كتاب عربي 21

هكذا تكلم خالد مشعل

1300x600
قدّم خالد مشعل، رئيس حركة حماس، مداخلة مركزية في الجلسة الحوارية التي عقدها مركز الجزيرة للدراسات بعنوان "المقاومة الفلسطينية وتحولات الربيع العربي"، والتي جاءت ضمن جلسات ندوة "التحولات في الحركات الإسلامية"، وقد مدّ مشعل في تلك الجلسة أفقًا رحبًا، استظلّت به التعقيبات التي استمرت في تناول مداخلته على مدار الأيام التي تلته، وحتى نشر هذه المقالة.

وإذا كانت تلك المداخلة قد نالت الاهتمام لما تضمنته من إعلان عن انتخابات قادمة لحركة حماس العام القادم لن يكون فيها مشعل مرشحًا للرئاسة، فإن الأهم في الكلمات التي تألف منها الأفق المدود كانت تلك المراجعات التي بدت جريئة في الاعترافات التي ساقها مشعل حول أخطاء الإسلاميين في التعامل مع المرحلة التاريخية الراهنة، المستمرة منذ ما يسمى بالربيع العربي وحتى اللحظة، متخذًا من تجربة حركته نموذجًا لتلك الأخطاء.

بيد أن ما يجدر تسجيله ابتداء حول خطاب مشعل تحديدًا، من بين القيادات الفلسطينية على وجه الخصوص، أنه كان دائمًا قيادة وطنية متجاوزة في خطابها الأطر الخاصة المتمثلة في الحركة التي يقودها، إلى ما تقتضيه طبيعة القضية الفلسطينية من سعة وتقارب، وإقرار بالشريك الفلسطيني تاريخًا وحاضرًا، مستعينًا بلغة جامعة، ومفردات مفرطة الحساسية، قد تبلغ حساسيتها في بعض الأحيان التنكر للذات في سبيل إبداع خطاب أكثر جمعًا واقترابًا من فرقاء الساحة، الشركاء المتشاكسين.

ومع ذلك فإن خطابه لم ينعكس بخطاب مماثل في ساحة الخصم الشريك، أي حركة فتح، والتي وفي بعض المحطّات ركّزت هجومها على شخص مشعل، بالرغم من أنه الأكثر مراعاة في حماس -من بين قادتها الكبار- للحساسية الفتحاوية، ولعل هذا ناجم أولاً عن طبيعة فتح التي يضيق المقام عن تفكيكها الآن، إذ هي كانت عاجزة دائمًا عن قبول حماس تحديدًا بما هي المنافس الجدّي الوحيد لفتح.

وثانيًا لأن فتح المأزومة كانت عاجزة، من بعد ياسر عرفات وقادتها الكبار الراحلين، عن تقديم قيادات وطنية بأفق يتماهى مع ضرورات القضية الفلسطينية، وثالثًا لأن إحدى أدوات الخصومة التي استخدمتها فتح في خصومتها مع حماس كانت اللعب على توازنات حماس الداخلية، ما بين قيادتها في الخارج وقيادتها في قطاع غزة.

وعلى أي حال، فإن المقصود من هذه الملاحظة، أن الجرأة في النقد الذاتي والاقتراب من الشريك الوطني، بصرف النظر عن الطبيعة المستعصية لهذا الشريك، هي سمة غالبة على خطاب مشعل، ولم يبتدعها مع خطابه الأخير الذي تضمن أيضًا جملاً وداعية.

ولأن انتخابات حماس الداخلية ما تزال تحتمل قدرًا من التأني في معالجتها، فإن ما أراه يحتاج وقفة خاصة الآن، هو تلك المراجعات التي ساهم بها مشعل في سياق مقاربته موقع المقاومة الفلسطينية من تحولات "الربيع العربي".

كان مشعل واعيًا تمامًا لحجم التداخل ما بين القضية الفلسطينية، والقضايا العربية، وموقع الكيان الصهيوني من إفشال الثورات العربية، وهذه أطروحة أساسية كان ينبغي على حماس بما تمثله من أبعاد متعددة متضافرة (حركة مقاومة فلسطينية سياسية إسلامية)، أن تشتغل على إشهارها وبثّها، ولاسيما وأنها تبدو غير مُدرَكة بالشكل الكافي بعد لدى الفاعلين في سياق هذه الثورات. هذه الموضوعة تحتاج إفرادًا خاصًّا سبق لي عرضه، وينبغي العودة إليه مرات أخرى.

ومع ذلك فإن المراجعات التي قدّمها مشعل، ولخّص فيها أخطاء الإسلاميين، بمن فيهم حركته، ظلت تحتاج إلى بسط أكثر، يراعي الظروف الموضوعية التي ألحّ عليها مشعل في مفتتح تلخيصه لتلك الأخطاء، إذ إن الظروف الموضوعية التي عانت منها حماس لم تقتصر على الاحتلال فاعلاً ضخمًا يستهدف حماس بالاجتثاث.

كانت حماس بحسب تلخيص مشعل (باعتبارها نموذجًا لأخطاء الإسلاميين)، قد عانت من المبالغة في تقدير قوتها الذاتية، وافتقرت أحيانًا إلى الوعي بالموقف الحقيقي للخصم المتضرر منها (المنافس الفلسطيني، العدو الصهيوني، الإقليم العربي، القوى الدولية)، إضافة إلى افتقارها للمعلومات الدقيقة، وتغرير الخصم بها في بعض الأحيان، واتسام قراءتها لبعض مفردات الجملة السياسية من قوى وأحداث بالانطباعية، واعتقادها الواهم بأنها باتت بديلاً أكيدًا نظرًا لشرعيتها الشعبية وقوتها الذاتية، ونظرًا لترهل وشيخوخة منافسها..

