كتاب عربي 21

جمال بدوي.. وحكايات من زمن فات!

1300x600
لماذا لا أكتب عن "جمال بدوي"، الكاتب والمؤرخ؟

السؤال الأهم؛ هو لماذا لم أكتب عنه، ولم أفكر في الكتابة من قبل، رغم مرور هذه السنوات على رحيله، وفي الجعبة ما يستحق أن يُروى؟!

لقد طرحت هذه الأسئلة نفسها علي عندما قرأت بعض المنشورات التي تذكر بمناسبة ذكرى وفاته (31 كانون الأول/ ديسمبر 2007)، ولعل الإجابة تكمن في: هل القراء الآن لديهم نفس شغفنا بقراءة تاريخ الصحافة المصرية وحكاياتها؟ هذا الشغف الذي كان دافعنا في السابق لقراءة ما كتبه كبار الصحفيين عن تجاربهم في المهنة، ومن أول "بين الصحافة والسياسة" لمحمد حسنين هيكل، إلى "فلاح في بلاط صاحبة الجلالة" لإبراهيم الورداني، هذه الكتب التي جعلتنا لا نشعر بالغربة ونحن نخطو خطواتنا الأولى في شارع الصحافة؟!

إن الحديث هنا لا يقتصر على الصحافة، وإنما سيمتد إلى السياسة، وإلى جانب من مرحلة حكم مبارك، الذي ثارت عليه أجيال ربما لم تطالع هذا التاريخ، وكان دافعها للثورة مجرد عناوين عن الفساد، والتمديد، والتوريث، ولم تجد نفسها مطالبة بالإحاطة بثلاثين سنة من الحكم العضوض، ليقودنا لسؤال آخر وهو: وهل معرفة التاريخ مما يشغل الناس وهم يواجهون تحديات يومية تثقل كاهلهم؟!

إن من أسباب هزيمة ثورة يناير، هو عدم الاهتمام بالتاريخ، هذا الاهتمام الذي كان يمكن أن يجبر الحركات التي كانت فاعلة فيه للقيام بالمراجعات اللازمة، وكانت النتيجة تكرار ما جرى حرفياً، ولا أعني هنا حركة الإخوان المسلمين وحدها، بل أعني – معها – اليسار المصري، الذي تعرض لنفس المحنة تقريباً، وعدم الاهتمام كان سببا في أن يسدل الستار على أحداث جرت، لوفاة شهودها، وقد كتب عليهم الصمت عندما كانوا على قيد الحياة!

عندما أجلس مع زملائي من نفس الجيل، ونتحدث عن حقبة عاصرناها، يطلبون مني تدوينها بالكتابة، لأنهم يروا أن لدي تفاصيل ربما ليست عندهم، وتجهلها الأجيال الجديدة، وقد كتبت وتراجعت عن النشر للشعور بعدم الأهمية. وعندما مات مكرم محمد أحمد كتبت مقالاً عنه من النوع طويل التيلة، وكذلك فعلت عقب وفاة عمرو عبد السميع، عزائي أنه عندما تكتمل الحكاية يمكن أن أنشرها في كتاب!

البحث عن قدوة:

