أفكَار

طريق التمكين والسيادة للمذهب المالكي في تونس

الدكتور أحمد القاسمي يروي قصة المذهب المالكي في تونس (الإذاعة التونسية)

انتهت إفريقية موطنا جديدا للمذهب المالكي ومدرسة قائمة تضارع مدارس المدينة والعراق ومصر أو تتقدم عليها. ولكن مسيرته لم تكن هينة وطريقه لم خالية من المحن والشدائد. فقد ظهر فيها في الشطر الثاني من القرن الثاني للهجرة والبلاد تمثّل مصدر جذب للمذاهب التي ترى فيها بيئة صالِحة للانتشار وبسط النفوذ. فيتنافس فيها أتباع أبي عمرو عبد الرحمن بن عمرو بن يُحْمَد الأَوْزَاعِي وأصحاب سفيان الثوري وتشهد محاولات لترسيخ المذهب الظاهري ودعوات معتزلية متلاحقة. 

أما عبد الله بن فروخ (115-176) فكان يلقي دروسا دوّنها عن أبي حنيفة قبل أن يصنّف هذا الإمام كتبه ويذيعها بين الناس.
 
ويعدّ الفقيه علي بن زياد، المؤسس الفعلي للمدرسة المالكية الإفريقية. فبعد أن أخذ علمه عن الإمام مالك انتصب يدرّس في جامع الزيتونة ويروي عنه موطّأه. فمثل نموذجا مشجعا لمن اختلف إلى درسه على الرحلات العلمية. ووجههم إلى أعلام المدرسة المالكية المصرية الأولى.

1ـ  "الأسدية" و"المدونة "تنافس بين الرجال يتحول إلى تنازع بين المذاهب

ممن اختلفوا إلى دروس علي بن زياد، الفقيه أسد بن الفرات والإمام سحنون بن سعيد. فكانا تربين متقاربين في النبوغ متشابهين في المسار. فقد ارتحل أسد بن الفرات إلى الشرق بعد أن تلقى عن معلّمه "الموطأ" في تونس. واختلف إلى درس الإمام مالك في المدينة ثم ترك مدرسته التي تستند في أدلتها إلى الرواية والحديث. وقصد مدرسة أهل الرأي في العراق وأخذ عن الإمام أبي يوسف ومحمد بن الحسن الشيباني وغيرهما من أتباع أبي حنيفة النعمان. 

ولعل هاجس المقارنة بين المدرستين جعله يأتي بكتب أبي حنيفة ويبحث عن إجابة لمسائلها في المدينة. ولكن موت الإمام مالك قبل أن يدركه جعله يشد الرحال إلى تلميذه الذي صاحبه لعشرين سنة عبد الرحمن بن القاسم بمصر، فدوّن عنه "الأسدية" ودرّسها في القيروان وأصاب بها المكانة العلمية والمقام الرفيع. ولكنه لم يلتزم فيها أصول المذهب المالكي التزاما تاما. فقد كان ينزع إلى استنباط الأحكام من أدلّتها الشّرعيّة بالتّوسع في استعمال الرّأي والقياس والاستحسان. 

ومما نقل عنه القاضي عياض في كتاب "تراجم أغلبية" قوله: "لما خرجت إلى المشرق وأتيت المدينة فقصدت مالكاً وكان إذا أصبح خرج آذنه، فأدخل أهل المدينة، ثم أهل مصر، ثم عامة الناس فكنت أدخل معهم فرأى مالك رغبتي في العلم، فقال لآذنه ادخل القروي مع المصريين فلما كان بعد يومين أو ثلاثة قلت له إن لي صاحبين وقد استوحشت أن أدخل قبلهما فأمر بإدخالهما معي وكان ابن القاسم وغيره يجعلونني أسأل مالكاً، فإذا أجابني قالوا لي قل له فإن كان كذا وكذا، فضاق علي يوماً وقال هذه سلسلة بنت سليسلة إن كان كذا كان كذا إن أردت فعليك بالعراق". 

وعلى خلاف تصنيف بعض الباحثين للرجل باعتباره فقيها مالكيا، "يلوح"، وفق محمد بن الخوجة الشيخ الحنفي، في تاريخ معالم التوحيد في القديم والجديد، "أنّ ناشر مذهب أبي حنيفة بإفريقية هو القاضي أسد بن الفرات، فإنه بعد أن أخذ عن الإمام مالك ـ رضي الله عنه ـ ثم عن أبي القاسم وعنه دوّن أسديته المشهورة، ترك أهل الرواية ورجع لأهل الرأي الذين أخذ عنهم الفقه الحنفي بالعراق..". 

