قضايا وآراء

الانقلاب يبحث عن شرعية

1300x600
في العقود الماضية كانت الانقلابات في العالم العربي، يقوم بها قادة الجيش أو العسكر، وتكون فيها السيطرة على السلطة، بدون حاجة الانقلابيين لتقديم أية مبررات أسباب أو دوافع لقيامهم بهذا العمل، سواء كانت ذات خلفيات سياسية أو أيديولوجية أو قانونية. لكن في السنوات الأخيرة، يلاحظ أن قادة الانقلابات يبحثون على غطاء سياسي أو قانوني، لإضفاء الشرعية على عملية الاستيلاء على السلطة خارج القانون.

ولتوضيح الصورة، أقدم بعض الأمثلة من داخل السياق العربي، لأنه بالمثال يتضح المقال. وفي مقدمة ذلك، ما وقع في مصر السيسي، عندما قام وزير الدفاع سابقا عبد الفتاح السيسي بانقلاب على أول رئيس مدني منتخب، محمد مرسي، في 3 تموز/ يوليو 2013. وحتى يضفي شرعية على انقلابه، مهّد لذلك بتحريض وسائل الإعلام، وتجييش الشارع، واستقطاب القوى والتيارات المعارضة للإخوان، للخروج في مظاهرات احتجاجية ضد حكم مرسي. وبالفعل خرجت مظاهرات في 30 تموز/ يونيو 2013، لكنها لم تكن بالحجم الذي صورها الإعلام المصري المنحاز للعسكر، في محاولة لإيهام الداخل والخارج بأن هناك انتفاضة شعبية، وذلك للتغطية على الانقلاب العسكري.

وقد نجح قائد الانقلاب في خداع قوى وأحزاب وشخصيات سياسية ومدنية كثيرة، لكن بعد ذلك، ستكتشف هذه القوى والنخب التي ساندت الانقلاب، أن قائد الانقلاب بدعم من قادة الجيش المصري، استولى على السلطة لإعادتها إلى الحكم المباشر للعسكر. ومما جاء في بيان الانقلاب الذي تلاه قائده، هو أنه جاء استجابة لدعوات الشعب المصري للجيش بالتدخل ولعب "دوره الوطني"، مستبعدا أي دور له في الحياة السياسية، وأن دعوة الشعب لنصرته من أجل خدمته وليس من أجل الحكم. وقد وضع لذلك خارطة طريق للسيطرة على مقاليد السلطة، بما في ذلك الرئاسة، ونجح في الوصول إلى أهدافه الانقلابية.

وغير بعيد عن مصر، وعلى نفس خطى قائد الانقلاب عبد الفتاح السيسي، ففي السودان، قام الجيش بقيادة عبد الفتاح البرهان، بالانقلاب على الحكومة المدنية، التي يرأسها عبد الله حمدوك، وأعلن حالة الطوارئ، وقام بحل الحكومة ومجلس السيادة، وتعليق العمل بالدستور.

وفي خطابه إلى الشعب السوداني، لشرعنة انقلابه، بشّر قائد الانقلاب بسودان جديد، يتمتع بالحرية والعدالة. وأضاف البرهان في تصريح صحفي أن هدف الانقلاب هو "تصحيح للمسار"، في محاولة على ما يبدو للتمويه على الانقلاب، وتفادي ردات الفعل الداخلية والخارجية. لكن قائد الانقلاب لم ينجح في تسويق انقلابه، وأثار ردود فعل قوية داخليا وخارجيا، تمثلت في معارضة واسعة من طرف جميع القوى المدنية والسياسية، وخروج مظاهرات شعبية منددة بالانقلاب من جهة، ومن جهة أخرى، رفض المجتمع الدولي لسيطرة العسكر على السلطة مرة أخرى، بعد فترة انتقالية لم تدم طويلا؛ وكانت تهدف إلى انتقال ديمقراطي سلمي للسلطة من العسكر إلى الحكم المدني.

