كتب

التصورات العربية حول النهضة.. الحرِّيةُ مقابلَ الليبرالية.. قراءة في كتاب

بعد الحرب الباردة، ونهاية الحرب الأهلية اللبنانية (1975 ـ 1990)، ظهرتِ النهضةُ ثانية بكونِها موضوعا من الأهمية بمكان في الخطاب العربي بشكل عام.
الكتاب: الفكر العربي بعد العصر الليبرالي نحو تاريخ فكري للنهضة
الكاتب: دجنس هانس ـ ماكسوايس ـ ترجمة فؤاد عبد المطلب
الناشر: مؤمنون بلا حدود للنشر و التوزيع ، المغرب ولبنان، الطبعة الأولى 2019.
عدد الصفحات 726 من القطع الكبير

يقول الباحثان دجنس هانسن وماكس وايس: "في عام (1924)، أجرت الجامعة الأمريكية في بيروت  مسابقة في مجال كتابة مقالة طلابية حول (أسباب النهضة العربية في القرن التاسع عشر)، وكان على الفائز بجائزة (هاوارد بليس) الطالب البالغ من العمر (22) سنة، أنيس نصولي، أن ينشر مقالته الرمزية على نحو متسلسل في مجلات الجامعة الأمريكية في بيروت، وجامعة القاهرة المحلية قبل نشرها بصفة كتاب دراسيّ واسع الانتشار عام (1926)، وكان وصف نصولي للنهضة أكثر تطورا بكثير من قصص زيدان المتعلقة بالسيرة، وتوقِّعَ، على نحو ما، مفهوم حوراني، ومهّدت أوصاف السفر لمستشرقي التنوير الكونت دي فولتي وجان لويس بوركهاردت الطريق لكتابه، وجرى سرد احتلال نابليون لمصر من عام (1798) إلى (1801)، والصعود اللاحق لمحمد علي باشا وفق رواية المؤرّخ المصري عبد الرحمن الجبرتي، واندمج دور المبشرين الأجانب في تأسيس المدارس وآلات الطباعة في تحليل كان مميزا، لتقسيمِه ذلك  إلى فصول تدورُ حول مؤسسات ثقافية جديدة: (الصحافة والمنشورات)، (الجمعيات الأدبية والعلمية)، (المكتبات العامة)، (المستشرقون والنهضة)، (المسرح) و(الهجرة).

وخلال السنة نفسها، التي نُشر فيها كتاب نصولي الدراسي حول النهضة، نشرَ طه حسين (1889 ـ 1973) كتابَه المؤثر (في الشعر الجاهلي)، الذي تحدّث عن موضوع يتعلق بكون العديد من القصائد العربية الكلاسيكية المنسوبة إلى (عصر الجاهلية) كتبت في الحقيقة بعد ظهور الإسلام، وسبَّبَ هذا الكتابُ ضجّة هائلة، واتُّهِم حسين بالكفر بسبب الشكوك العلمية التي صبَّها على الطبيعة القدسية للقرآن، وأنذرت بإمكانية تحريض عصيان شعبي، وكان طعنُ حسين ودفاعه اللاحق سيمزق (جدليا وبشكل كلي) الانسجام والتوفيقية اللذين ميّزا النهضة بعد التصدعات المتقطعة التي ظهرت علنا، وكذا عند نشر كتاب فرح أنطون (فلسفة ابن رشد) عام (1903)، وكتاب علي عبد الرازق (الإسلامُ وأصولُ الحكم) عام (1924)."(ص 51)

في سياق هذا الجدل حول تاريخية النهضة العربية، جاهد المؤرخ المغربي عبد الله العروي (ولد عام 1933) من أجل استعادة  التقليد الليبرالي العربي للنهضة في عمله المؤثر (أزمة المثقفين العرب: تقليدية أم تاريخانية؟)، ونشر لأول مرَّة باللغة الفرنسية عام 1974، ودمج مفهومه التاريخاني الماركسية بالليبرالية، وبتحديد أصول وعي النهضة في منتصف القرن التاسع عشر، رسّخ ترابطا بين الإنتاج الثقافي العربي وتوسع الرأسمال المنظم عبر البحر المتوسط.