أما الإمام سحنون، الذي تلقى دروسا في الفقه المالكي عن ابن زياد بدوره ودرّس بالقيروان وتولَّى قضاءَها وعمِل من خلالهما على ترسيخِ المذهب المالكي، فقد أخذ "الأسدية". وعاد بها إلى ابن القاسم لمراجعة بعض موادها. وقد ورد في "المحاضرات المغربيات"، للشيخ محمد الفاضل ابن عاشور "أن أسدا بن الفرات وسحنون أخذا مسائل مالكية عن علي بن زياد لما رحلا إليه ـ وهو بتونس ـ من القيروان، دوّن أسد مدونته عن شيخه، فلاحظ سحنون فيما كتبه أسد نبوات أو اختلافات عما يظن أنه سمعه من على بن زياد، فحدا به ذلك إلى أن يرجع في تحقيق ما وقع له فيه الشك، وما اتهم فيه ما أخذه عن أسد بن الفرات بالاضطراب أن يرجع إلى الذي كان مسلمًا له من بين أصحاب مالك، وهو عبد الرحمن بن القاسم، فتوجه سحنون إلى مصر، وصدرت عنه المدونة التي تعتبر في الحقيقة أثر الأربعة من الرجال على التعاقب، هم: علي بن زياد المدون الأول، وأسد بن الفرات مدوِّن المدونة التي عرضها سحنون على ابن القاسم، وابن القاسم الذي صُححت لديه مدونة أسد بن الفرات "الأسدية"، وسحنون الذي كتب خلاصة ما سمع من ابن القاسم، مع ما سمع من غيره من أصحاب مالك بإفريقية ومصر". 

وبالفعل فقد وجد فيها عبد الرحمن بن القاسم مواد ناشئة عن إعمال الرأي. فأزالها واستدرك منها مواد لم تكن دقيقة، كان قد أملاها هو على أسد بن الفرات من حفظه. فنقّحها سحنون وأعاد تنسيقها وتبويب موادها وعنونها بـ"ـالمدونة" حتى أضحت الكتاب الثاني في التراث المالكي بعد "الموطأ". فأخذها عنه مشايخ إفريقية والمغرب والأندلس. وحصّل بها مجدا علميا. واجتذب إليه طلبة العلم الشرعي حتى قيل أنّهم بلغوا نحو 700 تلميذ. 

ولم يكن حصول الإمام سحنون بهذه التلقائية التي يوحب بها قولنا. فقد نشأ بين الرجلين تنافس جعل أسدا يضنّ بأثره على الإمام سحنون حتى لا يحصّل بها الشرف في محيطه. فـ"جاء رجل من الجزيرة يطلبها" وفق روايةالدباغ في "معالم الإيمان في معرفة أهل القيروان"، "ولم يناول إياها إلا بعد أن حلفّ أنه لا يسلمه إلى سحنون، فلمّا صار الكتاب إلى الرجل أتي إلى سحنون وقال: خذه يا أبا سعيد فما أعطيته حتى حلف وأنا أكفر عن يميني، فكملت الأسدية عند سحنون". 

وسينتقل التنافس إلى الأثرين وسيؤثر في الحياة الفقهية لإفريقية لقرون طويلة. ثم سترجح  الكفة "المدونة" وسيتفوق صاحبها بإقرار عبد الرحمن بن محمد الأنصاري الدباغ " في معالم الإيمان في معرفة أهل القيروان". فيذكر "ثم قدم سحنون بذلك المذهب، وجمع مع ذلك فضل الدين والعقل والورع والعفاف والانقباض، فبارك الله تعالى فيه للمسلمين، فمالت إليه الوجوه وأحبته القلوب وصار زمانه كأنه مبتدأ، وقد محا ما قبله فكان سراج القيروان".

2 ـ المذهب لمالكي في إفريقية، تاريخ من الصمود أمام المحن والشدائد

مع انتشار التعليم الديني، ستتضح الفوارق بين منهج أنصار الحديث المالكيين ومنهج أنصار الرأي الأحناف وستضحي الساحة الفقهية أكثر ميلا للجدل والمناظرات بين أتباع المذهبين. وستُطوى مرحلة طلب العلم لذاته دون الانتصار لمذهب بعينه التي مثلها خاصّة المالكي عبد الله بن غانم (128- 190). فقد كان يخصص يوما في الأسبوع لتدريس المذهب الحنفي من باب نشر العلم. وسيحسم أسدا أمره وينتصر إلى المذهب الحنفي ويقضي وفق أحكامه. أما سحنون فسيخوض صراعا عاتيا للدفاع عن المذهب المالكي ولنصرته. وسيواجه في ذلك المحن والابتلاء. 

ويبدو أنّ الأحناف كانوا في بداية القرن الثالث أظهر في المجتمع، رغم معارضة الشيخ محمد النيفر لهذا الرأي في حواشي تحقيقه للجزء الثاني من كتاب أبي عبد الله السنوسي "مسامرات الظريف بحسن التعريف". أو كانوا أقرب إلى الطبقة الحاكمة، على الأقل، خاصّة لما تبنَّى زيادة الله بن إبراهيم  (172- ه223 ه)، أحد الأمراء الأغالبة، مبدأ المُعتزلة القائل بخلق القرآن، فقد وجد صدى لدى القاضي الحنفي ابن أبي الجواد الذي تولى قضاء إفريقية حتى 224ه، وإن قدمته بعض الدراسات باعتباره معتزليا، وكان شديدا على أتباع المذهب المالكي وعلى الإمام سحنون بالذات. 

