قضايا وآراء

محنة التفكير - 2

1300x600
عود على بدء مع ما توقفنا عنده في المقال السابق، وهو كيفية الخروج من التيه (التوهان)، والسؤال الذي قد يجادل فيه البعض هو: هل دخلت الأمة في التيه حقا؟ 

انظر حولك، وتفحص بعين الناقد البصير وليس الحاقد الضرير، كيف تبدو أمة العرب والمسلمين في وقتنا الراهن؟ الفشل هو العنوان الكبير وفي أدق التفاصيل.

خذ الجامعة العربية كمشروع وحدوي أو هكذا ينظر إليه، ما الذي تحقق من مشروع بدأ في 22مارس 1945 أي قبل مشروع الوحدة الأوربية الذي بدأ في الأول من يناير 1958 أي بفارق زمني ثلاثة عشر عاما، وقارن بين أمة عربية من عرق واحد، دينها واحد ولسانها واحد وتاريخها واحد وثقافتها في مجملها واحدة، وبين شعوب مختلفة في كل شيء في الثقافة واللغة والحضارة والدين والعرق، واسأل نفسك السؤال البديهي لماذا فعلوها ونجحوا بينما فشلنا ولا زلنا في تيه الفشل نتخبط ولا نعرف للخروج سبيلا.

في التيه العظيم على المستوى العربي أيضا تجد أن محاولات الوحدة العربية بين الدول المتجاورة، مثل العراق والأردن 1958، وليبيا وتونس 1974، ومصر وليبيا والسودان 1969، أو بين الدول غير المتجاورة، مثل مصر وسورية 1958، ومصر وسوريا وليبيا 1971، أو بين ليبيا والمغرب 1984، كلها باءت بالفشل، وبقيت تجربة مجلس التعاون الخليجي وحيدة فريدة تراوح مكانها، فلا هي وحدة كاملة، ولا سوق مشتركة، ولا اتحاد، ولا شيء يبدو في الأفق يشير إلى خروج هذا المجلس من تيه الفرقة والتشرذم قريبا. 

على مستوى السلطة والثروة، وعلى مستوى الدولة والشعب، وعلى مستوى الحكم وتبادل السلطة، وعلى مستوى الاقتصاد والناس، وعلى مستوى السياسة والإنجاز، وعلى مستوى التعليم والمعرفة، وعلى مستوى الثقافة والفكر، وعلى مستوى الرياضة والفن، وعلى مستوى الدين والخلق. فتش في أي مجال وابحث عن إنجاز حقيقي على مدار قرن من الزمان تقريبا وقد تشعر بالصدمة وقد لا تبالي وتمر الكلمات مرور الكرام أمام عينك فلا تعرها اهتماما، هل بعد ذلك من تيه؟ بمعنى آخر متى نكون في حالة من التيه إذا لم نكن اليوم في التيه العظيم. 

التيه العظيم ليس فقط في تخلف الأمة أفرادا ومجموعات، دولا ومؤسسات، هيئات وتيارات، ولكن في أننا لم ندرك اللهم إلا قليل منا أننا فقدنا البوصلة منذ وقت طويل تماما كمريض الزهايمر الذي فقد ذاكرته وحين يستعيد بعضها يجد من حوله أنها مشوهة وغير مكتملة. 

في التيه العظيم، اختلطت أفكار الدين العظيم برغبات الحاكم اللئيم، فبات الناس في حيرة من أمرهم، هل ما يقوله الحاكم هو آيات من القرآن الذي نزل به الروح الأمين على قلب النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم، أم أنه من عنديات الحاكم نفسه الذي أعطى لذاته المصونة ليس فقط الحصانة والعصمة، بل وحق تخليد مقولاته وتصديرها على أنها أمور مقدسة أو تقترب من القداسة، ولا يسري هذا وللتاريخ على الحاكم فقط، بل يسري على بعض العلماء والفقهاء (وهذا ليس ذنبهم للتاريخ أيضا) الذين أعطينا فتاواهم وآراءهم الفقهية منزلة القداسة، وهي مجرد اجتهاد فقهي قام بعضهم بتغييره حين تغيرت الظروف المكانية والزمانية. 

في التيه العظيم لا يأتي الحاكم بإرادة الناس بل بإرادة ثالوث الاستبداد (العسكر ورجال الأعمال وعلماء السلطة) فالعسكر بيدهم السلاح ورجال الأعمال بيدهم المال وعلماء السلطان بيدهم الدين ولديهم الفتاوى والأحكام جاهزة الصنع وقابلة للتبديل والتعديل وفقا لمتطلبات المرحلة. 

الأمر ذاته يسري على المؤسسات والجمعيات والجماعات التي تعيش نفس حالة التيه (التوهان) وإن اختلفت أضلاع ثالوث السيطرة والهيمنة على تلك المؤسسات والجمعيات والجماعات فهناك الآباء المؤسسون والذين يتمتعون بحصانة هائلة تقترب من القداسة فلا يمكنك مراجعتهم أو حتى سؤالهم عما مضى لأن الإجابة هي اجتهدنا وأخطأنا ولنا أجر، وإذا سألتهم عن المستقبل كان جوابهم إن المستقبل بيد الله، ولو سألتهم عن الحاضر فالإجابة واضحة وهي الإحالة إلى المؤامرة التي تحاك ضدنا، لا مجال للتفكير أو المراجعة، ولا موضع للعقل فالقضية برمتها موكولة للشخص وليس للمؤسسة، للفرد وليس للمجموع، وبالتالي تظل الجماعات والمؤسسات في المجمل تدور في فلك الفلك أو المجموعة المختارة بعناية وهي وحدها تتداول السلطة وصناعة القرار وإدارة الموارد، والنتيجة بالطبع فشل يتلوه فشل وتدهور يتبعه تدهور حتى وصلنا إلى مرحلة حافة الهاوية، أي مزيد من التيه ومزيد من الحيرة.
لا الدول قادرة على التحرك إلى الإمام، ولا المؤسسات والجمعيات والجماعات قادرة حتى على الحفاظ ليس على هويتها بل على كينونتها التي باتت على المحك. 

ليست هذه هي كل مظاهر التيه بل أخطرها هو الإنسان... وعنه سوف نكمل في المقال القادم إن شاء الله.