وناقش العروي موضوع كون النظرية النقدية يمكنها مواجهة الاستعمار بحقائق سجلَّها التاريخيّ القاسية، التي لها علاقة بالشراسة الاقتصادية واللغوية على نحو أفضل من أي بدائل انهزامية في عصره، وقد قام بذلك بشكل خاص حين ردَّتْ النخب  القومية، في المغرب على سبيل المثال، على العنف الاستعماري عن طريق محاولة (استرجاع الحالة التقليدية) للمجتمع (أي محاولة تقليد السلف).

وتغلّب على تدخل العروي تأثير مواطنه، الفيلسوف المتأثر بابن رشد، محمد عابد الجابري (1935 ـ 2010)، واختزل عمل الجابري المؤلف من أربعة مجلدات (نقد العقل العربي)، المنشور بين (1980 ـ 2000)، القرن التاسع عشر في حادثة مستمدة من التاريخ الإسلامي، واستنتج أنَّ (النهضة الحديثة) مجرد محاولة إحياء، وأنَّها تفتقر إلى الأصالة اللازمة لفضح (الاستعمار الأوربي) والمنطق الاستشراقيّ للتقهقر العربي، ولذلك لم تحقِّق النهضة تغييرا معرفيا شبيها بالقفزات الثقافية السابقة للعهدين العباسيّ والأندلسي.

وبتحديد الموقع (الحقيقي) للنهضاتِ قبل عصر النهضة الأوروبي، لكن بعد النبي محمد (ﷺ) بكثير، أطلق الجابري نقدا متعدد السمات للقراءات الليبرالية، والماركسية، والأصولية الإسلامية للتاريخ الإسلامي، وعالج في بديله ما يدعوه بالمعيار العربي ـ الإسلامي، لكونه (تراثا) فعالا، استدعى ارتباطا عقلانيا ونقديا من دون الخضوع إلى الأطر الأوربية للتحليل، وجعل نقد الجابري المبكِّر لتواطؤ النخب العربية في الليبرالية الجديدة عملَهُ شعبيا في المحافل اليسارية العربية، لكنّ تحيزه ضد ما عدَّه النقائصَ الفلسفية التاريخية للشرق العربي، وقبولَه الهبة السعودية في أواخر حياته، ألقى الشك على نزاهته العلمية، وفي الحقيقة، تراجع تأثير الجابري بدوره مقابل الإنتاج الثقافي القادم من دون الخليج، الذي دعم المبادئ الأخلاقية السلفية في منافذ وسائل الإعلام الممولة جيدا، وسَوَّغ انجراف المنطقة نحو التحرر الاقتصادي.

خلال مرحلة الانتخابات التونسية عام (1989)، ظهر شكل مختلف للنهضة، اندرج ثانية ضمن السياسة الرسمية العربية، إذ غَيَّرَ زعيمُ التيار الإسلامي راشد الغنوشي (ولد عام 1941) اسمَ حركته إلى: حزب النهضة، وذلك لكي يشير إلى إنكاره أصولها الأكثر تطرّقا وقبوله الديمقراطية الليبرالية.

وبعد الحرب الباردة، ونهاية الحرب الأهلية اللبنانية (1975 ـ 1990)، ظهرتِ النهضةُ ثانية؛ بكونِها موضوعا من الأهمية بمكان في الخطاب العربي بشكل عام، وقد كانت مدفوعة مباشرة من طرف أنظمة دولة كان هدفها محاولة تفسير القمع المعادي للإسلام، وقد تبنّاها مجموعة من المفكرينَ الذين يعارضون العنف الممارس من طرف الدولة، وفي عام (1992)، اجتمع مفكرونَ مصريونَ ليبراليونَ حول جابر عصفور (ولد عام 1944) لتأسيس (جمعيةِ التنوير) التي أعادت إصدار العديد من كلاسيكيات (العصر الليبرالي)، بما فيها كتاب فرح أنطون، (فلسفةُ ابن رشد)، وعلي عبد الرازق (الإسلامُ وأصولُ الحكم)، ومُؤَلَّفُ طه حسين (مستقبلُ الثقافةِ في مصر)، وكتابُ سلامة موسى الأوّلُ حول عصرِ النهضة الأوربيّ (ما النهضةُ؟) وبين عامي (1900 و1993)، سعتِ المجلة الدمشقية المحفزة (قضايا وشهادات) فورا إلى حماية ذاكرة النهضة، وإعادة تشكيلها عموما إلى جانب تراث طه حسين خصوصا.

