كتاب عربي 21

"الجفاف" ليس قدرا!

1300x600
لم يعد أحد يماري في أن "الجفاف" سيضرب مصر بقوة في العام المقبل، وقد ظهرت مقدماته هذا العام مفزعة ومقلقة!

لقد عدت من لقاء مطول مع خبير السدود الدكتور "محمد حافظ"، وأنا أتوقع عند كتابة ما قاله من أن مصر مقبلة على جفاف في العام المقبل، أن كثيرين لن يصدقوا، وهناك من سيشكك، قبل أن أطلع على تصريحات لوزير الري في حكومة "السيسي" في اليوم نفسه، التي أعلن فيها أن مصر مهددة بالجفاف في العام المقبل!

الخلاف هنا لم يعد في "توقع الجفاف" ولكن في أسبابه، فوزير الري يتعامل كما لو كان "الجفاف قدر" مكتوبا على الجبين، وقد ورد في الأمثال أن المكتوب على الجبين حتما ستراه العين. فبحسب الوزير أن العجز المائي سببه نقص الفيضان في العام الماضي، واستمراره الحتمي في هذا العام، سيؤثر على المخزون الاستراتيجي للدولة من بحيرة ناصر خلف السد العالي!

"نقص الفيضان" هو ما يروج له وزير الري وجوقته، للتغطية على السبب الحقيقي في الأزمة، الذي يتمثل في بناء سد النهضة، ولهذا فقد انبرت "مندوبة" لأحد المواقع الإلكترونية في الوزارة لتعلق على "بوست" كتبته، بأن سبب المشكلة إنما يرجع إلى "نقص الفيضان" في هذا العام، ولا أعرف إن كان مغررا بها، أم إنها تعلم أنها تضلل الناس، دأب كثير من مندوبي الوزارة والمصالح الحكومية، وقديما قال الصحفي الكبير "مصطفي أمين"، إن "المندوب الصحفي" صار مندوبا للوزارة في صحيفته، وليس مندوبا للصحيفة في الوزارة!

أخطر ما في موضوع "سد النهضة" هو الجانب الفني فيه، الذي يمكن به تضليل الرأي العام، ولهذا فإن "مؤامرة السيسي" لم تجد المعارضة الواجبة، على النحو الذي وجدته في قضية الجزر، لأن قضية التنازل عن الأرض قضية بسيطة وليست معقدة والجانب الفني فيها أمكن تبسيطه، على العكس من "مؤامرة سد النهضة" الذي هو في تفاصيله أكبر من استيعاب النشطاء السياسيين، وقد تمثلت المؤامرة بمنح السيسي شرعية بناء السد، دون الحصول على أية ضمانات فيما يختص بسعته التخزينية وسنوات ملئه، وأيضا دون أية نصوص تلزم بضمان حصة مصر من المياه، ولا شيء يدعو للدهشة، فالمفاوضات السرية حول هذا الملف على خطورته الوطنية قبل توقيع السيسي، قام بها نجله "ضابط المخابرات"، و"محمد دحلان" مندوب إسرائيل في المنطقة!

ومن الباب المعقد، دخل السيسي ليطلب من الناس ألا ينشغلوا بالأمر، فهو بحسب قوله لم يضيعنا من قبل لكي يضيعنا الآن. فماذا سيفهم الناس في سعة التخزين، والمليء، وعدد السدود، وكيفية عملها واحتياجاتها من المياه، وحصة مصر، والفرق بين الأنهار الثلاثة التي تمد "النيل المصري" بالمياه!

لقد أعلن كثيرون من أنصار السيسي براءتهم منه بعد تنازله عن الجزر المصرية، فليس بعد "حرق الزرع جيرة"، أي استمرار الجوار والحديث عن حقوق الجار، مع أن "إعلان البراءة" كان ينبغي أن يبدأ منذ أن وقع على "اتفاقية بناء السد"، لأنها كاشفة عن الدور الذي يقوم به المذكور، في ضياع مصر وفي تحقيق تبعيتها لإسرائيل، عندما يكون ثمن وصول قطرة من الماء إليها هو تحقيق حلم الكيان الإسرائيلي  بتوصيل ماء النيل إليه.

لقد علقت مندوبة وزارة الري، بأن الجفاف الذي عانت منه كثير من الأراضي المصرية هذا العام، يرجع إلى "نقص الفيضان"، وليس إلى سد النهضة، لأن السد لم يتم الانتهاء من بنائه بعد، وهو كلام يبدو منطقيا، في موضوع الجانب الفني بتعقيداته حاضرا  فيه بقوة!