ثم تصاعدت محنة المالكيين بعدئذ لمّا تولّى سليمان بن عمران القضاء وعمل على فرض المذهب الحنفي على العامة. فاتخذت العلاقة بين المذهبين شكلا عنيفا. وكان المالكيون ضحاياه غالبا. ومع ذلك ظل مذهبهم ينتشر بين العامة، وظل أئمته يوازنون بين سدّ الذرائع والمصالح المرسلة. فكما توجب الذريعة السدّ ومنع المباح في سياقات بعينها حتى لا يعمّ الفساد، يوجب تحقيق المصالح وإنفاذ مقاصد الشريعة فتحها في سياقات أخرى. كما ظلوا يوازنون بين مبدإ عدم الخروج عن الحاكم لدرء الفتن ودعم الاستقرار للبلاد ومبدإ الأمر المعروف والنهي عن المنكر الموجب للانخراط في الساحة السياسية والعمل على نصح الأمراء.

أمّا المحنة الثانية التي جدت في عهد الدولة الفاطمية الشيعية، فكانت أشد عليهم هم خاصّة وعلى السنة عامّة. فتذكر المصادر تعمد رجالهم استفزاز الأهالي بالإساءة إلى الصحابة وشتمهم في الأسواق وفي الساحات العامة. ومن ردّ الفعل عُذّب أو قتل ومثّل به.
  
ولم تستفد المالكية كثيرا من تراجع المذهب الحنفي مطلع القرن الخامس بعد أن تخلى المعز  بن باديس عن المذهب الشيعي في النصف الأوّل من القرن الخامس للهجرة، وألزم الناس بمذهب مالك، فقد قامت الدولة الحفصية واستقام لها الأمر لثلاثة قرون ونصف امتدت من 627ه إلى 981 ه. فاعتمدت المذهب الموحدي الذي جمع فيه المهدي بن تومرت مزيجا من الأشعريّة والتشيّع والاعتزال. ومحاولة منهم لمنع التقليد والحث على الاجتهاد انطلاقا من أثر بعنوان "أعز ما يطلب" منع الخليفة الموحدي عبد المؤمن بن علي العودة إلى مدونة سحنون وأمر خلفُهُ أبو يعقوب يوسف بإحراقها مع سائر كتب الفروع. ورغم أنّ نسخها لم تتلف بالكامل مما ضمن بقاءها، كان على المالكيين أن يواجهوا هذه المحنة بصبر وثبات.

3 ـ المذهب المالكي يتعايش مع المذهب الحنفي ثم يحسم المنافسة لفائدته

لقد كان قدر المذهب المالكي في إفريقية أن يواجه مذاهب منافسة مدعومة برعاية سياسية غالبا. ولعلّ المذهب الحنفي أن يكون أظهرها. فرغم انحصاره بين قلَّة من الطبقة الأرستقراطية حتى نهاية القرن العاشر الهجري، عاد مع العثمانين إلى الواجهة. فمنذ مجيء الأتراك إلى تونس بقيادة سنان باش(981هـ ـ 1574م) لتخليصها من الاستعمار الإسباني واستقرار بعض قواته فيها لحفظ الأمن بعده ووصول البايات في عهد الدولتين المرادية والحسينين، حرصوا على نشر المذهب الرسمي للخلافة العثمانية وأسسوا له المدارس ومكنوه من الإفتاء والقضاء. 

ولكن هذه المرحلة اتسمت بالتعايش بين المذهبين فتقاسما الجوامع فاختصت الحنفية بجامع القصبة مثلا وأسندت إليها خطّة شيخ الإسلام، فيما اختصت المالكية بجامع الزيتونة وأسند إليها الإشراف على المجلس الشّرعي المالكي. ولئن لم يلقب رئيس الفتوى المالكي بلقب شيخ الإسلام إلاّ سنة 1351هـ/1932م وحظي بهذا الشرف الشّيخ محمد الطّاهر ابن عاشور، فإنّ التنافس السلمي بينهما لم يتجاوز هرم الحياة الدينية أو الطبقة الأرستقراطية. 

أما الأهالي فكانوا أميل إلى المذهب المالكي أبعد عن الأحناف. ومع تحقق الاستقلال وزوال الدعم الرسمي للأحناف تسيدت المالكية المجتمع وانحسر المذهب الحنفي دون أن يختفي تماما. ولا شك أنّ صمود المذهب المالكي يعود إلى خصائص مدرستيه الشهيرتين، القيروان والزيتونة، وإلى جهود علمائهما الذين أثروا الفكر المالكي بمصنفات عُدت من الكتب لدى أتباع المذهب في مختلف أصقاع المعمورة. وهذا ما سنجعله موضوع ورقتنا المقبلة.

 

إقرأ أيضا: في سمات المذهب المالكي المميزة وخصائص المحيط الحاضن