دافع آخر ربما كان سبباً في عدم إقبالي على الكتابة عن الراحل جمال عبد البدوي، وهو أنني لم أشأ أن أقلب المواجع، وقد لاحظت أن هناك من يهتمون بما كتب وربما انصب اهتمامهم عليه كمؤرخ، وليس كصحفي أو صاحب موقف سياسي. والناس في هذا الظرف السياسي الخانق، وتساقط من كانوا يعتقدون أنهم رموز، لجأوا إلى القبور ينبشونها بحثاً عن قدوة، حتى قرأت منشورات متكررا عن شجاعة الشيخ عطية صقر، رحمه الله، لإصداره فتوى معينة ضد رغبات السلطة بحسب رأيهم، بصفته رئيس لجنة الفتوى بالأزهر، وكأنهم يتحدثون عن الشيخ عبد الحميد كشك مثلاً، لأن هذه الفتاوى لم تكن في سياقها التاريخي تحتاج إلى شجاع، ولأن الرجل، وهو الفقيه الجاد، كان جزءاً من حسابات السلطة، ونائباً عن حزبها الحاكم، وكان من أدواتها في الموقف المعادي لتيار الإسلام السياسي، وأحد نجوم البرنامج التلفزيوني "ندوة للرأي" الذي تخصص في مناقشة المعتقلين في هذه الفترة من هذا التيار، وبعض العلماء رفضوا أن يحاوروا أسرى غير أحرار (الشيخ صلاح أبو إسماعيل نموذجاً)، ومنهم من قاطع البرنامج بعد أن وجد نفسه يستخدم في تشويه معتقلين مثل الدكتور عبد الغفار عزيز، بعد حلقة الشيخ عبد الله السماوي.

بيد أن الغريق يتعلق بقشة، والذين عاصروا تساقط النجوم في زمن الفتنة، لم يجدوا غضاضة في الاعتصام بشخصيات تاريخية، حتى وإن كانت تتهم من قبل السابقين بأنهم من شيوخ السلاطين، لأنه جيل العناوين لا المتون، ولا يمكن من خلال العنوان اصدار الحكم الصحيح على الوقائع والأشخاص!

وإذا كنت أعرف الإجابة عن سؤال لماذا لم أكتب عن جمال بدوي في أي ذكرى سنوية سابقة؟ فلم أعرف سبباً لهذا الإقدام الآن، بل وهذه الرغبة في النشر السريع دون الانتظار حتى نشر هذه "الحكايات" في كتاب، استجابة لنصيحة الزملاء!

موعد مع الوفد:

عندما صدرت جريدة "الوفد" في عام 1984، برئاسة تحرير مصطفى شردي، كانت طلقة في صدر نظام مبارك، فالصحيفة كان توزيعها أسبوعياً يقترب من المليون نسخة، وكان مجرد نشر رئيس التحرير مقاله في صدر الصحفة الأولى، سبباً في ارتفاع هذا التوزيع المعتاد إلى 250 ألف نسخة إضافية، ومنها تعرف الناس على "شردي"، الذي عاد لعمله في مؤسسة "أخبار اليوم" سنة 1981 يكتب زاوية رياضية بإحدى إصدارات المؤسسة (مجلة آخر ساعة)، بعد تجربة تأسيسه لجريدة "الاتحاد" في أبو ظبي. والرجل صاحب تاريخ مهني معتبر، ويكفي أنه بدأ العمل الصحفي تلميذاً في مدرسة الأخوين "مصطفى وعلي أمين"، لكن نجوميته لم تصل للشارع إلا مع رئاسته للوفد، التي كانت تعبر عن هذا الحزب العريق، الذي انتظره المصريون على شوق، ولم تفلح كل محاولات ثوار يوليو في التشهير به والقضاء عليه!

لقد ظهر "شردي" كمدفعية ثقيلة، تليق بهذا الحزب الكبير، وكان رئيس التحرير من الشخصيات شديدة الطغيان المهني، عندما يكون الفرد كتيبة، ويكون الشخص أمة، وهذا الطغيان يعطي صورة لمن في الخارج أن من يقودون الوفد هم كمصطفى شردي!

ويأسف المرء عندما يجد نفسه مضطراً للتعريف بأن مصطفى شردي هو والد الإعلامي المعروف محمد مصطفى شردي، وللتعريف بالشيخ صلاح أبو إسماعيل بأنه والد حازم، وقد كانا (مصطفى شردي وصلاح أبو اسماعيل) في زمانهما ملء السمع والبصر، كل في مجاله، وإن تزاملا في برلماني 1984 و1987، لكنهما لم يجدا من يدون مسيرتهما، وورق الصحف بطبيعته لا يحفظ تاريخاً ولا يحنط موقفاً، لأنه ينتهي بانتهاء قرائه على أكثر تقدير!

