أفكَار

باحث سوداني: لا مانع من إقامة دولة للمسلمين وليس للإسلام

النيل أبو قرون: الدولة التي تطبق الإسلام الحقيقي، دولة مدنية تقوم على المواطنة لا على الدين (فيسبوك)

درج الكاتب والباحث الإسلامي السوداني، الشيخ الصوفي النيّل أبو قرون في العديد من كتبه على تناول قضايا دينية شائكة، ومناقشة إشكاليات معرفية وفكرية بجرأة بالغة، وعادة ما تكون مقارباته البحثية مغايرة للمفاهيم السائدة والمقررة، وهو ما يعرضه لانتقادات قاسية وشديدة، ويجره إلى محاكمات دينية صارمة على خلفية اتهامه باتهامات جارحة، كالتشيع والطعن في الصحابة والزندقة والردة، ويثير عليه ردود فعل ساخطة. 

في كتابه الأخير "انقلاب المسلمين على رسالة خاتم النبيين" والصادر حديثا بالتعاون ما بين مؤسسة أونيكس للتواصل الفكري في بريطانيا، والمؤسسة العربية للدراسات والنشر في عمّان وبيروت، اقتحم ميدانا شائكا، شديد الوعوة، حيث أدار فكرته المركزية على الكشف عن مظاهر وصور انقلاب المسلمين على رسالة خاتم النبيين.

أوضح الشيخ أبو قرون في حواره مع "عربي21" أن عنوان كتابه "مأخوذ من قوله تعالى "وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ ۚ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ" [آل عمران:144] متسائلا: "فهل بعد قول الله تعالى بهذا (الانقلاب) أيّ قول؟ فهو هنا يخاطب من كانوا حول الرسول عليه الصلاة والسلام، وكيف سينقلبون بعد رحيله..". 

وبيّن أن المقصود بالذين انقلبوا على رسالة خاتم النبيين بعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى أنهم "قاموا بتحويل وجهة الدين من دعوة للناس كافّة، دون حدود جغرافية، أو كيان سياسي مصطنع إلى دولة محدودة، ادّعت احتكار (الإسلام)، وبدء مرحلة الإجبار والقسر على الدخول فيه، وأن الخليفة فيها يمثّل رسول الله، مع أن الرسول العظيم لم يوصِ لمن بعده بخلافة سياسية باسم الله، بل أوصى فقط بمرجعية دينية". 

ولخص الشيخ أبو قرون رؤيته المركزية التي أودعها في كتابه مبينا أن الانقلاب الذي حدث بعد وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام إنما كان "بتحول الدين من دعوة إلى الأخلاق وحرية المعتقد، موجهة للعالم بأسره، إلى خلافة سياسية ودولة تسلطيّة تسعى لإخضاع الآخرين لها عبر الحروب "باسم الله"، وهو انقلاب بدأ في (السقيفة)، ولم تنته أثاره إلى يومنا هذا". 

"عربي21" حاورت الشيخ أبو قرون حول الأفكار الواردة في كتابه الأخير، بكل ما فيها من اتهامية لعموم الممارسة الإسلامية منذ عصر الصحابة إلى يوم المسلمين هذا، ومدى استقلالية الشيخ في فكرة كتابه المركزية أم أنه استمدها من أطروحة الشيخ الأزهري علي عبد الرازق في كتابه (الإسلام وأصول الحكم)، فهي لا تعدو أن تكون إعادة إنتاج لها، إضافة لرؤيته المتمثلة في قصر الدعوة الإسلامية على الجانب الروحي، وتجريدها من البعد السياسي.

وفيما يلي نص الجزء الثاني والأخير من المقابلة مع الشيخ النيّل أبو قرون:

س ـ فرقت في كتابك بين حكم الملك أو الأمير وبين حكم النبيّ والرسول، وقررت أنّ حكم النبيّ لا يتضمّن سلطة دينية أو مدنية على الناس، بعكس سلطة الحاكم التي تحتاج إلى قوّة وجند لفرضها.. ما وجوه هذا التفريق وما هو مستنده من أدلّة الشريعة، وأفعال الرسول عليه الصلاة والسلام؟


 ـ النبوّة شيء والمُلك شيء آخر كما هو معروف، مع أنّ الله سبحانه وتعالى جمع لبعض الأنبياء بين المُلك والنبوة مثل نبيّ الله سليمان عليه السلام، والفرق كبير بين الدعوة إلى الله على أساس حرية القبول أو الرفض، "من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر"، وأنّه "لا إكراه في الدين"، وبين سلطة الحاكم التي تسوس الناس بالسوط، وتُكرههم على ما لا يرغبون به.