وحدثتْ إعادةُ اكتشاف هذه النهضة في سياق ثلاثة أخطار متطابقة: سياساتُ التقشّفِ المتطرّفةُ التي فرضتْها المؤسساتُ الماليةُ الدوليةُ؛ وظهورُ الجماعاتِ الإسلاميةِ المقاتلة؛ وقمعُ أجهزةِ أمنِ الدولة، في مصر والجزائر خصوصا، واغتيال الإسلاميون المتشددون  آنذاك عشراتِ المفكّرينَ الليبراليينَ، كالبروفسور المصري والمعلّقِ الصحفي فرج مودة (1946 ـ 1992)، كما قامت الدولةُ بنفي العديدِ من الآخرينَ ومنعتْ أعمالَهُم. والمثال الأكثرُ شهرةً في هذا الباب هو إدانة محكمةِ النقضِ المصريةِ العالمِ الديني نصر حامد أبو زيد (1943 ـ 2010)، بتهمة الردّةِ بسبب مفهومه التاريخيّ والتفسيري لشرح القرآن، قبل أن تدفعه تهديدات  الإسلاميين بالقتل إلى الهروب نحو المنفى.

الحرِّيةُ مقابلَ الليبرالية

يظهر اليوم إشكالٌ كبيرٌ حول مفهوم الليبرالية في الوطن العربي، لا سيما منذ انطلاقة الانتفاضات العربية في عام 2011؛ لأنه ارتبط سياسيًا بالليبرالية الأمريكية المتوحشة، حيث كان احتلال العراق سنة 2003، ونشر الفوضى الهدامة للدولة الوطنية العربية في أكثر من بلد، خير برهان ٍ على ذلك. واحتوى كتابُ (الفكر العربي) مسحةً مأساويةً خفيفةً، لا لمجردِ أن حوراني اكتشفَ ضعف الاستعداد العربي زمن الاستقلال، ولا بسبب بقاء القواعد العسكرية الغربية في الدول الحديثة الاستقلال؛ ولم يحصرْ ألمَهُ بحقيقةِ أن القوى المتطرفةَ والمحافظةَ سلبتِ المفكرينَ الليبراليينَ ثمارَ عملِهم المناهض للاستعمار، وتشكلت المأساة بالطريقة التي أعاد فيها حوراني صياغة توقّع أنطونيوس القوميّ قبل الحرب العالمية الثانية، على أنه قصةُ وعي ليبراليٍّ غير تام، ولما تتوّجَ السعيُ الملحميُّ لأرضية مشتركة متنورة بين المصلحينَ المسلمينَ والمسيحيينَ العلمانيينَ بالإبداعِ الكبيرِ للرمزِ الفكريّ الشامخ طه حسين، كانت الحربُ العالمية الثانية قد دمرت تراث التنوير في أوروبا نفسه، وبإنهاءِ كتابه رسميا عام (1939) يتركُ حوراني السؤال عن قدرة الفكر الليبرالي الأوروبي فعلا، على أن يصبحَ ثانيةً نموذجا يحتذى به للحياة السياسية والفكرية بعد الأعمال الوحشية التي حدثت خلال الثلاثينيات والأربعينيات، وكما عبّر لاحقا الناقدُ الماركسيُّ المغربيُّ للقومية العربية عبد الله العروي (مأساةُ المفكِّر [العربيِّ] الليبرالي)، أنَّ (إغراءَ الغرب) جاءَ حين تعرضت الليبرالية الأوروبية (للهجوم من كل جانب)، وفي الحقيقة، بدا ذلك للفلاسفة الأوروبيين، من مثلِ أدورنو وهوركهايمر، أن القيم التأسيسية للتنوير (التقدم والحرية والمساواة) قد انكفأت على نفسها.