وإذ اصطحب شردي معه في تأسيس "الاتحاد" صديقيه جمال بدوي وعباس الطرابيلي، فقد اصطحتبهما قيادات لجريدة الوفد، وقد توليا منصب رئيس تحرير "الوفد" من بعده تباعاً. والقيادة الناجحة تعرف كيف تستفيد من إمكانيات مساعديها، وكذلك فعل مصطفى شردي، فكان ما ميز مدير تحريره "جمال بدوي" هو دأبه كمؤرخ، أما مساعده "عباس" فقد كان مهماً في الجوانب المالية، لأنه يحسبها بالسحتوت، ويحفظ أسعار السلع وما طرأ عليها في كل يوم، وإذا وافق على بدل انتقال لمحرر فإنه يكون بالكاد، فالرجل دمياطي بما عرف من أهل دمياط دقة الحساب!

وفاة شردي وتصدر بدوي:

وفي سنة 1989، مات مصطفى شردي بعد أن أرهقت المعارك التي خاضها قلبه العليل، وتردد أن اختيار رئيس تحرير جديد سيكون بعد ذكرى الأربعين على وفاة فارس الوفد، الذي انتقل بالجريدة التي ولدت عملاقة من أسبوعية إلى يومية في سنة 1987، الأمر الذي أكد أن الخلافة ليست محسومة، وترددت أسماء لخلافته، مثل وجيه أبو ذكرى، وصلاح قبضايا، رئيس التحرير المؤسس لجريدة الأحرار، وكان صديقاً لشردي وبلدياته، فكلاهما من بورسعيد، ومن جيل واحد، وبدآ العمل الصحفي في أخبار اليوم في نفس الوقت، بعد أن عملا مراسلين من بورسعيد أيام العدوان الثلاثي، وكان ثالثهما إبراهيم سعده، رئيس تحرير أخبار اليوم بعد ذلك!

وكان قبضايا يعمل في هذه الفترة في صحف الشركة السعودية للأبحاث من الرياض، وفي زيارة لمصر، ولعله من سرب لإحدى الصحف أن رئاسة التحرير عرضت عليه وأنه طلب وقتاً للتفكير، الأمر الذي اعتبره رئيس حزب الوفد "فؤاد باشا سراج الدين" إهانة، وأن "الوفد" أكبر من أن يعرض على أحد موقعاً، فيفكر أو يساوم، ونشر نفيه للعرض، وهذا ما عجل من عملية الاختيار، فلم يجد "الباشا" أمامه سوى مدير التحرير جمال بدوي، فتم اختياره!

وعلى مدى السنوات الماضية، لم يكن بدوي طرفاً في المعارك السياسية الصاخبة، فقد اعتصم بالتاريخ، وكان يحرر زاوية عن الدولة الفاطمية وغيرها، وإن مارس عمله مديراً للتحرير، وقد كان شردي مشغولاً بعض الوقت بعضويته في البرلمان، ومطالب أبناء دائرته. ولعل الدور السياسي الوحيد الذي قام به بدوي في المرحلة السابقة هو الذهاب إلى قسم شرطة الزيتون، عندما تعرض "أيمن نور"، الصحفي بالوفد، لاعتداء على أيدي مجهولين، وهو في طريقه لمكتب مختار نوح المحامي، وأصر على أن يحرر بلاغاً ضد وزير الداخلية زكي بدر بأنه وراء عملية الاعتداء!

كانت الواقعة ليلاً، وكتب جمال بدوي عنها من أول وصوله إلى انصرافه، ولا بأس فكل إنسان ميسر لما خلق له!

وشعر القارئ أن جمال بدوي ليس هو مصطفى شردي، وأن الزعامة الصحفية لا تتوفر فيه، ولم يكن حريصاً عليها، لقد حاول أن يكون ولم يوفق، فمكلف الأشياء ضد طباعها، متطلب في الماء جذوة نار!

