ملفات وتقارير

ماذا يعني تسجيل مصر أقل معدل نمو للزيادة السكانية خلال 50 عاما؟

مصر السابعة عالميا من حيث النمو السكاني- جيتي
ظل ملف الزيادة السكانية وتقليل معدلات الإنجاب الشغل الشاغل لحكومات رئيس النظام المصري عبدالفتاح السيسي، طوال 10 سنوات، في ملف خلافي بين الحكومة التي تحمًله مسؤولية الكثير من أزماتها، وبين خبراء ومعارضين يرون في النمو السكاني الكبير ميزة مصرية خاصة يمكن استغلالها والبناء عليها.

والخميس، أعلنت وزارة التخطيط في مصر، قرب وصول البلاد إلى المعدل الذي يطلبه السيسي، من حكومته ومن المصريين لتخفيض الزيادة السكانية والوصول إلى زيادة ما بين 1.2 بالمئة إلى 1.5 بالمئة سنويا، وفق تصريحه قبل 6 أشهر خلال "المؤتمر السكاني" بالعاصمة الإدارية الجديدة.

وقالت الوزراة، إن البلاد سجلت العام الماضي (2023) أقل معدل نمو للزيادة السكانية خلال الـ50 عاما الأخيرة، بفعل السياسات الحكومية للحد من النمو السكاني.

وذكر البيان الوزراي، أن القاهرة حققت نجاحات كبيرة في خفض معدل النمو السكاني بحوالي 46 بالمئة في 6 سنوات وتحديدا بين عامي 2017 و2023.

وتراجعت نسبة الزيادة السكانية من 2.6 بالمئة في 2017 إلى 1.4 بالمئة في 2023، بحسب البيان، الذي أضاف أن "معدل النمو السكاني في 2023 بلغ أقل 10 بالمئة من معدل 2022".

"أرقام لافتة"
ووفقا للساعة السكانية للجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء (حكومي) والتي تزين إحدى شوارق شرق العاصمة المصرية القاهرة، فقد بلغ عدد سكان البلاد صباح الخميس الماضي، رسميا 106.1 مليون نسمة، وذلك بالإضافة إلى 11 مليون مصري يقيمون بالخارج.

وجاءت مصر، في المرتبة السابعة عالميا من حيث النمو السكاني، متقدمة على الولايات المتحدة، والمكسيك، والبرازيل، وجميعها أكبر في تعدادها السكاني من مصر، كما يمثل عدد سكان مصر نسبة 1.405بالمئة من إجمالي عدد سكان العالم.

لكن قاريا تسبقها نيجيريا التي تأتي بالمرتبة الثانية عالميا من حيث النمو السكاني، بإضافة حوالي 5.2 مليون سنويا إلى تعدادها الذي يقترب من 200 مليون نسمة.

وتتفوق إثيوبيا على مصر-تتنازعان على ملف مياه النيل- من حيث عدد السكان في القارة السمراء مسجلة نحو 127 مليون نسمة، إلا أن مصر تحتل المرتبة الأولى من حيث عدد السكان بإقليم شمال أفريقيا.

فيما تتفوق مصر على جيرانها في نسبة السكان بمعدلات كبيرة، ففي الغرب تسجل ليبيا نحو 6.944 مليون نسمة، وفي الجنوب يوجد بالسودان نحو 49 مليون نسمة.

ووفق بيانات سابقة للجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء، فإن عدد سكان مصر متوقع أن يساوي عدد سكان 14 دولة بحلول عام 2050 وهي: جنوب السودان، والأردن، وتونس، والإمارات، وليبيا، وموريتانيا، وفلسطين، ولبنان، وعمان، والكويت، وقطر، والبحرين، وجزر القمر، وجيبوتي.

"خطة السيسي.. وانتقادات"
وطالما حمل السيسي، الزيادة السكانية المسؤولية عن أزمات البلاد الاقتصادية والمعيشية، متهما إياها بأنها تشكل ضغطا دائما على الموازنة العامة المصرية، وأنها تأكل الرصيد الأكبر من الخدمات الحكومية ودعم الموازنة العامة.