تلقّى كتابُ (الفكرُ العربيُّ في العصر الليبرالي) بعضَ النقدِ الظالم، وأشار عبد اللطيف طيباوي إلى أن حوراني، على غرار أنطونيوس: كان مع ذلك (لبنانيا آخرَ تفُوقُ وطنيتُهُ دقّتَهُ التاريخيةَ)؛ وكلاهما (كانا يقللانِ من قيمة دورِ إخوتهم المسلمين في ذلك)، وبالمقابل، اتُّهِمَ إيلي قدوري حوراني بتبرئة المصلحين الإسلاميين، محوّلا العالم الديني والمصلح السلفي محمد عبده (1849 - 1905) إلى قديس، وكان لكتاب الفكري العربي حدودُهُ، كما سنرى، لكن حوراني مال نحو الإذعان أكثر مما ينبغي تجاه نقاده الأوائل، ويشير العديد من المساهمين في هذا الكتاب، إلى أن حوراني عبَّر عن شكوكه حول اختيار بعض الكلمات في عنوان الكتاب، وأسفَ، بشكل خاص، لأن العنوانَ أعطى انطباعا على أن الكتاب موضوعه الليبرالية العربية، وفي مقدمته المقتبسة كثيرا، ولغاية إصدار عام (1983) أعاد النظرّ على نحوٍ ناقدٍ للذاتِ.

لمّا كان أغلبُ الفلسطينيين مصدومين أكثر من تفكيرهم في الهرب للبقاء على قيد الحياة، توصّل طلابُ زريق في الجامعة الأمريكية في بيروت إلى استنتاجٍ بأنهم بحاجةٍ إلى تشكيل خلايا سرية لحثّ تعبئة شعبية للوحدة العربية بخلاف الحكومات العربية، فالعصر الراديكالي وُلِد من رماد النكبة.
ويتفقُ أكثرُ المعلّقين مع هذه التبرئةِ، ويشعر بعضهم بالارتياح تقريبا لها. اعترف حوراني بخطته المفهوم في الحكم؛ لذلك يمكن أن يُغفر له، إن الإجماع الضمنيِّ بين المؤرّخينَ القوميينَ والمحافظينَ والمتطرّفينَ ضد إمكانيةِ؛ بل رغبةِ، الفكرِ الليبراليّ العربي في القرن التاسع عشر، ليشير إلى أن نوعا أكثر صفاءً من الليبرالية كان يوجد في مكانٍ آخر، ولكن، كما يذكرنا جيف إيلي (إذا اخترنا تعريفا رسميا للأوضاع القانونية الدستورية للديمقراطية، من مثل التمثيل الشعبي على أساس تصويت حر وشامل وسري ومتساوٍ، ومدعوم بالحريات القانونية للتعبير والصحافة، والتألف، والتجمع، فمن الصعب فهم كيفية تحقيق أي من ليبراليي القرن التاسع عشر المعيار المطلوب.

يقول الباحثان دجنس هانسن وماكس وايس: "ولما كتب ألبرت حوراني وداعهُ (العصر الليبرالي) ثانيةً، في إعادة إصدار عام (1983)، كان المزاج الفكريُّ في المنطقة كئيبا، ليس في فلسطين ولبنان اللتين ترزحان تحت وطأة الاحتلال الإسرائيلي فحسب، بل في العراق وإيران اللتين مزقتُهُما الحرب كذلك؛ فالشعارات الملهمة للحرية والثورة أصبحت معيبة، وفي عام (1963)، تألمتْ حنة آرنت لأن الحرية أصبحت خدعة للإمبريالية والسيطرة الرأسمالية، واستعمل المتآمرون العسكريون والمتطرفون المستهترون الثورة بشكل متهور، وفي الثمانينيات، فوجئ المفكرون والنقاد في الغرب بالاعتداءات العالمية العسكرية والاقتصادية، التي شنّتها النزعتان الريغانية والتاتشرية، في الداخل والخارج معا، ومع نهاية الحرب الباردة، أعيدت صياغة الليبرالية والاشتراكية على أساس أنهما إيديولوجيتان شائنتان دخيلتان، غير صالحتين للتحرر السياسي والفكر النقدي في العالم العربي، وبدا أن الحركتين القومية والإسلامية فحسب تجاوزنا ما سُمّي (نهاية الإيديولوجيا) جزئيا؛ لأن كلتيهما اجتذبتا قطاعات واسعة من المجتمع؛ نظرا لكونهما مفهومين أصيلين، وحان الوقت لاستكشاف المفاهيم الرئيسة الأربعة التي حركت تاريخ حوراني للنهضة: اللغة، والعقل، والحرية، والزمن"(ص65).