كان محظوظا، لأن عقد الوفد كان قد بدأ في الانفراط، وكان القرار الأخطر هو مقاطعة الانتخابات البرلمانية في سنة 1990، بناء على اقتراح من القيادي بالوفد الدكتور وحيد رأفت، وقاطعت الأحزاب الرئيسية ولم يكن رئيس الأحرار مصطفى مراد مقتنعا بالمقاطعة، وكان غاضباً بعد خروجه من اجتماع عقد بحزب الوفد، وهو يقول إن المقاطعة ليست عملاً سياسياً، وأن وحيد رأفت أستاذ في القانون على العين والرأس لكنه لا يفهم في السياسة، غير أنه اضطر في آخر المطاف أن يقبل بقرار المعارضة، وكان شرطهم هو ضمانات بنزاهة الانتخابات. وحاول مبارك إثناءهم عن هذا القرار دون ضمانات منه لكنه فشل، ولم يدرك أنه لو اطلع على الغيب لاختار الواقع!

فقد تخلص من صداع المعارضة في البرلمان، وقد رفض الوفد التجديد له لولاية ثانية، وقاد نواب الوفد المعارضة ضده، لكي يضطر الحزب الحاكم لاستقطاب أحد نواب الوفد وهو المستشار أحمد حمادي، وتعيينه وكيلاً للبرلمان، لا سيما وأن النظام كان قد فقد رئيس المجلس الدكتور رفعت المحجوب باغتياله، وكان يملك مهارات خاصة للصد والرد والتعامل مع المعارضين، وجاء من بعده فتحي سرور، وزير التعليم، ولم يكن يملك مهاراته أو في كفاءته!

ترهل الحياة السياسية:

وحدث ترهل في الحياة السياسية، وكبر فؤاد سراج الدين، وترك كبره مساحة لشقيقه ياسين سراج الدين ليعقد صفقات مع السلطة مقابل فتات، لا يمكن أن يقبله الوفد في لياقته، حتى أطلقت على نوابه في برلمان 1995 "حزب كمال الشاذلي"، في مواجهة من كان يمثل الصقور حينذاك وهو الدكتور نعمان جمعة (رئيس حزب الوفد بعد ذلك)!

وبدت الحالة السياسية في الوفد وفي خارجه تتسق في ترهلها مع شخصية جمال بدوي المهادنة، وكان النظام حريصاً على احتواء الوفد، أكبر أحزاب المعارضة، وإذ فشل "الوسيط" الذي كلفه مبارك بإقناع "الباشا" بفض التحالف مع الإخوان في سنة 1984، فان طريق الاستمالة بدا هو الأفضل مع غياب مصطفى شردي وشيخوخة الباشا!

ولم يحدث أن ظهر شردي في تلفزيون الدولة، لكن القوم خصصوا لجمال بدوي فقرة أسبوعية يتحدث فيها عن تاريخ الدولة الفاطمية، وكان عرضاً منهم وقبولاً منه لا تخطئ العين دلالته، فقد كان يريد عرضاً قريباً وسفراً قاصداً.

وفي مرحلة لاحقة أثبت أهل الحكم أن البرنامج منحة وليس "حق"، فألغوه بسبب موقف جمال بدوي من قانون الصحافة 93 لسنة 1995، وهو قانون واجهته الجماعة الصحفية بكل أطيافها، حتى أجبرت مبارك على إلغائه، وقال صفوت الشريف وزير الإعلام إن البرنامج فشل في جذب المشاهدين، وهذا سبب إلغائه!

أصابت امرأة وأخطأ مبارك:

وقد وقعت في هذه الفترة أزمة الوفد النسائي الكويتي، الذي زار القاهرة والتقى بالرئيس مبارك لتقديم الشكر له على دوره المنحاز للكويت عقب الاحتلال العراقي له، وخرجت الصحفية والنائبة وعضو الوفد ليلي أحمد لتنشر ما دار في اللقاء، لا سيما إثارة مبارك الاتهامات لـ"الأحرار" ورئيس تحريرها مصطفى بكري بقبول تمويل أو شيء من هذا القبيل!