وفي 24 كانون الثاني/ يناير الماضي، قال إن الزيادة السكانية الكبيرة تعرقل عوائد التنمية، مشيرا إلى زيادة بنحو 26 مليون نسمة منذ عام 2011، زاعما أن الزيادة السكانية الكبيرة أحد أسباب خروج الناس في ثورة يناير 2011.

وخلال المؤتمر العالمي الأول للسكان بالعاصمة الإدارية الجديدة 5 أيلول/ سبتمبر الماضي، شدد على ضرورة تنظيم "الحرية المطلقة" في معدلات الإنجاب، معلنا أنه يجب الوصول إلى 400 ألف مولود سنويا لتخفيض الزيادة السكانية للوصول إلى زيادة ما بين 1.2 بالمئة إلى 1.5 بالمئة سنويا وذلك لفترة زمنية قد تصل إلى 20 عاما.

وبمقابل رؤية السيسي تلك، يرى خبراء أن عدد السكان البالغ 106 ملايين نسمة بالنسبة لمساحة مصر  البالغة حوالي 1,001,450 كيلومترا مربعا لا يشكل أزمة، ولكن الأزمة في عدم استغلال ذلك العدد، وفي عدم توزيع السكان على تلك المساحة، بل وتهجير السيسي للسكان من مناطق مثل شمال سيناء ما يهدد الأمن القومي.

ولفت العديد من الخبراء إلى أن ملف السكان إذا جرى استغلاله على الوجه الأمثل يمثل قطارة تنمية للدول، مشيرين إلى تحقيق الهند نجاحات اقتصادية كبيرة وأنها قد تصبح ثالث أكبر اقتصاد في العالم بحلول عام 2027 مع ناتج محلي إجمالي يبلغ 5 تريليونات دولار.

وذلك رغم أنها صاحبة أكبر معدل زيادة سنوية في السكان عالميا، وتضيف 11.5 مليون مواطن جديد سنويا، وصارت أكبر دولة من حيث عدد السكان عالميا متجاوزة الصين، والتي تعاني انخفاض تعدادها السكاني.

بل إن البعض اتهم سياسات السيسي، بإعاقة التنمية، ومشروعاته غير المنتجة بالتهام دخل البلاد، وتوجهاته نحو الاقتراض الخارجي في إغراق البلاد بأزمة ديون تاريخية يدفع ثمنها المصريون، الذين يعانون لذلك من زيادة نسب الفقر والغلاء والتضخم وتراجع معدلات الزواج وزيادة معدلات الطلاق.

وسجل عام 2022، حالة طلاق كل 117 ثانية في مصر، وقد ارتفعت حالات الطلاق إلى 269 ألفا و834 حالة مقابل 254 ألفا و777 حالة عام 2021.

ويعيش نحو 60 بالمئة من سكان مصر تحت خط الفقر أو يقتربون منه، وفق وكالة "رويترز"، كما يعاني نحو 60 مليونا من الفقر بحسب تقديرات البنك الدولي.

وبلغت نسب التضخم أكثر من 35 بالمئة وفق بيانات رسمية في 10 آذار/ مارس الجاري، وقفز الدين الخارجي للبلاد من نحو 45 مليار دولار عام 2014، إلى أكثر من 165 مليار دولار نهاية العام الماضي.




"بناء الدول العربية"
وخلال العقود السابقة لحكم السيسي، كانت قوة العمل المصرية ثروة كبيرة يجري الاستفادة منها وقت الأزمات، وكانت هي الداعم الأكبر لدول الخليج العربية في مرحلة البناء والتشييد بعد ظهور البترول حيث شارك ملايين المصريين منذ نهاية سبعينيات القرن الماضي بإعمار السعودية والكويت وقطر والإمارات وغيرها.

وساهمت قوة العمل المصرية بشكل كبير في إعادة إعمار العراق، عقب الحرب العراقية الإيرانية (1980- 1988)، وكذلك في تعمير الجارة الغربية لمصر ليبيا التي تعاني قلة في نسب السكان مقابل مساحة تصل 1.8 مليون كيلومتر مربع.