تكفّل الله سبحانه وتعالى لنبيّه بالنصر، ولم يطلب منه إلا "البلاغ" أي إيصال الرسالة إلى الآخرين، فمن شاء قبلها، ومن شاء رفضها، وهكذا نشأ الإسلام على هذه الحريّة الفكرية في الدين، وهذا واضح جداً في مسيرة الرسول العظيم صلى الله وبارك عليه ووالديه وآله، فما سُميّ بالغزوات إنّما كانت حروب دفاعية وليس من أجل فرض الإسلام، أما "فتح مكة" فهو درس عملي كبير لمن شاء أن يعرف الحقيقة، إذ لم يجبر النبيّ أحداً على قول لا إله إلا الله وأنّه نبي الله، بل تركهم طلقاء، فمن شاء آمن، ومن شاء بقي على دينه، وقد وضع الله المهابة للنبيّ بين الناس، وعصمه من أذاهم، فلم تكن لديه حراسات من حوله، ولا قوات أمن سريّة أو ظاهرة، أما لو كان ملكاً أو سلطاناً فإنّ الجند من حوله يتكفّلون بالمسير بين يديه، وقمع الناس للانحناء له بل والسجود عند بعضهم مما نراه إلى يومنا هذا، فلا يستوي أن نقول إنّ النبيّ العظيم أسس دولة بالمعنى السياسي للكلمة اليوم، بل أسس مجتمعاً فاضلاً بذر فيه قيم الحبّ والتعاطف والأخلاق الحميدة، وبلّغ الرسالة، وأدّى الأمانة، ولم يترك خلفه كما أشرت خليفة أو حاكما، إنّما ترك الأمر مفتوحاً لكي يتفقوا فيما بينهم على من يحكمهم، أي دولة للمسلمين وليس للإسلام. 

على أنّ ما جرى غير ذلك، كما وصلنا في التاريخ، فحتى تجربة الخلافة الراشدة لم تنجح، وجرى اغتيال ثلاثة من الخلفاء الأربعة، وتحوّل الدين إلى مُلك عضوض في العهد الأموي، ولم تقم له قائمة إلى يومنا هذا، فقد تمّ توظيفه بطريقة خاطئة، وتحويل وجهته الحقيقية إلى حروب مع أصحاب الرسالات الأخرى، والقيام بما يسمّى بالفتوحات الإسلامية، وهي في الحقيقة كما أسلفت في حوار سابق لي مع بعض الصحف، استعمار عربي باسم الإسلام لشعوب الأرض الأخرى، وكان ينبغي أن يسري الإسلام كدين بين بقية الشعوب سريان الماء في الأرض دون حدود ولا جغرافيا ولا تمييز، وأن لا يجبر أحد على اعتناقه، فالحقّ يقوم بذاته ولا يحتاج إلى قوة من خارجه، ولا يُجبر أحد على العبادات أيضاً، فحروب العقال من أجل الزكاة تكون بالتالي غير منسجمة مع روح الدين، وحروب الردّة لاسترجاع الناس إلى الدين بالقوة تقع في هذا السياق أيضاً وأراها مخالفه لما جاء في النصّ القرآني الذي لا يضع عقاباً على المرتد، وإنما أمره متروك إلى الله تعالى يوم الحساب، أما ما جرى فهو اجتهادات من الخليفة، والله يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون.

من الصعب على الناس قول الحقيقة أو قبولها، لكن لا ينبغي المجاملة وتزيين الأخطاء وجعل الاجتهادات البشرية دينا يعبد من دون الله.

س ـ هل تعارض فكرة إقامة دولة إسلامية، تسعى لتطبيق الشريعة وإقامة الأحكام الشرعية وتنفيذها، ورعاية الأخلاق الحسنة، ومحاربة المنكرات والرذائل، والقيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما تتصور ذلك وتدعو إليه أغلب الحركات والاتجاهات الإسلامية المعاصرة؟.


 ـ الشكل المقترح للدولة الإسلامية الذي تدعو إليه أغلب الحركات والاتجاهات الإسلامية المعاصرة وحتى القديمة لا يصلح، لقد طُبق مراراً وبقسوة في بعض الحالات، وفشل تماماً لأنّه ببساطة لا علاقة له بتطبيق الشريعة أو اقامة مجتمع فاضل، أو إقامة دولة للمسلمين بل دولة للإسلام، والفارق كبير بين الأمرين بالطبع.

إنّ مفهوم الحٌكم الوارد في القرآن الكريم كما أفهمه لا علاقة له بالحكم السياسي، أو بإقامة دولة تحكم بالإسلام، بل يتعلّق الأمر بتطبيق الشريعة أي ما ورد في المعاملات والإرث والحدود وحسن التعامل وصالح الأخلاق، لكن النماذج التي وصلتنا إلى اليوم تصرّ على فكرة الخلافة، أي أنّ خليفة المسلمين يمثل الله ودينه، وبالتالي تجب طاعته بشكل أعمى، وهذا أمر لا علاقة لها بالإسلام في حقيقته. الدولة التي تطبق الإسلام الحقيقي قد لا يحتملها المسلمون، فهي دولة مدنية، تحترم حقوق أصحاب الديانات الأخرى، وتقوم على المواطنة لا على الدين، فهناك حرية للكفر أو الإيمان، ولا عقاب من الحاكم على من يكفر، ولا عقوبة على من لا يؤدي العبادات بالضرورة، لكن في دولة الإسلام المقترحة عند أغلب الاتجاهات والحركات الإسلامية المعاصرة يستتاب فيها من لا يؤدي صلاة الجمعة وقد يقتل فما بالكم ببقية الأمور الأخرى.