في تونس، كان الوضع مختلفا تماما، لأنه البلد العربي الوحيد الذي شهد ثورة شعبية بكل ما تحمله الكلمة من معنى. واستطاع الشعب التونسي أن يسقط نظام ابن علي، بجميع رموزه وقادته، ونجح في تنظيم انتخابات رئاسية وتشريعية ومحلية حرة، على مدى عشر سنوات، نشأت عنها مؤسسات تمثيلية ديمقراطية. وبقيت تونس محافظة على هذا الانتقال الديمقراطي، حتى انتخاب الرئيس الحالي قيس سعيد، الذي استغل الجمود السياسي والأزمة الاقتصادية والاجتماعية التي تعيشها البلاد، فقام في 25 تموز/ يوليو 2021 بالانقلاب على شركائه في السلطة، باتخاذ قرارات استثنائية، من بينها تجميد عمل البرلمان وإقالة الحكومة..

 ومع ذلك، تبقى تونس حالة فريدة من نوعها، لأنها الجمهورية العربية الوحيدة التي لا يتدخل فيها الجيش في السياسة، وشكلت الاستثناء حتى في طبيعة الانقلاب الذي قامت به مؤسسة مدنية (رئيس الدولة)، وليس مؤسسة عسكرية (الجيش)، كما يحدث في معظم البلدان العربية والأفريقية.

وكان من الطبيعي أن تخلّف قرارات سعيد ردود فعل رافضة ومعارضة، من مختلف ألوان الطيف السياسي والحقوقي والنقابي، وعلى رأسهم الرئيس الأسبق منصف المرزوقي وحركة النهضة، التي شاركت في السلطة خلال العشرية الأخيرة، بعد إسقاط الثورة التونسية للنظام الاستبدادي، الذي حكم تونس لفترة طويلة من الزمن. وكانت أخطاء "النهضة" وشركائها في السلطة، خلال مرحلة ما بعد الثورة، من أهم الأسباب التي أدت إلى الأزمة السياسية الحالية، وفتحت المجال أمام الرئيس التونسي لاتخاذ قرارات استثنائية جذرية، عصفت بكل المكتسبات الديمقراطية لـ"ثورة الياسمين"، وحولته من رئيس منتخب إلى مستبد يحتكر كل السلطات بين يديه.

وقد سعى السعيّد إلى إضفاء الشرعية على الإجراءات والقرارات التي اتخذها، لاحتواء ردود الفعل الداخلية والخارجية، مستندا إلى الفصل 80 من الدستور، الذي يجيز للرئيس اتخاذ مثل هذه القرارات، ولكن في حالة الخطر الداهم"، وذلك "لإنقاذ تونس"، وأن ما قام به "ليس تعليقا للدستور، أو خروجا على الشرعية الدستورية". ولكن هذه المبررات لم تكن لتقنع أغلبية التونسيين، الذين رفضوا ما وقع، وحتى الرأي العام الدولي لم يستسغ الإجراءات الاستثنائية التي قام بها السعيد.

وقد عكست الصحافة الغربية الموقف العام من الأزمة التونسية، حيث سجلت مثلا صحيفة "الغارديان" البريطانية الانتكاسة السياسية في تونس، في مقالة بعنوان: "وجهة نظر الغارديان حول الانقلاب في تونس: ربيع يتحول إلى شتاء". وجاء في المقالة المذكورة أن تونس "كانت الدولة العربية الأولى التي أطاحت بديكتاتورها في 2011، وكانت الوحيدة التي بقيت فيها ديمقراطية حقيقية". وحتى في الصحافة الأمريكية والفرنسية، لم يختلف الموقف من الأزمة، بحيث وصفت صحيفة "واشنطن بوست" ما يجري في تونس بأنه أخطر أزمة تمر منها تونس منذ 2013. وكتبت صحيفة "لوموند" الفرنسية: إن الأزمة السياسية بلغب منعرجا جديدا بعد قرارات سعيد.

من كل ما سبق، يتضج جليا أن قادة الانقلابات في الدول العربية دائما يبحثون عن غطاء سياسي لقراراتهم غير الدستورية، لتفادي الضغوط الداخلية والخارجية، وكسب الوقت لأجل إحكام السيطرة على السلطة.