نحو 14 مليونا هو عدد المصريين العاملين في الخارج، أغلبهم بدول الخليج العربي، منهم 2.5 مليون مصري بالسعودية وحدها، وحوالي 600 ألف مصري في كلا من الإمارات والكويت، بحسب تصريحات سابقة لوزيرة الهجرة المصرية سها جندي.

وفي المقابل، كانت قوة العمل المصرية في الخارج هي السند الهام لاقتصاد البلاد المتداعي على مدار العقود والسنوات الماضية، متفوقة على دخل البلاد من السياحة ومن قناة السويس، حيث بلغت تحويلات المصريين العاملين في الخارج 36 مليار دولار عام 2022.

واحتلت مصر المركز الخامس كأعلى دولة في العالم في ما يتعلق بتحويلات مواطنيها العاملين بالخارج عام 2023، وفقا لمؤشرات البنك الدولي.

وأكد خبراء مصريون لـ "عربي21"، أن إعلان الحكومة نجاحها في تحقيق تراجع في نسب المواليد، لم يعد على المصريين، ولم تقابله زيادة في خدمات الدولة من تعليم وصحة ودعم غيرها، مشيرين إلى أن تلك الملفات الخدمية ومع قلة نسبة المواليد شهدت تراجعا.

وعلى الجانب الآخر، أشاروا إلى خسارة كبيرة لمصر بفقدانها العامل البشري العنصر المتميزة به، فيما اعتبر بعضهم أن ذلك أمر مقصود ومخطط له ضمن خطط غربية بهدف تقزيم وإضعاف أكبر دولة عربية سكانا ضمن سياسة ممنهجة.




"سياسة ممنهجة"
وفي رؤيته قال الخبير الاقتصادي المصري والمستشار الأممي السابق الدكتور إبراهيم نوار، إن "زيادة السكان يمكن أن تكون نعمة، كما يمكن أن تكون نقمة"، مشيرا إلى أن "الحكومة كانت تدعي دائما أن زيادة السكان أحد أسباب الفقر وضياع ثمار التنمية".

وتساءل في حديثه لـ"عربي21": "ماذا تقول (الحكومة) الآن، وقد انخفض المعدل إلى هذه النسبة المتدنية؟".

وأوضح نوار، أن زيادة معدل المواليد تعني ضرورة زيادة خدمات الصحة والرعاية الاجتماعية"، ملمحا إلى أن "هذه الخدمات أصبحت محدودة جدا في الوقت الحاضر، حتى مع انخفاض معدل المواليد".

وتابع: "مصر أكثر الدول العربية سكانا، لكن سكانها ليسوا السبب في فقرها وضعفها، بدليل أنه مع تناقص معدل المواليد في السنوات الأخيرة لم يحدث أي تحسن في الاقتصاد أو خدمات الرعاية الصحية والاجتماعية".

وختم حديثه مؤكدا أن "ضعف مصر وفقرها يعود إلى سياسة ممنهجة تتبعها الحكومة ويستفيد منها أعداء مصر، لكن مصر لن تضعف بانخفاض عدد سكانها".

وعبر صفحته بـ"فيسبوك"، أشار نوار، في تعليق له حول تراجع معدلات المواليد في مصر، بأن هذا "تخفيض قسري، تخفيض ذو طابع مالتوسي (نسبةً للإنجليزي توماس روبرت مالتوس)، بسبب الجوع والمرض وأزمة إسكان الغلابة".

"أجندة إضعاف غربية"
بدوره قال الخبير في الشؤون السياسية والاستراتيجية الدكتور ممدوح المنير: "النظام المصري ينفذ أجندة غربية لإضعاف فاعلية الشعوب ممثلة في شبابها وأطفالها، ففي حين تقاتل الدول الغربية لزيادة معدل النمو السكاني لديها وتدفع لمواطنيها لتشجيعهم على ذلك،  تقوم الحكومة المصرية بالعكس".

