أفكَار

الخلاف العقدي الإسلامي.. اجتهادات أم ضلالات؟

اختلاف المذاهب الإسلامية سبيل للبحث عن الحقيقة (الأناضول)

تختلف الاتجاهات العقائدية الإسلامية، كالمعتزلة والأشاعرة والماتريدية والحنابلة (السلفية) في فهمها وتصورها للصفات الإلهية، وعلى الرغم من كل الخلافات العميقة بينها إلا أنها تسعى لتنزيه الله تعالى تنزيها مطلقا عن مشابهة المخلوقات في شيء من صفاته، وفق منهجية كل اتجاه في قراءته وفهمه للنصوص الواردة في ذلك. 

ومن اللافت أن طبيعة الجدل العقائدي الدائر بين تلك الاتجاهات ينطلق في غالبه من تصنيفات معينة، يصف معها كل اتجاه سائر الاتجاهات المخالفة له بالضلال والابتداع، فتجد الأشاعرة والماتريدية يصفون السلفية المثبتين للصفات الواردة في النصوص على حقيقتها بالمجسمة والمشبهة، في الوقت الذي يصف فيه السلفيون الأشاعرة والماتريدية بالمعطلة والجهمية، وكذلك الحال في خلافات المعتزلة مع الأشاعرة والماتريدية والسلفية.  

ووفقا للباحث والمحقق في العلوم الشرعية، محمود سعيد ممدوح فإن "الاختلاف في مسائل الأسماء والصفات ظني وليس بقطعي، وقد حارب المسلمون في غير عدو، علا بعضهم على بعض، والمذاهب لا تخرج عن الإثبات، والتفويض، والتأويل، وإياك أن تسلك سبل من يزيد أو يغالي أو يمثل، أو يبتدع زيادة بفهمه" حسب منشور له على الفيسبوك. 

فهل الاختلاف في الأسماء والصفات هو ظني بالفعل وليس قطعيا؟ وإن كان الأمر كذلك فلماذا لا يكون من قبيل الاختلاف في الفهم والرأي بعيدا عن كل صور وأشكال التضليل والتبديع؟ وهل هي حقا من قبيل الاجتهادات التي يؤجر عليها أصحابها أصابوا أم أخطأوا.. أم أنها ضلالات توقع أصحابها في الإثم والوزر، وتجعلهم يستحقون أوصاف الضلال والابتداع والانحراف؟

في إجابته عن الأسئلة المثارة بيَّن الباحث والأكاديمي الأزهري، الدكتور أحمد الدمنهوري أن "الاختلاف العقدي وقع في الأمة الإسلامية منذ العصر الأول، فقد سأل ناسٌ عن القدر في عهد عمر فعاقبهم، لأنه علم أنهم يجادلون ولا يسألون ليتعلموا، وتَشَيَّع ناس لعلي بن أبي طالب ثم خرجوا عليه، وناظر ابن عباس هؤلاء الخوارج فرجع ثلثيهم عن رأيهم في تكفير المسلمين". 

 

 

                           أحمد الدمنهوري.. باحث وأكاديمي أزهري


وأضاف لـ"عربي21": "ومع وجود هذه القلاقل العقدية في العصر الأول إلا أن علم الصحابة رضي الله عنهم كان كفيلا برد الزائغين، أو على الأقل التخفيف من أثر زيغهم، والدين هو نصوص القرآن والسنة وما بُني عليهما من مصادر الأحكام كالإجماع والقياس.. وهذه النصوص متفاوتة في القوة، فمنها القطعي ومنها الظني، فما بُني على القطعيات فهو من الأصول، وما بُني على الظنيات فهو من الفروع".
 
وتابع: "والقطعيات والظنيات كلاهما موجود في العقيدة والشريعة والأخلاق، أي أن في العقيدة قطعيات وظنيات، وفي الفقه قطعيات وظنيات، وفي الأخلاق قطعيات وظنيات، والخلاف إذا وقع فإنه يكون في الظنيات لا القطعيات، لأن مخالف القطعيات مكابر معاند، أي أن الخلاف المقبول هو ما كان في ظني الثبوت في طرق ثبوته، أو في دلالته ومعناه في لغة العرب حصرا.. فالقطعيات لا يُتصور فيها خلاف لأنها هي العمود الفقري الذي يجعل الدين دينا". 