وعقب النشر قامت الدنيا ولم تقعد، مع تهديد الأحرار باللجوء للقضاء لمقاضاة الصحفية الكويتية، ونفت مصادر بالرئاسة أن يكون الرئيس قال هذا، لكن الكاتبة أكدت أنها تملك الدليل، ومعنى هذا أنها قد تقدمه للمحكمة لو تم اللجوء للقضاء!

وتراجعت الرئاسة، فلم تنف المنسوب لمبارك، وإن تحدثت عن قيم المهنة، فالرئيس لم يلتق بصحفيين وإنما بنواب، وما كان للنائبة الكويتية أن تمارس مهنتها بالنشر في لقاء ودي مع نائبات من دولة شقيقة!

وكتب جمال بدوي مقالاً حمل عنوان "أصابت امرأة وأخطأ الرئيس"، قال فيه إن النائبة لم تخطئ بالنشر، ولم تخرج على تقاليد المهنة لأنها لم تنس أنها صحفية في لقاء مع وفد برلماني، وأن الرئيس أخطأ لأنه قال كلاماً وراء الحجرات لا يصلح للنشر!

وليس في ما كتبه بدوي جريمة، فقد ارتفع بالرئيس لمقام أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، الذي قال "أصابت امرأة وأخطأ عمر"، لكن من أين لمبارك وما عرف عنه من جهل مبين دراية بعمر وما قاله وما قيل له؟!

كان مبارك قد اعتمد تقليد اصطحاب رؤساء التحرير في طائرته الخاصة في سفره للخارج، وما أن رأى جمال بدوي بعد هذا المقال حتى تعامل معه بخشونة لفظية، وهو يهتف: أنا أُخطئ؟! فقد كان الرئيس جاهلاً ولا يدري أنه جاهل!

وفي تقديري أن مبارك اكتفى بما قال، ولم يكن يريد ما حدث بعد ذلك، فمن الواضح أن جهة أمنية، قيل يومئذ إنها "المخابرات الحربية"، وليس لدينا دليل على ذلك، رأت في هذه الحدة توجيهاً رئاسياً، فتصرفت!

بعد عودته من السفر، وذات نهار، والشمس ساطعة، وبينما غادر جمال بدوي الوفد إلى منزله، اعترضت سيارته قوة أمنية بملابس مدنية في طريق صلاح سالم، وقد أنزلوه من السيارة وأوسعوه ضرباً، ونقل إلى احدى المستشفيات، وهناك اتصل به مبارك هاتفياً للاطمئنان عليه!

بيد أنه ترك إشارات توضح أن الجناة يخصوه، واستخدم عبارة بذيئة أغراه بها أن المعتدين كانوا عشرة أشخاص كما دون في المحاضر الرسمية، كان يقول هذا وهو يضحك، ولا يبدو لي أنها شماتة بقدر ما هي بلادة الشخصية التي كانت تتجلى عندما يستخف دمه ويرى أنه مؤهل للارتجال كما السادات أو أن يتكلم كما أولاد البلد!

ولم يكن الأمر يستحق رد الفعل هذا، لكنه سوء التقدير من رئيس غبي، شُبه بعمر بن الخطاب فلم يفهم، ولعله فهم بعد ذلك، ولأنه لم يكن يريد قطع العلاقة مع الوفد، فبدا كما لو كان تكريم جمال بدوي بمنحه وسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى، رداً لاعتباره!

أزمة الدستور:

ولم تكن طبيعة الرجل تسمح له بالذهاب بعيداً، فاستمر في القرب من السلطة، وفي الوقت الذي أغلقت فيه جريدة "الدستور" برئاسة تحرير إبراهيم عيسى، أطلق هو والوفد قنابل الغاز لتستر قرار النظام!

كانت "الدستور" قد أخطأت بنشر خبر غير صحيح، فكان قرار مبارك بإغلاقها، ساعد على ذلك أنها تصدر بترخيص من الخارج، وقد بدأت حملة على الصحافة الصفراء في صحف الحكومة التقطها جمال بدوي وشارك فيها بكل قوة!

