كتب

لماذا فشلت حكومات السبسي والإسلاميين والشاهد بتونس؟

رئيس وزراء تونسي أسبق يقدم شهادته على مسار تونس السياسي بعد الثورة- (عربي21)

توج الحبيب الصيد رئيس الحكومة ووزير الداخلية والفلاحة التونسي الأسبق مسيرة علمية سياسية ثرية بإصدار كتاب فخم من 500 صفحة نشرته له مؤسسة "ليدرز" التونسية، لصاحبها الإعلامي توفيق الحبيب تحت عنوان "في حديث الذاكرة".

الكتاب صاغه وأثثه الكاتب الصحفي والخبير الأمني والمستشار السابق في جامعة الدول العربية وفي وزارة الداخلية علي الجليطي تحت إشراف الحبيب الصيد، ووقع إثراؤه بملاحق عديدة بينها صور نادرة مع شخصيات عالمية وتونسية ونسخ من المراسلات الحكومية والخطب التي توثق لمرحلة "الانتقال الديمقراطي" والانتخابات التعددية وتجارب التوافق والصراع السياسي في حكومات ما بين 2011 وانتخابات 2019، التي كرست نتائجها "انقلابا على المنظومة الحاكمة الجديدة".

 

شهادات واعترافات 

ولئن اختار الكاتب أن يعبر بوضوح وصراحة عن أفكاره وقراءته لتطور الحياة السياسية وخيارات الدولة والأحزاب والنقابات والمجتمع المدني خلال توليه مسؤوليات عليا في الدولة قبل ثورة يناير 2011 وبعدها، فقد تعامل مع القضايا التي عرضها بعقلية "الموظف السامي في الإدارة المركزية" المؤمن بـ "استمرارية الدولة".. رغم كشفه عن معلومات أمنية وسياسية داخلية انتقده بعض خصومه بسببها .

خصص الصيد حوالي 150 صفحة من الكتاب لعرض مشواره العلمي والمهني والإداري قبل 1997 تاريخ تعيينه رئيسا لمكتب وزير الداخلية، مما مكنه من دخول عالم المسؤوليات السياسية في "وزارة سيادة" بعد 4 أعوام قضاها رئيسا لمكتب وزير الفلاحة محمد بن رجب، تتويجا لعقدين من المسؤوليات في قطاعات الزراعة والبيئة والصيد البحري .

 

نجاحات سياسية وإخفاقات أمنية واقتصادية مهدت " للانقلاب".. "صراعات الاجنحة " أنهكت السلطة والاحزاب والبلاد

 



نوه الصيد بثراء تجربة العمل مع عدد من وزراء الداخلية الذين أثروا في تاريخ الأمن والحياة السياسية في تونس كان بينهم صديقه محمد بن رجب والوزير المثقف علي الشاوش ثم وزير الداخلية ورجل الدولة الكبير عبد الله القلال، الذي عاد الى الوزارة في 1999 بعد أن ابعد عنها مطلع في 1995 واضطر لمغادرتها مجددا في 2001 "لأسباب صحية" ولأن الصراعات السياسية استفحلت مجددا في أعلى هرم السلطة .

حافظ الحبيب الصيد في هذا الجزء على "واجب التحفظ" رغم اعترافه مرارا "تصريحا وتلميحا" بثغرات تسيير قطاع الأمن ومؤسسات الدولة في العقد الأخير من عهد بن علي، مما أدى إلى "ترهل" وزارة الداخلية ومؤسسات الأمن وإلى "انهيار" مؤسسات الحكم تدريجيا في 2010 و2011 بعد انتفاضات اجتماعية واحتجاجات شبابية سياسية أوصلت المعارضين القدامى الليبيراليين واليساريين والحقوقيين والاسلاميين والنقابيين إلى مراكز صنع القرار الجديدة .
  
بعد سقوط بن علي 

لكن إضافات كتاب الحبيب الصيد كانت أكثر تشويقا ورمزية في أجزائها التي كشف فيها جوانب من تجربته الجديدة في الحكم بعد سقوط حكم الرئيس بن علي، وتعيينه من قبل رئيس الحكومة المؤقتة الأولى محمد الغنوشي ثم من قبل خلفه الباجي قائد السبسي مستشارا للشؤون الأمنية في رئاسة الحكومة ثم وزيرا للداخلية "لحكومة الثورة" عام 2011 .