وفي حديثه لـ"عربي21"، أضاف: "حتى الصين التي تعتبر أكبر عدد سكان في العالم ويكاد يسكنها ربع الجنس البشري تكثف برامج تشجيع المواطنين على إنجاب الطفل الثاني والثالث".

ولفت إلى أن "هذه دول العالم الأول التي تعتبر زيادة النمو السكاني مسألة أمن قومي يتحدد بها تطور المجتمعات وبقائها".

واستدرك بقوله: "لكن لأن ثقافة الزواج والأسرة والعائلات الممتدة ثقافة عربية إسلامية متجذرة في الشعب المصري فأُريد لهذه الثقافة أن تنتهي؛ لأن المجتمعات الغربية تقوم على فلسفة الفردانية واللذة، وهي فلسفة تتقاطع طولا وعرضا مع الأسرة والعائلة التي تعني الحماية والأمان والمسؤولية".

ويرى أنه "لذلك حرصت الدول الغربية التي تعيش تناقض عميق في الأفكار والقيم على وقف النمو السكاني في مصر، وباقي الدول العربية، حتى تظل في خانة التخلف والتبعية، والكلام في هذا الملف يطول".

ويعتقد المنير، أن "تراجع نسبة المواليد بهذا الشكل المقلق يعني تراجع نسبة الزواج بشكل كبير، والخوف من المستقبل وفقدان الأمان المجتمعي لدى الشباب".

وختم بالقول: "ولا يوجد أفضل من السيسي، ونظامه للقيام بتعميق هذه الأزمات لدى المواطنين، فقد جفف الزرع، والآن يجفف نسل المصريين، ولذا فهي سنوات عجاف حبلى بالأزمات، وليس بالأطفال الجدد".

"ادعاء حكومي"
وعلى الجانب الآخر، قال الأكاديمي والمؤرخ المصري الدكتور عاصم الدسوقي، إن "نقصان الزيادة السكانية أمر بعيد عن خطط الدولة"، معتقدا أن "السبب يكمن في قلة نسبة الزواج من ناحية بسبب ارتفاع تكاليف المعيشة، والمتزوجون يقللون من زيادة الإنجاب لنفس السبب".

‌وفي حديثه لـ"عربي21"، يرى أن حديث الحكومة المصرية عن أن هذا النقص في المواليد راجع لنجاحها في تنفيذ خطة خفض معدلات النمو، هو "ادعاء حكومي لإقناع الشعب بحكمة سياساتها".

وحول ما إذا كانت وفق رؤيته مسألة نقص السكان أمرا محمودا لدولة مثل مصر زعيمة تاريخية وقائدة لمنطقة فقيرة سكانيا أم إنه يضر بقوة وعظمة وسر تفوق تلك الدولة على مر التاريخ، فقد قطع الدسوقي، بأنه "لا علاقة للزيادة السكانية أو نقصها بقوة الدولة، لأن الميكنة الحديثة حلت محل قوة الأيدي العاملة".

وفي رده على تجارب دول مثل الصين، والتي خلصت إلى أن سياساتها بخفض المواليد كانت خطأ استراتيجيا وتحاول استعادة النمو، وكذلك أوروبا التي تعاني الشيخوخة وتحاول تعويض النقص عبر الهجرة المقننة، وما يقابل ذلك من مخاوف من أن تشيخ مصر يوما كأوروبا وتفقد أدوارها، قال الأكاديمي المصري: "كل دولة حسب ظروفها، وليست هناك مقاييس مطلقة".

وعن إمكانية استغلال الزيادة السكانية في مصر وتصديرها للخارج بعد تدريبها، لزيادة عائدات المصريين في الخارج إحدى أهم عناصر الدخل القومي، أكد الدسوقي، أن "مصر لا تقوم بتصدير أبنائها للخارج، والذين يخرجون منها للعمل بدولة أخرى يخرجون بسبب ضيق فرص العمل أمامهم في بلدهم".

وعن كيفية استغلال العنصر البشري لرفعة مصر بدلا من أن يكون عبئا عليها، فإنه دعا الحكومة "لاستغلال العنصر البشرى القائم بفعل الاستثمارات القادمة من الخارج".