الدولة الإسلامية الحقيقية تحترم العلم، وتعلي من شأن العلوم الحقيقية وليس التضليل الذي يمارس باسم العلم، وتحترم الطب وكل ما يساهم في إعمار الأرض بالخير والعمل والتطور، وكل مظاهر الحياة المدنية السويّة القائمة على العدل، وتساهم في نشر قيم المواطنة والأخلاق الحميدة دون إكراه، وتتعامل مع الناس بسواسية بغض النظر عن جنسهم أو دينهم أو عرقهم، فهل يحتمل المسلمون اليوم مثل هذه الدولة، وهي أيضاً ضد التعذيب، وتحترم حقوق التعبير، وحقّ الهجرة لمن شاء من مواطنيها، أو اللجوء إليها من غيرها، وتعمل على توفير التعليم والطعام والماء وكل مقومات الحياة للجميع دون تمييز، ولا يقوم جيشها بالاعتداء على أي شعب آخر ما لم يتم الاعتداء عليه.

دولة لا تؤمن بالمذاهب الضيقة، ولا تتبنّى واحداً دون غيره، بل ترجع بالمسلمين إلى المربع الأول، أي القرآن الكريم وتعاليم النبيّ العظيم ضمن الميزان الذي أسلفت ذكره، إنها دولة مثالية كما تبدو، لكنّها في الحقيقة مستقاة من روح الإسلام نفسه وتعاليمه النقية، فمن ذا الذي يحتمل وجودها اليوم من طلاب السلطة، ودعاة الدفاع عن الدين، والمتربّصين بالحق..!؟

لكن ما يؤمل النفس أنّ الله تعالى تكفّل في النهاية بنصر من ينصره، فالحقّ يقوم بذاته، لا يحتاج إلى قوة من خارجه لدعمه، وبالتالي فإنّ من يصدق النيّة، ويطلب البحث عن الحقيقة سيعرفها، والأرض يرثها عباد الله الصالحون، ولو بعد حين.

س ـ هل تعمم فكرة كتابك المركزية على دعوات الأنبياء جميعا في ذلك الإسلام، ولا ترى صحة من يفرق بين الدين الإسلامي وغيره من الأديان كالنصرانية مثلا في طبيعة العلاقة بين الدين والسياسية، وأن الإسلام دين ودولة؟


 ـ الدين عند الله واحد منذ آدم عليه الّسلام، ولم يأت أي نبيّ بغير الدين وهو "الإسلام"، فهناك الإسلام الإبراهيمي، والإسلام العيسوي، والإسلام المحمّدي،.. فهي إذن رسالات متعدّدة لدين واحد، لكن ميّزة "الإسلام المحمّدي" أنّه جاء للناس كافة، ومصدقاً لما سبقه، ومهيمناً عليه، ولم يأت لاغياً له، وما ينطبق عليه بخصوص إقامة الدولة الدينية ينطبق على الرسالة المسيحية والموسوية وغيرها، فلم تأت الرسالات السابقة من أجل إقامة مُلك أو سلطة باسم الله، حتى إنّ بعض بني إسرائيل سألوا نبياً لهم أن يُعيّن لهم ملكاً، لأنّهم يعرفون أنّ المُلك غير النبوّة، وكان وضعهم يحتمل وجود ملك ليقودهم في رحلتهم الدنيوية.

 

وبالتالي فإنّ الذي أراه من تدبّر القرآن الكريم، واتباع هدي النبيّ العظيم أنّ الدين شيء والسياسة شيء آخر، الدين يسري في وجدان الناس دون خوف ودون قهر أو اكراه، والسياسة تسوس الناس بالترهيب والترغيب، فمن دخل الدين مكرهاً، فإنه سيكون منافقاً إذ يُظهر لغيره شيئاً ما، وهو يرفضه في أعماقه، أما اجبار الناس على قوانين الملك أو مراسيم السلطان فهي أمر بشري يجري التوافق عليه بين الحاكم والمحكوم، وقد يحتمل هذا الكثير من الجبر والقهر واستخدام العصا الغليظة لجرّ الناس إلى طاعة السلطان، والذي يظهر لنا أنّ هناك خلطاً مقصوداً وواضحاً عند أصحاب الرسالات، ومنهم المسلمون المحمّديون بين الدين والسلطة، وجعل الحاكم باسم الله، وقراراته لا تُرد، ومن يخالفه كأنّه يخالف الله، أو يطعن بالدين، وهذا الخلط العجيب جرّ على الأمم الكثير من القتل والتشريد، والله بريء مما ينسبونه إليه من مراسيمهم الدنيوية، وقراراتهم البشرية. لهذا من الواجب اليوم عودة الدين إلى مساره الحقيقي، دون أن يختلط بشهوات السياسة ومستنقعها العفن، بعد أن دفعت البشرية الكثير في سبيل ذلك وما تزال، والله غالب على أمره.

 

إقرأ أيضا: باحث سوداني لـ "عربي21": لم يأت الله بالرسل لإقامة الدول