه بالأذرع الإعلامية، فقد كان الجنرال مدركا لخطورة دور الإعلام، ورأى بعينه كيف ساهم الإعلام في تشويه حكم الرئيس مرسي، وحشد الكثيرين لمعارضته، ولاحقا للخروج في مظاهرات 30 يونيو التي مرت قبل يومين ذكراها العاشرة.

وفي الوقت الذي يخشى فيه السيسي من إمكانية أن يكرر الإعلام معه ما فعله مع مرسي، فإنه سعى للسيطرة التامة عليه، وضمان ولائه له. وقد تم ذلك على مراحل انتهت بالصورة الحالية، مجرد أبواق تقوم بالتحريض ضد الشعب المصري، وتردد ما يطلب منها، بتكرار ممل، دفع القراء والمشاهدين للانصراف عنه إلى الإعلام الأجنبي أو الإعلام المصري المعارض الذي يبث من خارج الحدود.

يعتقد السيسي ورجاله المقربون أن الانفتاح النسبي في أواخر حكم حسني مبارك هو الذي منح الإعلام قوة كبيرة، ومصداقية معقولة، وبالذات الإعلام الخاص، وأن هذه الحرية النسبية هي التي مهدت لثورة يناير، وأن السماح بهامش مماثل من الحرية يمكن أن يفتح الباب لثورة جديدة في ظل ظروف معيشية أكثر بؤسا من أيام مبارك، وفي ظل غضب شعبي أكثر احتقانا من أيام مبارك

يعتقد السيسي ورجاله المقربون أن الانفتاح النسبي في أواخر حكم حسني مبارك هو الذي منح الإعلام قوة كبيرة، ومصداقية معقولة، وبالذات الإعلام الخاص، وأن هذه الحرية النسبية هي التي مهدت لثورة يناير، وأن السماح بهامش مماثل من الحرية يمكن أن يفتح الباب لثورة جديدة في ظل ظروف معيشية أكثر بؤسا من أيام مبارك، وفي ظل غضب شعبي أكثر احتقانا من أيام مبارك.

شهر العسل بين السيسي والإعلام الذي سانده لم يدم طويلا بعد الانقلاب، حيث أظهر السيسي العين الحمراء لكبار الإعلاميين الذين التقوه قبل ترشحه في 2014، وحين تفوه أحدهم (إبراهيم عيسى) بجملة حكم عسكر، نهره السيسي بكل غضب "لا أسمح لك بترديد هذه الكلمة"، ومنذ تلك اللحظة تجنّب باقي الإعلاميين هذا المصطلح، ومنذ تلك اللحظة بدأت الإجراءات العملية لإعادة هيكلة الإعلام وفقا لرؤية السيسي قبل أن يصل إلى مقعد الرئاسة.

السيطرة على الإعلام، بهدف تأسيس منظومة إعلامية جديدة مرت عبر عدة مسارات؛ كان أولها إغلاق القنوات والصحف المناهضة للانقلاب، وحبس مسئوليها وإعلامييها، وكل المشتبه في تعاونه معها، ثم كانت الخطوة التالية بإبعاد الوجوه الإعلامية الليبرالية واليسارية المرتبطة بثورة يناير(والتي دعمت مظاهرات 30 يونيو)، أمثال يسري فودة، وحافظ الميرازي، وجيهان منصور، ودينا عبد الرحمن، وريم ماجد، وبلال فضل، وإبراهيم عيسى، ومحمود سعد، وغيرهم. لقد أراد النظام الجديد أن يصنع رموزا إعلامية مرتبطة به، لا تشعر بأنها صاحبة فضل عليه كما كان حال أولئك المبعدين، ولكنه فشل خلال هذه العشرية السوداء أن يصنع نجوما ذات قيمة واضطر إلى إعادة بعض الوجوه التي "ركنها على الرف" مثل إبراهيم عيسى ومحمود سعد وحتى لميس الحديدي وفقا لشروط وضوابط خاصة.