إن كانت حماس كذلك فعلاً، فثمة سؤالان ينبغي أن تطرحهما الحركة على نفسها، ويطرح الأول منهما الإسلاميون عمومًا على أنفسهم.

الأول: إذا كانت هذه الأخطاء قد بدأت بالظهور منذ اللحظة التي أخذت فيها حماس تدير النقاش حول مبدأ وشكل وحجم مشاركتها في الانتخابات التشريعية قبل أكثر من عشر سنوات، إذ كانت بعض الأوساط فيها، والتي كانت الأكثر دفعًا للمشاركة بكامل القوة، بالرغم مما ينبني عليها من تشكيل حكومة، غير مدركة لاستحالة مواءمة ذلك مع تعقيدات القضية الفلسطينية، وموقع حماس بما هي حركة مقاومة؛ ثم استمرت هذه الأخطاء بالظهور مع تشكيل الحكومة، والحصار، والحسم العسكري، فلماذا لم تَظهر حماس مستفيدة من تلك التجربة الضخمة المكثفة في تعاطيها مع أحداث الثورات العربية؟!

لقد بدت حماس مطمئنة إلى مكاسب جاءت في سياق تحولات كبرى، هي بطبيعتها سائلة وقلقة ومتغيرة على النحو الذي يفرض غموضًا إستراتيجيًّا لأمد متوسط، وحتى بعيد، وبالرغم من ذلك اتخذت حماس مواقف إستراتيجية لا تراعي طبيعة اللحظة، وعادت للظهور وكأنها غير مدرِكة للخصم الإقليمي والدولي هذه المرة، حتى كانت الثورات المضادة مفاجئة لها، كما كانت مفاجئة لأخواتها من بقية الجماعات الإسلامية التي تشاركها الخط الفكري والسياسي.

ولم يكن بعيدًا أيضًا أنها في هذا السياق، اعتمدت على معلومات غير دقيقة، واغترت بقوة أخواتها من الجماعات الإسلامية، فعادت لتكرر خطأها الذي خبرته من تجربتها الذاتية، ولكن في مقاربتها لتحولات الإقليم العربي.

والسؤال الفرعي الذي يمكن إدراجه هنا أسفل السؤال الأول الأساس؛ لماذا لم يستفد الإسلاميون من تجربة حماس الفلسطينية، حينما تأكد بتلك التجربة أن العدو، أو الخصم، يتخذ موقفًا جذريًّا عدائيًّا من صعود الإسلاميين، وأن الإقليم والعالم متضافر من جهة إدراكه لموقع الكيان الصهيوني من النهوض العربي والإسلامي، وبالتالي كانت هذه التجربة تحتّم على الإسلاميين وعيًا وفهمًا أكبر وأدق لأنفسهم ودولهم والعالم وموقع الكيان الصهيوني؟!

هل هذا يعني هذا أن الإسلاميين قد اعتادوا نمطًا من العمل والتفكير يجعلهم أبطأ في استيعاب تجارب بعضهم، بل وفي التعلم من أخطائهم أنفسهم؟!

والسؤال الثاني؛ لو كانت حماس قد تجنبت تلك الأخطاء أو أكثرها، فهل كان هذا سيجعلها في موقف أحسن؟! هذا السؤال ليس نفيًا للأخطاء، ولكنه دعوة لفهم الموقف الحقيقي للخصم منها وعدم الغرق في المثالية، فماذا لو أن حماس تجنبت الفوز في الانتخابات التشريعية؟ هل كانت ستتجنب الصدام مع فتح التي أرادت من تلك الانتخابات، كما قالت صراحة في حينه، فرض برنامجها بشرعية صندوق الانتخابات؟ ونزع سلاح المقاومة بشرعية صندوق الانتخابات؟

وبالرغم من كل أخطاء حماس التي لخصها مشعل، والتي منها اغترار حماس بقوتها، وتوهمها بأنها باتت البديل الأكيد عن فتح، فهل لو أن حماس تجنبت ذلك، كانت فتح ستقبل الشراكة معها؟ هل التجربة الطويلة والمريرة التي خبرت حماس فيها فتح جعلتها أكثر معرفة بفتح، وبالتالي تخلصت من عيب الافتقار للوعي بالموقف الحقيقي للخصم؟!

وسواء أكانت طبيعة فتح تسمح لحماس بإدارة شراكة حقيقية، أم لا، فهل كانت حماس بالفعل مضطرة إلى الحسم العسكري؟ وهل كان هذا الحسم تغريرًا من الخصم؟ أم إرادة واعية؟ أم انجرارًا غير مقصود؟ وبالتالي تفردت حماس مغترة بقوتها، أو مكرهة، في حكم قطاع غزة.

إن هذه الأسئلة بحاجة إلى نقاش أوسع داخل حماس، يشمل قياداتها وكوادرها ومثقفيها، وإجابات أكثر وضوحًا وتحديدًا، ومحاولات لطرح رؤى لا تغرق في المثالية، ولا تجافي الظرف الموضوعي المتمثل فلسطينيًّا في طبيعة (الخصم/ الشريك)، وفي الوقائع التي فرضها هذا الخصم واضطرت حماس للتعامل معها على أرضيتها.

هذه الرؤى عليها أن تجيب عن أسئلة من قبيل: كيف يمكن إدارة شراكة مع حركة لا تقبل الشراكة أو لا تريد الشراكة؟ وهل الانتخابات الحلّ السحري لهذه المعضلة؟! هل صندوق الانتخابات يفرض البرامج حتى لو كانت مشاريع تصفوية أو سحب سلاح المقاومة؟!