يظهرُ اليومَ إشكالٌ كبيرٌ حول ماهيةِ الليبرالية العربية، وما تعنيه كلمة ليبراليّ عربي، فبقراءة مقالات جوزيف مسعد، منذ الانتفاضات العربية، يمكن مسامحة المرء لاعتقاده بأن الليبرالية تسيطر على العالم العربي، وبأن الليبراليين العرب مسؤولون عن الفوضى التي تجد المنطقة نفسها فيها اليوم، ويتحقق الاستعمال الفضفاض لتعبير ليبرالي، من طرف الرافضين والمؤيدين على حدّ سواء، كثيرا بشبح الغرب، وبالقضاء النقدي المتضائل في الشرق الأوسط، فهو يساوي مشاريع الإصلاح الإسلامية مع مؤسسة رائد، ويعامل المفكرين العرب الذين يتحدثون عن الحرية وكأنهم محافظون جدد، أو ليبراليون جدد، وفي لحظات المبالغة، من الأفضل العودة إلى لهجة حوراني الوقورة.

ويظهر تعبير (حرية) في بضع مناسبات فحسب في كتاب (الفكر العربي)، ولم تأت المرة الأولى والوحيدة التي يحددها حوراني بأنها دعوة إلى الاستقلال السياسي ضد الأوروبيين، أو الحكم العثماني، ولم يعبّر عنه المفكرون الحضريون، وفي الواقع، استدعى قادة المجتمع المرؤوس الحرية حين اجتمعوا خارج بيروت عام (1840) لتحدي الحكم المصري، الذي استمر عقدا من الزمن في بلاد الشام، وحدّه إعلانُهم الوطنيّ (اتفاق أنطلياس)، الذي كان للمارقين الأوروبيين، كما يعترف حوراني، يد فيه، (قفزة المنطقة نحو عالم حركات الجماهير الحديث والروح الوطنية)، وكانت المرة الثانية التي سجّل فيها حوراني التعبير الواضح عن الحرية لما امتدح خير الدين التونسي (قوة أوروبا وازدهارها [مع] نظم سياسية مستندة إلى العدالة والحرية)، وبعد فترة قصيرة، أشادت سلسلة كتيبات بطرس البستاني (نفير سورية)، بفصائل الحرية والمساواة الدينية، مقابل تجربة الحرب الأهلية المؤلمة في جبل لبنان ودمشق عام (1860)، وبعد بضع عشرات من الصفحات، اكتسب الدستوري المصري أحمد لطفي السيد من (أساتذته الغربيين) فكرة التحرر من (سيطرة الدولة غير الضرورية) وحرية (الكتابة والتعبير والنشر والمشاركة)؛ لأنها (الغذاء الضروري لحياتنا)، وأخيرا، في مقطع أعدنا إنتاجه في بداية هذه المقدمة، ينشر حوراني التعبير ليحدد كيفية فهمه هو معنى الليبرالية، مشيرا بشكل خاص إلى (واجب الحكومة بأن تكون هي الضامن للحرية).

وكان تحرر النساء أساسيا للنهضة، وأبعد بكثير من شخصية قاسم أمين الفذّة (1863 ـ 1908)، كما رسمها حوراني ومسعد، وعرض ستيفن شيهي، الذي ربما نال كتابه مديحا، وعنوانه (أسس الهوية العربية) (2004) مع افتتاح مجال (دراسات النهضة) الثانوي في أمريكا الشمالية، أن جيلا قبِل أن ينشر هذا المحامي المصري ـ الفرنسي التدريب ترنيماته الراعية تلقيم العائلة الحديثة، من الكتّـاب الذكور كأحمد بن بوالضيف (1804 ـ 1874)، وبطرس البستاني، وفرنسيس مراش، وآخرون رأوا أن تعليم النساء وتحريرَهنَّ طليعة الحداثة العربية. ومع انتشار الصحف العربية في سبعينيات القرن التاسع عشر، دافعت روايات رومانسية مسلسلة عن شخصيات من الذكور والإناث، الذين أمكن النظر إليها آنذاك بأنهم (كنوز) وطنية للطريقة التي تغلبوا فيها على إغراءات تبنّي النهج الغربي والمعاناة الأبوية للزواج من أجل (حب حقيقي).

