كتاب عربي 21

لم تعد تونس تصنع الفرح..

يموت الشباب في البحر- تويتر
يا إلهي لم تعد تونس موضوعا لصنع الفرح ولا موطنا للسعادة المغرورة.. هذه مشاعر مواطن تونسي أوشك أن يصير مواطنا فأعيد إلى وضع الكائن الغريزي المشغول بطابور الخبز. انتهت تلك الموجة السعيدة التي تشبه استقبال الرسالات النبوية والتي كانت جعلت من هذا التونسي ذات ثورة كائنا سعيدا، بل طروبا ويفتخر ويزايد بحريته على العربان من حوله، وينتصب مرات معلما ثوريا في القنوات.

الانقلاب قتل الفرح في تونس، وقد قتل معه الحماس إلى التغيير وأودى بالثقة بين الناس فلا "الشعب العام" يثق في السياسيين ولا السياسيون يعوّلون على "شعب عام". الأجهزة تحكم ولا معترض على حكمها، والمنقلب يهرس الحَلْفاء على أكتاف الشعب العام بنقاباته وأحزابه ومجتمعه المدني..

ما معنى هرس الحلفاء؟

قبل اكتشاف النفط واستخراج البلاستيك منه كان أهل تونس يصنعون حبالا من حلفاء لأغراض شتى، وكان ذلك يقتضي منهم قلع الحَلْفاء من منابتها الصحراوية ثم تليين جفافها ثم فتلها فتكون حبالا. وكانت بعض ممارسات الاستعباد أن يجبر العبد أو الخادم أو المرأة على هرس الحَلفاء أي تليينها، وهو عمل من أعمال السُخرة الشاقة.

الانقلاب قتل الفرح في تونس، وقد قتل معه الحماس إلى التغيير وأودى بالثقة بين الناس فلا "الشعب العام" يثق في السياسيين ولا السياسيون يعوّلون على "شعب عام". الأجهزة تحكم ولا معترض على حكمها، والمنقلب يهرس الحَلْفاء على أكتاف الشعب العام بنقاباته وأحزابه ومجتمعه المدني

نستعيد العبارة لتشبيه ما يفعله الانقلاب بالتونسيين، إنه يهرس الحلفاء على أكتافهم في عملية سخرة تاريخية تحولهم كل يوم إلى عبيد جياع؛ يعملون كما عمل عبيد المزارع في جمع القطن وحلجه في مزارع أمريكا الناشئة، لكن ليس للتونسيين ما للأبيض الأمريكي من مستقبل.

هرس الحَلفاء أو الاستعباد الجديد هو تنفيذ حرفي متدرج وبقوة الأجهزة لإملاءات المقرضين الدوليين الذين يراقبون الوضع وينتظرون في مكاتب مكيفة أن تنفذ مطالبهم؛ وخلاصتها تفكيك آخر أدوات دولة الرعاية وفتح المربع الجغرافي التونسي (الذي لم يعد دولة إلا على الورق) لتنفيذ كل الإملاءات التي يتقن المقرضون فرضها، وقد وجدوا في المنقلب أداتهم التنفيذية (هل وجدوه أو صنعوه؟ هذا نقاش يتوّهنا في تفاصيل لا نملك عليها معلومات كثيرة ولكن يمكننا الجزم بيقين بأن هذا المنقلب صنيعة أو عجينة ليّنة تشكل لتنفيذ أجندة تهربت منها حكومات الثورة؛ خوفا من كلفتها وعجزا أمام بناء نموذج ليبرالي واع بإمكانيته ويخطط للتحرر من وهم الرعاية).

قمر جرش كان حزينا

هذا عنوان ديوان شعري للفلسطيني عز الدين المناصرة رحمه الله.. تحت قمر ذي الحجة في سماء تونس أراقب ما يجري فأجد قمر تونس حزينا مثل قمر جرش ويطاوعني الرثاء.. غيوم ملبدة جعلت القمر أشهب مثل جلد ذئب ميت.

أنزل الشارع فأجد الناس في ضنك شديد.. طوابير على المواد الأساسية، إذا توفر الخبز انعدم الزيت، وإذا توفر الزيت انعدم وقود السيارات، والأسعار تلتهب على يد محتكرين وشبكات مجرمة يلعنون الانقلاب ويجنون منه مغانم كثيرة. تضاعف سعر القهوة الرخيصة أربع مرات في سنة، أما السكر الذي كان متروكا على مصاطب المقاهي فصار عملة نادرة، والمقهورون يتندرون بأن ذلك مفيد لمرضى السكري فكل التونسيين مصابون به أو هم على وشك.