 وقد أهله ذلك ليعين مجددا وزيرا مستشارا أمنيا في حكومة حمادي الجبالي حتى ربيع 2013 ، ثم رئيسا للحكومة الأولى التي تشكلت بعد انتخابات موفى 2014 التي فاز فيها الباجي قائد السبسي بالرئاسة وحزبه بالمرتبة الأولى في البرلمان. لكنه اضطر إلى تشكيل "تحالف برلماني" مع كتلة حزب النهضة الإسلامي الفائز بالمرتبة الثانية، دعما "للحكومة الائتلافية الأولى" التي شارك فيها نقابيون ومستقلون وممثلون عن 5 أحزاب .

ويستعرض الصيد في الفقرات الخاصة بمسيرته على رأس الحكومة صفحات من "الانجازات والإخفاقات" .وقدم في هذا السياق شهادات ومعلومات وقراءات عن تحركات الكواليس التي شارك فيها، وعن لقاءاته مع سياسيين ونقابيين من مختلف التيارات .

وأورد أن حكومته خاضت، على غرار حكومة صديقه السابق حمادي الجبالي عامي 2012 و2013  "معارك داخلية" وأخرى إقليمية ودولية لكسب رهانات التنمية والإنتقال الديمقراطي و"التوافق السياسي" والمصالحة الوطنية، في نفس الوقت الذي كانت فيه عرضة لـ "نيران صديقة" من داخل الحكومة وقصر قرطاج ومن حزب الرئيس قائد السبسي وعائلته ومن بعض المعارضين والنقابيين وزعماء بعض الأحزاب " الحليفة " و" المعارضة".

 

هذه قصتي مع السبسي والغنوشي والجبالي والشاهد.. ووزير داخليتي تحالف ضدي مع قائد السبسي وقيادات من حزب النداء

 



واستعرض الكتاب صفحات من المعركة مع التنظيمات المتطرفة ومع المجموعات الارهابية المسلحة، التي ارتكبت فور تشكيل حكومة ما بعد الانتخابات عمليات إجرامية دموية كان أبرزها الهجمات على متحف باردو في آذار (مارس) 2015 وعلى فندق سياحي في المنطقة السياحية في سوسة في حزيران (يونيو) من نفس العام. 

وكانت الجريمة الإرهابية الأكثر خطورة واستفزازا تفجير حافلة لقوات الأمن الرئاسي على بعد عشرات الأمتار من مقر وزارة الداخلية وسط العاصمة. فكانت النتيجة إقالة وزير الداخلية ناجم الغرسلي، الذي اتهمه الحبيب الصيد بـ "التحالف سرا ضده مع حافظ قائد السبسي وقياديين من حزبه،  كما أبعد كاتب الدولة للأمن رفيق الشلي (وهو آخر مدير لقوات الأمن الرئاسي في عهد بورقية عام 1987) ومسؤولين آخرين في الأمن لأنه لم يكن مقتنعا بهم (أو لم يكن يعتبرهم من بين المخلصين له..).

وعقب تلك التطورات، التي صادفت مرور عام عن انتخابات موفى 2014 وتشكيل الحكومة تعمقت الخلافات داخل أجنحة الحكم في قصر قرطاج وحزب الرئيس وعائلته ووزارة الداخلية ومؤسسات المال والاعمال، وتطورت إلى صراعات من أجل تغيير الحكومة ورئيسها والمدير العام للأمن الوطني عبد الرحمان الحاج علي، وصولا إلى ما عرف بمبادرة قائد السبسي في حزيران (يونيو) 2016 التي أسفرت عن توقيع "وثيقة قرطاج 1" في قصر الرئاسة بحضور الأحزاب والنقابات مع تغييب الحبيب الصيد رئاسة الحكومة .

وكانت الحصيلة التعديل الذي أزاحه وأوصل يوسف الشاهد إلى الحكم بضغط من جناح في قصر قرطاج وبعض "مستشاري الرئيس".

وكشف الكتاب كيف تعرضت حكومة الشاهد بدوها لضغوطات عائلة قائد السبسي وجناح من الحزب الحاكم بزعامة مديره التنفيذي حافظ قائد السبسي، مما تسبب في انشقاقات داخله ثم في وتأسيس حزب "تحيا تونس" برئاسة الشاهد.
  