ولفت الدمنهوري إلى أنه "يمكننا أن نفرق بين نوعين من الاختلافات؛ أولها: اختلاف يؤدي بصاحبه إلى الخروج من الملة، وثانيها: اختلاف يؤدي بصاحبه إلى الابتداع، فنحن أمام موقفين: موقف الخروج من الإسلام إلى الكفر، وموقف الخروج عن الطريق القويم إلى الابتداع..

وتوضيحا للمقصود بالطريق القويم، ذكر أنه "الطريق الذي يتبع المنهج العلمي المنضبط في فهم القرآن والسنة مع إقرار صاحبه إجمالا بمرجعية القرآن والسنة، وإيمانه بقطعياتهما.. وهو باختصار الطريق الذي تمثل تاريخيا فيما عرف اصطلاحا بـ"أهل السنة والجماعة.. ولا يُقال هنا: أليس أهل السنة والجماعة فرقة من الفرق؟ لأننا نقول: إن أهل السنة والجماعة ليسوا فرقة من الفرق، بل نشأت الفرق كنتوءات هامشية في جسد الأمة الكبير، فأطلقت أسماء على هذه الفرق كالمعتزلة والمجسمة والشيعة، وظلت الأمة كما هي، لا تنتمي إلا إلى ما ورثته وما عرفته وما تلقته". 

وعن المذاهب الاعتقادية المخالفة لأهل السنة، رأى الدمنهوري أن "صاحبها إن استفرغ الوسع في معرفة الحق، ودخل البيت من بابه، وتعلم وبحث وفتش، فإننا نرجو له أن يؤجر إن مات قبل الاهتداء إلى الحق، لكن هذا أمر أخروي، أي أن الحكم الأخروي مبني على أمرين غيبيين: الأول: نيته، الثاني: مدى استفراغه للوسع في طلب الحق، وكلاهما ليس في مقدورنا العلم بهما لذا فإننا لا نحكم على ما لا نعلم، ونكل الحكم فيه إلى الله تعالى". 

من جهته بيَّن أستاذ العقيدة والفلسفة بجامعة الأزهر، الدكتور اليماني الفخراني أن "أصل الفرق الإسلامية تعود إلى ثماني فرق، الجبرية وفي مقابلتها القدرية، والمرجئة وفي مقابلتها الوعيدية، والصفاتية وفي مقابلتها الجهمية، والشيعة وفي مقابلتها الخوارج، ومن هذه الفرق تشعبت الفرق الثلاث والسبعون، التي ورد بشأنها الحديث المشهورفي افتراق الأمة، إذا اعتبرنا العدد في الحديث".

وتابع: "أستطيع القول: يمكنني الاستدلال على مذهب كل فرقة من القرآن الكريم ومن السنة النبوية، وبالتالي فإن حصر القضية بين مجتهد مصيب مأجور وضال مأزور تقزيم للقضية، وتهوين من شأن الاختلاف الناشىء عن ظروف وملابسات لواقع متأزم نشأت عنه هذه الفرق الإسلامية، ومن حسن الحظ أن علماءنا الأوائل عندما أرّخوا لهذه الفرق وضعوهم ضمن دائرة الإسلام، تجلى ذلك في مقالات الإسلاميين للأشعري وغيره".

 



وعن أهمية النظر في أسباب نشوء تلك الفرق نبّه اليماني في حواره مع "عربي21" على أن "ثمة إشكالية تظهر حال النظر إلى تراث هذه الفرق دون النظر في أسباب نشوئها، والمتمثلة في كون الاختلاف طبيعة بشرية، واختلاف المدارك والعقول، العصبية، التقليد، التنازع على الخلاف والأثر السياسي لنشأة الفرق، وطبيعة الدين نفسه، فالإسلام دين فكري معجزته الرئيسية عقلية متمثلة في القرآن الكريم، إضافة لاختلاط الثقافات ودخول الإسرائيليات، وترجمة الفلسفة، فهذه كلها عوامل أثرت في نشأة الفرق". 