أين الفرح التونسي الجميل بالثورة؟ وأين دروس الحرية التي زعمنا نشرها بين العرب؟ الانقلاب يجعلنا نأكل أحذيتنا خوف المواجهة الشجاعة فلا أحد مستعد لدفع ثمن الحرية. آه.. نذكر أنه في زاوية ما توجد جماعة صنعتها الأجهزة تبث بين الناس كل ساعة أنه إذا سقط الانقلاب عاد "الخوانجية". أعوان الأجهزة المبثوثون في طوابير انتظار الخبز يحترقون تحت شمس كافرة ويصرخون: كل مصائبنا من "الخوانجية". هنا ربط الانقلاب فرسه وهنا فقدت تونس قدرتها على صنع الفرح لأولادها ولإخوتها من العرب المقهورين، هنا نجح الانقلاب في قتل روح الثورة وهي مهمته الأصلية.

نذكر أنه في زاوية ما توجد جماعة صنعتها الأجهزة تبث بين الناس كل ساعة أنه إذا سقط الانقلاب عاد "الخوانجية". أعوان الأجهزة المبثوثون في طوابير انتظار الخبز يحترقون تحت شمس كافرة ويصرخون: كل مصائبنا من "الخوانجية". هنا ربط الانقلاب فرسه وهنا فقدت تونس قدرتها على صنع الفرح لأولادها ولإخوتها من العرب المقهورين، هنا نجح الانقلاب في قتل روح الثورة وهي مهمته الأصلية

الرّزَام والحلفاء

أعود إلى الصورة إياها.. الحَلفاء لا تلين إلا بالرزام، فما الرزام؟ إنها أداة ليس أكثر، منجورة من عود زيتون خشن ولها مقبض يملأ اليد، تُدق بها الحلفاء على صخرة أو جذع شجرة متيبس من جنسها، فتلين ولا تقطع، فتطاوع في صنع حبل، ومن الحبل تصنع أربطة تشد الدواب إلى مذودها. الحَلفاء هي هذا الشعب الذي سرقت منه حريته، ولكن من الرزام؟ إنها المنقلب وأدواته، وهو يلين الشعب بالطرق عليه ليصير عجينة طيّعة تُفتل منها حبال أو مراسٍ أو حبال مشانق.

المنقلب/ الرزام يليّن الشعب التونسي (كما تليّن الحَلفاء) بالأزمات الغذائية فيقبلون مقهورين بشروط البنوك الدولية. مع التنبيه لعربي قد يمر بالمقال، إحدى أدوات الرزام هي النقابة (عنوان الكذبة التونسية الكبرى المسماة المجتمع المدني) التي دمّرت موازنة البلد بمطلبية مجحفة؛ كانت هي أول من يعرف أثرها على موازنة هشة في بلد موروث عن نصف قرن من السياسات العشوائية والفساد المحمي بقوة الأجهزة.

الحلفاء التونسية؛ أعني المواطن التونسي دخل مرحلة رثاء الذات، وما أكتبه بعض حديثه إلى نفسه وإن لم أسجله (فما أنا إلا من غزيّة)..

هل ننتظر الشعب العام أن يثور مرة أخرى فيسقط الانقلاب؟ هذه من أماني النخب (وكنت أكتبها وأعتذر الآن عن ذلك) وليس من معطيات الواقع. الشعب العام المتهم بالجهل غربل النخب والنقابات والأجهزة أيضا، وذهب يبحث عن حلوله الفردية ولا نراه يغامر بدفع فلذات أكباده من أجل الهروب من تحت الرزام. أسمع قوما يقولون: أن يموت ابني غارقا في البحر بحثا عن فرصة أفضل من أن يموت برصاص الأجهزة لتحكم مصيره نقابات مجرمة توجهها السفارة الفرنسية. لا لبيت شعر قديم يتظاهر بالشجاعة "تعددت الأسباب والموت واحد"، لا الموت مختلف. سمك القرش في المتوسط أرحم من أجهزة الرزام أعني المنقلب.

جملة معاكسة لكل السياق ستفرح أجيال بعدنا بهزيمتنا وتبني وضعا أفضل لا يكون فيها المواطن حَلفاء تحت رزام سلطة فاسدة. متى؟ ستكون تلك سنن لم نضعها لكنها صنعت تواريخ.