نقد للإسلاميين ولقائد السبسي والشاهد

ولعل إحدى إضافات كتاب الحبيب الصيد أنه قدم شهادات عن "النجاحات" التي قدمتها حكومات ما بعد ثورة 2011، وخاصة حكومته، فيما يتعلق بتطوير علاقات تونس الخارجية وعقد مشاورات مع كبار صناع القرار في العالم بمن فيهم الرئيس الامريكي باراك أوباما والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل وقيادات مالية أوروبية ودولية ..

لكنه سجل أن الصراعات على المواقع والكراسي منذ 2011 ثم "الصراعات لخلافة قائد السبسي" أربكت المشهد السياسي وسير مؤسسات الدولة ..

 



في هذا السياق كشف الصيد في كتابه أن استقلاليته عن كل الأحزاب دفعت أنصاره وخصومه إلى التعاون معه وعرض مسؤوليات عليا عليه، منذ محمد الغنوشي والباجي قائد السبسي في 2011 وحمادي الجبالي ما بين موفى 2011 وربيع 2013 ثم عند تشكيل حكومة 2015 .

لكن الكتاب كشف في نفس الوقت أن الاستقلالية كانت نقطة ضعفه. وذكر بكون بعض "الثورجيين" و"اليساريين" والنقابيين والمقربين من الرئيسين المنصف المرزوقي والباجي قائد السبسي حاربوه وسعوا لمنع تعيينه منذ مطلع 2011 بحجة أنه تولى خطة كاتب دولة للفلاحة والبيئة ما بين 2001 و2003 ورئيس ديوان لوزير الداخلية ما بين 1997 و2001.

وقدم كتاب الصيد في هذا السياق انتقادات لغلطات شركائه وحلفائه في الحكم من بين قيادات "الترويكا"، وخاصة لبعض مستشاري رئيس حزب "النهضة" راشد الغنوشي الذي أورد أنه تقابل معه مرارا في بيته منذ 2011 ثم في 2018. كما انتقد بإاطناب غلطات بعض أحزاب نداء تونس وتحيا تونس والجبهة الشعبية و"آفاق"، بزعامة ياسين إبراهيم، و"الوطني الحر"، بزعامة سليم الرياحي، واتهم بعضهم بالتجني عليه والإساءة للبلاد.

واعترف في هذا السياق أنه قبل عرضا من الباجي قائد السبسي في نيسان (أبريل) 2018 بتولي خطة مستشار سياسي له في قصر قرطاج، لأنه كان يطمح لأن يقنعه بإبعاد نجله حافظ عن قيادة حزب النداء وبتشكيل حكومة "وحدة وطنية توافقية" جديدة لا يرأسها يوسف الشاهد .
 
لكنه فشل في إنجاز المهمتين بسبب تصدع التوافق بين قيادات "النهضة" و"النداء" من جهة وبين رئيس الجمهورية الباجي قائد السبسي وراشد الغنوشي من جهة ثانية، منذ أعلن الغنوشي رفض حزبه إسقاط حكومة يوسف الشاهد .
 
ولعل من بين أخطر المعلومات التي كشفها الكتاب أن الرئيس قائد السبسي أعلمه قبل أسابيع من وفاته أنه لن يوقع على تعديل القانون الانتخابي الذي صادق عليه البرلمان، بحجة أنه كان سوف "يقصي" حزبي عبير موسي ونبيل القروي من المشاركة في الانتخابات .

وكان ذلك الموقف مؤشرا آخر عن "موت التوافق بين الشيخين" المبرم في باريس في صائفة 2013.. ومهد "لانقلاب سياسي" شامل بعد انتخابات أيلول (سبتمبر) 2019، من بين ملامحه انهيار قائمات أحزاب "النداء" و"تحيا تونس" و"الجبهة الشعبية"، مقابل فوز معارضين لـ "منظومة ما بعد ثورة 2011 في الانتخابات البرلمانية والرئاسية.. ففشلت مؤسسات الدولة والبلاد في تحقيق شرط "الاستمرارية".. حتى جاء "منعرج 25 تموز (يوليو) 2021" وما عقبه من قرارات وصفتها المعارضة والنقابات والأوساط الحقوقية بـ "الانقلاب على الدستور والمؤسسات المنتخبة" ووصفها الموافقون عليها بـ "حركة تصحيح المسار".