مقالات مختارة

الإعلام الغربي أمام أخطر امتحاناته

جيتي
لم تعد إسرائيل تكتفي باتهام الإعلام العربي، وخصوصا قناة الجزيرة، بالتحيز وترويج المزاعم المغرضة. بل إن من عناصر الجدة والمفاجأة التي واكبت العدوان الهمجي على شعب غزة، أن إسرائيل صارت تتهم الجميع شرقا وغربا وتطلق النار في كل اتجاه وعلى كل هدف إعلامي. إذ لم تبق اليوم وسيلة إعلام غربية كبرى إلا خاصمتها حكومة الكيان الاستيطاني الصهيوني واتهمتها بالتحيز ضدها. القائمة تطول: وكالة رويترز، وكالة الصحافة الفرنسية، النيويورك تايمز، قناة تي. في. 5 الفرنسية، بل وحتى السي. أن. أن التي يشهد لها الكون كله بالانحياز لإسرائيل!

وقد كانت البي. بي. سي أول أهداف القنص الإسرائيلي ضد وسائل الإعلام الغربية، ليس لأن البي. بي. سي قررت هذه المرة عدم استخدام نعت «الإرهاب» الذي تعوّد الإعلام الغربي أن يلصقه آليا بحماس، بل لأنها متهمة على الدوام في أوساط الجالية اليهودية في بريطانيا، بأنها يسارية الهوى ومتحاملة بالطبع والسليقة على دولة إسرائيل. ومثلما جرت العادة، اضطلعت جريدة جويش كرونيكول بشن الموجة الأولى من الاتهامات.

والغريب أن رئيس تحريرها جايك واليس سايمنز قد وجد مجالا رحبا لترداد اتهاماته الشاذة في شططها عند صحفي مرموق، هو رئيس التحرير السابق لجريدة الغارديان، ورئيس التحرير الحالي للشهرية الفكرية «بروسبكت» آلن راسبريدجر، في بودكاسته الأسبوعي المخصص لشؤون الإعلام وشجونه.

وقد كان من نتائج الهجمة الإسرائيلية على كبريات وسائل الإعلام الغربية، أن عادت إلى دائرة النقاش قضايا أخلاقيات العمل الصحفي، والحياد في نقل الأحداث، والتفريق الصارم بين وظيفة الأخبار والإعلام ووظيفة التعليق والتحليل. وقد استرعى انتباهي في خضم هذا النقاش الواسع نصان. الأول مقال نشره مدير وكالة فرانس-برس فابريس فريس في لوموند يرد فيه على الاتهامات الإسرائيلية، بأنها صارت «وكالة فرانس-فلسطين» (ولو أنه لم يذكر إسرائيل بالاسم، وآثر الحديث بالتعميم والتنكير عن «اتهامات بالانحياز»)، من خلال التذكير بالمبادئ المهنية التي تلتزمها الوكالة منذ عقود طويلة.

أما النص الثاني، فهو مجمل التصريحات التي أدلت بها الباحثة جيرالدين مولمان بمناسبة صدور كتابها «دفاعا عن الوقائع»، الذي تحاول فيه الانتصار للصحافة الإخبارية ضد «الغزو الثقافي» الجارف، المتمثل في تفشي التحيز والتزييف. ترى مولمان أن الصحافة تعاني اليوم أخطر الأزمات في تاريخها على الإطلاق؛ بسبب اندثار «الوقائعية» (أي الالتزام بنقل الوقائع والأحداث كما هي)، وسطوة الآراء (غير المستندة على معطيات يمكن التحقق منها)، وغلبة الأهواء (التي هي نقيض الحق والحقيقة؛ لأنها لا تأتي إلا ترجمة لتحيزات أو خدمة لأغراض). وتذكر مولمان أن انتشار أخبار زائفة بعيد 7 أكتوبر، مثل زعم إسرائيل أن حماس قتلت أربعين رضيعا إسرائيليا، هو من آثار ما تسميه «تحويل العالم إلى واقع افتراضي»، بحيث يتم التخلص مما يسميه ماكس فيبر «الوقائع المزعجة» أي الوقائع، التي من شأنها أن تفند الآراء أو الأوهام أو الأباطيل التي تتمسك بها إحدى الجماعات تمسكا مطلقا، بصرف النظر عن مدى تطابقها مع أحداث العالم الحسي الملموس.

وقد تبين أن حنا آرندت كانت محقّة عندما بكّرت منذ الستينيات بالتعبير عن القلق على ما سمته «المادة الوقائعية»، ذلك أن الأكاذيب غالبة اليوم على الوقائع في وسائل التواصل الاجتماعي، وهذه الغلبة هي من آثار غلبة الخطابات على السرديات. والخطاب، في تعريف جيرار جينيت، هو حديث الذاتية والمشاعر والأهواء، أما السردية، فهي الحديث الذي يتوخى الموضوعية لأنه يسعى إلى إحراز القبول لدى الجميع. وقد اكتشفت الصحافة أن الحاجة الاجتماعية إلى السرديات عنصر مهم في الحياة الديمقراطية؛ حيث أدرك أرباب الصحف الأمريكية في أواخر القرن 19 أن الوصول إلى الجمهور العريض؛ أي إلى أفراد ليسوا بالضرورة متفقين، يقتضي تقديم سرديات تروي أحداثا ووقائع، لا خطابات تعرض آراء تبعث بالضرورة على الانقسام.

وهكذا تسنّى للصحافة أن تضمن الاتفاق حول الوقائع قبل أن تضمن حرية الاختلاف في الآرا؛. أي إن السرديات الصحفية قد كانت طيلة قرن ونصف هي القاعدة المشتركة التي وفرت شرط التدافع الديمقراطي. وترى مولمان أن ضامن الوقائعية وجنديّها هو المراسل الصحفي الموجود في الميدان وجودا فعليا، «شاهدا وسفيرا». كما تؤكد أن الحياد مثال ينبغي الطموح إليه، مذكّرة بأن فيلسوف التنوير الأسكتلندي آدم سميث، هو الذي أسس نموذج «المشاهد المحايد» في كتابه «نظرية المشاعر الأخلاقية».
(القدس العربي)