وختم حديثه بالإشارة إلى أن "القضية ليست ضلالة أو اجتهاد، بل قضية بحث بطرق مختلفة عن الحقيقة، فالمجتهد المصيب له أجران، والمجتهد المخطىء له أجر ما دامت النوايا خالصة، وقد اجتمعت أقطاب الأمة من كافة الاتجاهات على أن أهل السنة والجماعة هم السادة الأشاعرة والماتريدية دون تكفير لغيرهم، وقد نقل عن أبي الحسن الأشعري، وأبي منصور الماتريدي أنهما في لحظات وفاتهما، كل على حدة، قالا: اشهدوا بأنا لا نكفر أحدا من أهل القبلة". 

بدوره قال الأستاذ المشارك في العقيدة الإسلامية بجامعة مينيسوتا في أمريكا، الدكتور أحمد الحنيطي "من يمثل أهل السنة والجماعة في العقيدة هم الأشاعرة والماتريدية والحنابلة، أما المعتزلة فلهم مدرستهم الخاصة بهم.. والأصل أن يكون الخلاف بين تلك الاتجاهات خلافا فكريا نظريا، لا ينبغي أن يصل إلى السلوك، وإنما يجري في دائرة البحث العلمي بتخطئة الأفكار والآراء، وبيان مدى قربها وبعدها عن الحق". 

 


وأردف "أما بخصوص ما يحدث من تضليل وتبديع بين الاتجاهات العقائدية المختلفة، فعادة ما يكون كنتيجة للمحصلة النهائية في البحث، والبدعة في العقيدة كالذنب وهي ليست على درجة درجة واحدة، فمنها ما يكون مكفرا، ومنها ما يكون مفسقا، ومنها ما يكون من قبيل المخالفة المحتملة، وعلى هذا الأساس يتم التعامل مع أصحابها، كضرورة التفريق بين الداعي إلى بدعته وعدم الداعي لها".

وردا على سؤال "عربي21" حول طبيعة الخلافات العقدية، أوضح الحنيطي أنها "تنقسم إلى عدة أقسام، فمنها ما لا يقبل بتاتا، ومنها ما يكون ضعيفا، ومنها ما يكون مرجوحا، ومنها ما يجوز الاجتهاد فيه ومنها ما لا يجوز الاجتهاد فيه، فلا ينبغي التعامل معها جميعا من منطلق واحد، بل باعتبار تلك المقاييس والمعايير".

وتابع: "من المعروف أن اتجاه المعتزلة توسع كثيرا في النظر العقلي بتعامله مع النصوص الشرعية، على عكس أتباع الاتجاه الحنبلي (السلفية) الذي أثبتوا ما جاءت به النصوص من غير تمثيل ولا تعطيل ولا تأويل، وتوسط الأشاعرة والماتريدية بينهما بإثبات بعض ما أثبته النصوص، وتأويل ما جاءت به بعض النصوص وصرفه عن ظاهره وتفويض علمه إلى الله، أو تأويله بما تتسع له لغة العرب".
 
وفي ختام حديثه نبَّه الحنيطي على ضرورة التفريق بين "الحكم على الآراء والحكم على الأشخاص، لا سيما إن كان الشخص غير داع إلى بدعته، وكذلك التوقف عند أصل هام ألا وهو طريقة التعامل مع المسلم، فحتى المعتزلي ـ في أبعد أحواله ـ ينبغي التعامل مع كمتأول للنصوص، والتأويل من موانع إطلاق الحكم بتكفير الشخص المعين، فيبقى في دائرة الإسلام، ويُعامل معاملة المسلمين من الرحمة وحب الخير لهم والتسامح معهم، مع وجود الاختلاف في الرأي والفهم، ومن ثمَّ التعامل معها بالحوار الهادئ والبحث العلمي الجاد".