كان المسار الثاني هو التوجيه المباشر للإعلاميين بما يقال وما لا يقال، وكيف تتم معالجة أي حدث، حيث تم جمع رؤساء تحرير الصحف، وكذا رؤساء القنوات، ورؤساء تحرير البرامج في مجموعات "واتس أب" بهدف إيصال المعلومات والتوجهات الإعلامية لهم عند كل حدث، ولأن التوجيهات كانت تصدر من هاتف سامسونج، وهو ما يظهر في نهاية الرسائل، فقد أصبح الوصف الدارج هو إعلام السامسونج. كانت بعض المجموعات تحت إشراف وزير الدولة للإعلام أسامة هيكل (تمت الإطاحة به لاحقا لحدوث صدام بينه وبين إعلاميين موالين لجهات أخرى داخل السلطة)، وبعض المجموعات تحت إشراف أحد ضباط المخابرات الحربية، وقد تم توحيد الجهود مؤخرا تحت إشراف ضابط في مكتب الرئاسة مباشرة.

أما المسار الثالث فهو الاستحواذ المباشر على القنوات والصحف والمواقع الخاصة التي كان يمتلكها رجال أعمال، وقد بدأت عمليات الاستحواذ من خلال شركة إعلام المصريين التي كان واجهتها رجل الأعمال أحمد أبو هشيمة، بينما كانت في الأصل تابعة للمخابرات، ثم انتقلت ملكية القنوات والصحف إلى الشركة المتحدة حاليا، والتي أصبحت إمبراطورية إعلامية كبرى تضم قنوات وصحف ومواقع إلكترونية، كما تضم شركات إنتاج تلفزيوني وسينمائي، وشركات دعاية وإعلان، وتنظيم حفلات ومسابقات.. الخ، وأصبحت الشركة لا تهيمن على المنابر الإعلامية فقط، بل الإنتاج التلفزيوني والسينمائي أيضا، ضمن هذه المنظومة الإعلامية الجديدة.
السنوات العشر الماضية حسب منظمة مراسلون بلا حدود هي "أسوأ سنوات حرية الصحافة في مصر" التي تراجعت خلال تلك العشرية السوداء عشر درجات على مؤشر حرية الصحافة، ولا تزال مرشحة لمزيد من التراجع مع استمرار وتواصل القمع

في ظل هذه المنظومة الجديدة لم يعد للإعلام القديم (الصحف الحكومية، وقنوات وإذاعات ماسبيرو) قيمة تذكر، بل إنها تمثل عبئا بسبب مديونياتها الضخمة التي تتجاوز الستين مليار جنيه، والتي لا تستطيع توفير رواتب موظفيها فتلجأ لطلب الدعم المالي من الحكومة دوما. وفي هذا الإطار بدأت تحركات للتخلص منها بطريقة هادئة، عبر تقليص المساعدات المالية، ووقف التعيينات الجديدة، وترك هذه المؤسسات تصفي بعض قطاعاتها وقنواتها وصحفها بنفسها وبطريقة تدريجية ترشيدا للنفقات. وفي هذا الإطار تم إغلاق بعض قنوات ماسبيرو كما تم إغلاق بعض الصحف المسائية في المؤسسات الصحفية الحكومية، وهناك خطط لإغلاق المزيد، وتصفية العمالة تدريجيا.

كان الإعلام المصري -ولا يزال- خلال هذه العشرية السوداء في أسوأ أوضاعه، أكثر من عشرة صحفيين لقوا حتفهم أثناء ممارستهم لعملهم في تغطية الاعتصامات والمظاهرات، وأكثر من 40 إعلاميا لا يزالون خلف القضبان، بينما مر بتجربة الحبس المريرة لفترات متفاوتة أكثر من 300 إعلامي خلال السنوات الماضية، والعديد من الكتاب مُنعوا من نشر مقالاتهم، وأكثر من 600 موقع تم حجبه، كما تم إلغاء العديد من البرامج، ونقابة الصحفيين تم اقتحامها والقبض على صحفيين من داخلها لأول مرة منذ تأسيسها.

والمحصلة أن السنوات العشر الماضية حسب منظمة مراسلون بلا حدود هي "أسوأ سنوات حرية الصحافة في مصر" التي تراجعت خلال تلك العشرية السوداء عشر درجات على مؤشر حرية الصحافة، ولا تزال مرشحة لمزيد من التراجع مع استمرار وتواصل القمع.

twitter.com/kotbelaraby