وبعيدا عن دوافع "المندوبة" وهل هي مدفوعة بحسن النية، أم بسوئها، فإن ما قالته  كان هو بداية الخيط الذي بدأت به حواري مع خبير السدود الدكتور "حافظ"، الذي يقوم بتدريس سد النهضة ضمن منهج السدود الذي يدرسه لطلاب كلية الهندسة بإحدى الجامعات الماليزية!

قال الرجل: إن الفيضان كان هذا العام متوسطا، فلا هو بالقليل على النحو الذي حدث في السنة الأسوأ، وهي سنة 1988، ولا هو بالكثير. ومع هذا ففي السنة الأسوأ، لم تتأثر به الأرض الزراعية لأن المخزون خلف السد عوض هذا النقص!

وهذا الفيضان المتوسط، ليس هو السبب في حالة الجفاف، ولكنه سد النهضة، صحيح أن السد لم يكتمل بناؤه بعد، إلا أن الأثيوبيين وقد انتهوا من 70% منه فمن الطبيعي وجود مياه خلفه الآن، فضلا عن أنه عند عملية إتمام مساحة البناء بمقياس العرض، استدعت تحويل مساره لتجفيف منطقة البناء، وتحويل السريان هذا كان على مساحة أقل من النصف من المساحة الأولى التي يتم البناء عليها، مما كان سببا في التحكم في عملية اندفاع المياه إلى السودان ومصر، وقلة الاندفاع أنتجت بحيرة على مساحة كبيرة أطلق عليها "بحيرة السد" تخزنت المياه فيها، بما أثر على حصة مصر، فحدثت عملية بوار أكثر من ثلاثين مليون فدانا، معرضة للزيادة في العام المقبل، عند افتتاح المرحلة الأولى، وفي خلال عام تكون السعة التخزينية لسد النهضة يمكنها استيعاب "كامل مياه النيل الأزرق"، لكن لأن هذا معناه إعلان الحرب على دولتي الجوار، فإن ما سيفيض من المياه عن حد الحاجة ليعمل سد النهضة بكفاءة، يكفي فقط لتشغيل السدود الثلاثة الخاصة بالسودان التي تستخدمها لتوليد الطاقة، ولا تنسى الاستثمارات السعودية والإماراتية، بزراعة 2 ونصف مليون فدان في السودان، التي كان مقدرا لها أن تعتمد اعتمادا أساسيا على مياه النيل الأزرق، المغزى الأكبر للنيل المصري، والمعنى فإن ما يفيض عن حاجة السدود السودانية الثلاثة، فهذه الأراضي الشاسعة ستكون في لهفة إليه، فهل ستعادي مصر السيسي، الإمارات والسعودية بما يؤثر على استثمارات البلدين، التي لولاهما ما كان الانقلاب وما كان السيسي نفسه رئيسا لمصر!

وإلى الآن لا تزال في يد مصر ورقة لم تستخدمها، وهي رفض البرلمان للاتفاقية التي وقع عليها السيسي، لنبدأ مرحلة التحكيم الدولي قبل الانتهاء من بناء من السد، وهي ورقة تحدث عنها كثيرون، ليس أولهم وزير الري المصري الأسبق نصر الدين علام، ولم يكن آخرهم خبير السدود الدكتور أحمد الشناوي، فالجفاف ليس قدرا، وعدم استخدام هذه الورقة كاشف عن أن زعيمهم المفدى عندما وقع على الاتفاقية التي ستحرم مصر من المياه، لم يكن مغشيا عليه، ولم يكن واقعا تحت تأثير الجهل بما يفعل.

إنه مخطط محو مصر من على الخريطة، وهي مهمة كلف بها الحكم العسكري تنفيذا لأهداف المستعمر القديم، الذي قرر أن يبقى من خلال وكلاء محليين، عندما رقصت الشعوب المضللة على إيقاع "التحرر الوطني"، تماما كما رقصت النسوة أمام اللجان ابتهاجا بالرئيس المنتظر، القادم من "بيت الوطنية المصرية"!

الجفاف قادم لكنه ليس قدرا مقدورا، لكنه نتاج لحكم العسكر في مرحلة "التجلي والإبداع"!

مبارك عليكم!