قضايا وآراء

التسلح بالعمى لا يعيد النظر بالعلاقة مع أمريكا

"علاقة تقوم على احتواء الطرف الفلسطيني بالابتزاز والتهديد"- جيتي
لا نستطيع أن نقول إن هناك انقلابا في موقف السلطة الفلسطينية على مستوى العلاقة مع الإدارة الأمريكية، من خلال التلويح بإعادة النظر بعلاقة فلسطينية أمريكية لا يتوهم أحد أنها قائمة على ندية المصالح أو لدعم حقوق الشعب الفلسطيني، علاقة تقوم على احتواء الطرف الفلسطيني بالابتزاز والتهديد وهي التي تسمح لأمريكا بإعادة تذكير الشارعين العربي والفلسطيني بدورها ووظيفتها في المنطقة العربية والعالم، ولأن العلاقة الأمريكية الفلسطينية اتخذت من المصلحة الأمنية للاحتلال أساسا لها، فإن كل خطوة أمريكية تعيد دعم الاحتلال وتذخير ترسانته العسكرية، وإجهاض أي مسعى فلسطيني وعربي في المحافل الدولية، هي من بديهيات العلاقة الأمريكية مع المشروع الصهيوني.

السلطة الفلسطينية ستتخذ قرارا بتعليق العلاقة مع الولايات المتحدة، حسبما أوردت وكالة "وفا" الفلسطينية، والسبب سياسة الإدارة الأمريكية تجاه القضية الفلسطينية وتكرار استخدام حق النقض "الفيتو" في مجلس الأمن ضد أي قرار لمصلحة الشعب الفلسطيني؛ بوقف العدوان عليه أو إدانة جرائم الاستيطان ووقفها ضد الفلسطينيين، وإجهاض الاعتراف الدولي بفلسطين.

طبعا هذا القرار موضوع على أجندة السلطة في الأيام القادمة، وقبل اتخاذ السلطة الفلسطينية لهذه الخطوة صوت الكونغرس الأمريكي على حزمة مساعدات عسكرية أمريكية للاحتلال الإسرائيلي بقيمة 17 مليار دولار. ويعبر أعضاء من الإدارة الأمريكية والكونغرس بشكل صريح منذ السابع من أكتوبر الماضي عن الدعم الأمريكي المطلق للإبادة الجماعية في غزة، والمشاركة فيها من خلال المساهمة العسكرية المباشرة لواشنطن بالعدوان وتجنيد كل أسطولها البحري ودعمها السياسي والعسكري والاقتصادي والأمني لإسرائيل.

الأخبار والوقائع الدالة على عدم مصداقية وصلابة تحاول فيها السلطة التظاهر بهما، كثيرة ومريرة، خصوصا عندما تراقب تعامل أجهزة أمن السلطة مع قطعان المستوطنين وهم يتجولون بجرائمهم على قرى ومدن الضفة ويهزؤون بالفلسطينيين، ويتوعدون بقتلهم ويقومون بحرق منازلهم والاعتداء عليهم دون أن تتمكن أجهزة أمن السلطة من ردع أي مستوطن، بينما شاهد وسمع مخيم طولكرم وجنين عنتريات الأجهزة الأمنية للسلطة وهي تطارد من يتصدى لعدوان الاحتلال ومستوطنيه

ويبدو أن واقعة الفيتو الأمريكي الأخير على عضوية الدولة الفلسطينية، صدمت السلطة الفلسطينية أكثر من تذخير الآلة العسكرية للمحتل، وهي سياسة ليست بجديدة حتى يعول على تغييرها أو الاندهاش منها، لكن العودة مجددا لاكتشاف الدور الأمريكي بحماية الاحتلال ودعمه المطلق فهذه سذاجة واستخفاف بتجربة ثلاثة أرباع قرن من الصراع مع المشروع الصهيوني كذراع استعماري إمبريالي، فالمعركة التي يخوضها الشعب الفلسطيني هي مع احتلال ثابت على جرائم الإبادة؛ مرده ثبات سياسة الولايات المتحدة تجاه القضية الفلسطينية، وانخراطها الفعلي بالعدوان على غزة من خلال توفير مظلة عسكرية وسياسية أمريكية للاحتلال. والعقود الماضية من حرث السلطة الفلسطينية والنظام العربي لبحر الأوهام الكبير، كانت النقطة المفصلية للأوهام عن السلام والدولة الموعودة، وحتى في أحلك الظروف الفلسطينية التي يعيشها الشعب الفلسطيني تحت وابل الحقائق الصهيونية والأمريكية، فإن الفيتو الأمريكي لن يكون صادما ولا حتى التظاهر بإعادة النظر بوظيفة السلطة مع الاحتلال والإدارة الأمريكية.

الأخبار والوقائع الدالة على عدم مصداقية وصلابة تحاول فيها السلطة التظاهر بهما، كثيرة ومريرة، خصوصا عندما تراقب تعامل أجهزة أمن السلطة مع قطعان المستوطنين وهم يتجولون بجرائمهم على قرى ومدن الضفة ويهزؤون بالفلسطينيين، ويتوعدون بقتلهم ويقومون بحرق منازلهم والاعتداء عليهم دون أن تتمكن أجهزة أمن السلطة من ردع أي مستوطن، بينما شاهد وسمع مخيم طولكرم وجنين عنتريات الأجهزة الأمنية للسلطة وهي تطارد من يتصدى لعدوان الاحتلال ومستوطنيه، وبعد كل إعلان عن وقف لتنسيق أمني أو وقف التواصل مع الإدارة الأمريكية تأتي الأخبار من منزل بيني غانتس برفقة ماجد فرج وحسين الشيخ على سبيل المثال والتكرار، ومن الصحافة الإسرائيلية التي تفضح عدم مصداقية أي خطوة فلسطينية.