وفي كتاب (أزمة المثقفين العرب) لاحظ عبد العروي التناقض الظاهر في أنَّ مقاومة الاستعمار تمردٌ أيضا ضد الليبرالية، فحرضت الحالة الاستعمارية ببساطة تانة الخرية ضد الليبرالية. ومثلُ الحوراني يستفيد العروي من قسطنطين زريق (1909 ـ 2000)، وهو أحد مؤرخي مفكري النهضة، وأوَّل من اختلف مع العصر الليبرالي (1848)، وهو مسيحي أرثوذكسيمن دمشق، درس التاريخ الإسلامي للعصور الوسطى في (الجامعة الأمريكية في بيروت) وشيكاغو قبل نيله الدكتوراه في اللغات والآداب الشرقية في جامعة برينستن عام (1930)، وهو مترجمُ كتاب مسْكَويه (الأخلاقُ) وتاريخ نولديك عن الغسانيين، وأمضى أغلبَ حياته أستاذا للتاريخ العربي في حرم الـجامعة الأمريكية ببيروت الجامعي؛ وكان له تأثيرٌ تشكيليٌّ على زميله الأصغر سنا ألبيرت حوراني، وقبل عام (1948)، تولى لفترة قصيرة عملا دبلوماسيا سوريّا في الولايات المتحدة والأمم المتحدة، وعُيّنَ بعد النكبة رئيسا لجامعة دمشق.

يقول الباحثان دجنس هانسن وماكس وايس: "اختتمَ حوراني كتابَ (الفكر العربي) بمناقشةِ مقالات زريق، (الوعيُ القومي) (1939)، التي توصّلت إلى تغيير أساسي لدى جيل من الطلاب العرب الشباب، ألهمتهم فكرة أن القومية العربية مصدر اقتناع شخصي ومسؤولية تاريخية في آن واحد، وأطلق العروي أيضا وصفَهُ للمفكرين العرب بالإشارة إلى كتاب زريق (نحن والتاريخ) (1959)، وشجع قرّاء زريق على النظر إلى التاريخ العربي لا بكونه عبئا يجب تحمّلُهُ حتما؛ بل بوصفه حافزا للعمل في الحاضر من أجل بناء المستقبل، وهنا دعوةٌ للجيل الجديد كي يتشجع، ويساهم في العملية التاريخية، وناقش زريق أنه إن لم يستطع العرب الهرب من التاريخ، فإن الماضي لم يقرر مستقبلهم، كما لم يبرّئ المسؤولين من وضع الأمور الحالي، وكانت الكوارث أساسية في ظهور الوعي التاريخي، والإخفاقُ في مواجهتها (أفتكُ بالناس من الكوارث نفسها).

وكانت خسارةُ فلسطين في مقدّمة ذهن زريق بعد عام (1948)، وكتابُه (معنى النكبة) (1948)، على نحو متطابق، نوعٌ من الاتهام، وما الذي يجب عملُه عربيا فيما يتعلقُ بالأسباب الحقيقيةِ والنتائجِ الرهيبةِ للهزيمة العسكرية، وإنشاء دولة إسرائيل على الأراضي العربية، وندّد زريق بالرضا العربي، موضّحا أنه لا يمكن لقدر من خطابات الزعماء العرب المنمّقةِ إخفاء حقيقةِ أن الحركة الصهيونية تجهّزت على نحو أفضل بكثير، وقاتلتْ بثقة أكبر من الجيوش العربية. ولمّا كان أغلبُ الفلسطينيين مصدومين أكثر من تفكيرهم في الهرب للبقاء على قيد الحياة، توصّل طلابُ زريق في الجامعة الأمريكية في بيروت إلى استنتاج بأنهم بحاجة إلى تشكيل خلايا سرية لحثّ تعبئة شعبية للوحدة العربية بخلاف الحكومات العربية، فالعصر الراديكالي وُلِد من رماد النكبة، وقدّم المؤلف الليبرالي لكتاب (معنى النكبة) طريقا واحدا للتحرير كي يتبعه الجيل التالي (ص83).

اقرأ أيضا: الليبرالية شكلت كتابة التاريخ العربي في عصر النهضة.. قراءة في كتاب