وبالعودة للعلاقة الفلسطينية الأمريكية، والمرتبطة أساسا باتفاق أوسلو وفي بندها الأمني والمالي، فقد استحدثت واشنطن لهذه العلاقة منصب "المنسق الأمني الأمريكي لإسرائيل والسلطة الفلسطينية" والذي يؤدي دوره إلى اليوم بالإشراف على الأجهزة الأمنية للسلطة الفلسطينية تمويلا وتدريبا، وصاغ من خلاله عقيدة أمنية لأفراد الشرطة وأجهزة الأمن بالولاء للسلطة؛ لا لمواجهة الاحتلال ومستعمريه، بل لقمع الشارع الفلسطيني وحماية أمن المحتل.

ومسألة المواجهة أمسكها الرئيس أبو مازن ورجال السلطة بيد ولسان مشلولين فيهما شعار واحد "احمونا" أمام احتلال يواصل جرائم جعلت من السلطة نفسها تفقد كل شعبيتها في الشارع، وتظهر أمام العالم وأمام الاحتلال منزوعة المخالب ومفتقدة للمصداقية والجدية، حفاظا على مكتسبات التنسيق الأمني والتواصل مع الإدارة الأمريكية، ومن أجل هذين المكسبين يختفي الإدهاش الفلسطيني بتقديم مواقف تمثل انقلابا فعليا على كل التكبيل الذي تخندقت فيه وأدمنت نهج الإذعان له.

كي يصبح للسياسة الأثر والصدى العميق على الأرض، بأن يكون خطاب السلطة موجها للشعب الفلسطيني الذي يواجه عدوان إبادته في غزة والضفة والقدس، وأن يكون النداء قبل فوات الأوان ليس للبيت الأبيض بل للبيت الفلسطيني الذي يشاهده أبو مازن من مقر قيادته في رام الله ويشاهد دبابات وجنود الاحتلال وعصابات المستعمرين تحرق وتقتل شعبه، فالأولى أيضا أن يعلن لشعبه عزمه على خوض العصيان الشامل ووقف كل أشكال التنسيق الأمني والتواصل، وحل السلطة وبدء نقاش جدي ومباشر لاستعادة بنيان البيت الفلسطيني

ما زال في الوقت متسع للملمة الجراح الفلسطينية، لكن ليس على طريقة إدمان العجز والوهم، بل بتغليب صوت الشارع الفلسطيني، والاستجابة لمصالح ومقتضيات القضية الفلسطينية بإعادة نظر فعلية وسريعة بالعلاقة مع الشارع الفلسطيني ومع بقية مؤسساته السياسية وفصائله وقواه الوطنية، وكي يصبح للسياسة الأثر والصدى العميق على الأرض، بأن يكون خطاب السلطة موجها للشعب الفلسطيني الذي يواجه عدوان إبادته في غزة والضفة والقدس، وأن يكون النداء قبل فوات الأوان ليس للبيت الأبيض بل للبيت الفلسطيني الذي يشاهده أبو مازن من مقر قيادته في رام الله ويشاهد دبابات وجنود الاحتلال وعصابات المستعمرين تحرق وتقتل شعبه، فالأولى أيضا أن يعلن لشعبه عزمه على خوض العصيان الشامل ووقف كل أشكال التنسيق الأمني والتواصل، وحل السلطة وبدء نقاش جدي ومباشر لاستعادة بنيان البيت الفلسطيني وفق أسس نضالية ووطنية لمواجهة العدوان وإنهاء الاحتلال. لكن ماذا عمن طمر سنوات نضال ومقاومة شعبه تحت التراب، لقاء أوهام في سلطة مشوهة تسلحت بالعمى الأخلاقي، ولا ترى وجودها ودورها وصلاحيتها إلا من المحتل الغاصب ومن الأمريكي الذي يحميه؟

الفائدة الفلسطينية تبقى بقطع العلاقة مع جلاد الشعب الفلسطيني ومع من يدعمه، وهذه بديهيات لا حاجة لتفلسفنا في تكرارها على اعتبار أنها تمثل قاعدة ومبدأ لحركة تحرر وطني فلسطيني، لكن الرئيس والسلطة لا يعتبران نفسهيما يمثلان حركة تحرر ونضال شعب بعد أوهام كثيرة عن دولة ابتلع استيطان الاحتلال حدودها وماءها ويهوّد أرضها ومقدساتها ولا يعترف أصلا بوجودك فوق أرضك، وهنا مكمن العمى الأخلاقي والسياسي الذي تتسلح به السلطة الفلسطينية والنظام العربي كله؛ الذي أعاد النظر مع الشارع الفلسطيني والعربي قمعا والعمل على تقوية المحتل وتمدده.

twitter.com/nizar_sahli