وكان واضحاً إن حملته راقت لمبارك، وفي أول لقاء له مع رؤساء التحرير، شكره وشكر الوفد، وسأل عن مدير التحرير سعيد عبد الخالق الذي دخل المعركة أيضاً، ليكون أحد المدعوين في سفره الذي يقتصر على رؤساء التحرير.

وكنت أنا في الاتجاه المعاكس، فالخطأ يصحح، ومن أخطأ يحاسب قانوناً ولا يتم إطلاق الرصاص عليه، وكان رأيي أن الحملة على الصحافة الصفراء دون تسميتها، وهي التي تصدر في كنف السلطة وحمايتها، تستخدم ضد الصحافة غير الصفراء وتستهدف التغطية على استبداد الحكم ضد حرية الصحافة!

وكتبت مقالاً تمدد على نصف صفحة في "الأحرار" عنوانه: "اللهم قني شر جمال بدوي.. أما أعدائي فأنا كفيل بهم"، وكنت أقصد بطبيعة الحال أعداء الصحافة!

وبدأت المقال بأن جمال بدوي سيتقاضى أجر ما فعل بتعيينه في مجلس الشورى ضمن الثلث الذي يعينه رئيس الجمهورية، وغضب لذلك!

لقد بدا صاحبنا وكأنه غير مدرك لطبيعة فؤاد باشا سراج الدين، واعتقد أنه لم يتحصل على مغانم للوفد نتيجة أنه لا يلتقي الرئيس، ألا وأنه يلتقيه فلماذا لا يقدم لرئيس الوفد "عربون محبة"؟

طلب من مبارك أن يشمل التعيين عدداً من حزب الوفد، لا سيما وأن التعيين في كل مرة يشمل رؤساء أحزاب صغيره ونوابهم، وقال له مبارك إن حصل على موافقة الباشا على التعيين فسوف يعينه هو أيضاً.

وحمل العرض مسرعاً لـ"الباشا" وسعيداً به وكأنه حقق إنجازاً كان الوفد يتوحم عليه، لكنه تعرض لتقريع شديد منه: من قال لك تتكلم باسم حزب الوفد؟

إن الوفد كان يرفض التعيين بقرار من مبارك في البرلمان بغرفتيه، فضلاً عن أنه كان يرفض أيضاً فكرة مجلس الشورى من الأساس!

ولما عاد بدوي للرئاسة مكسور الخاطر، استمر العرض قائماً بالنسبة له، لكن التعيين كان معناه أن يتعرض للفصل من الوفد، وعمل مبارك حساب ذلك!

في يوم صدور قرار التعيين، يعين جمال بدوي في الوقت ذاته في موقع بمؤسسة أخبار اليوم، وتم اقتراح أن يكون مستشاراً.

وكنت أعلم بكل هذا، فبدأت المقال بهذه الفقرة، وأنا أدرك أن مبارك يحب دائماً أن يخالف الصحافة، فاذا كتب أحد عن تشكيل وزاري تراجع عنه، وإذا نشرت صحيفة عن تعيين وزير لا يختاره، وربما كانت مشكلة الدكتور أحمد عمر هاشم أنه مع كل تشكيل وزاري تنشر الصحف أنه مرشح لمنصب وزير الأوقاف، فكان ينتظر ولا يتصل به أحد. وما أريد أن أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء!

اتصل جمال بدوي برئيس تحرير الأحرار شاكياً مني، لكن الرجل الذي تربى على أن الصحفي خبر، أراد أن يستغل الفرصة ليعرف مدى صحة ما كتبت من أنه سيشمله القرار الرئاسي بالتعيين في مجلس الشورى، فقد قال له إنه لا يستطيع أن يحاسبني على مقال رأي، ولكن الحساب يمكن أن ينصب على "سليم عزوز الصحفي" إن هو نشر خبراً كاذباً. واعترف بدوي له بأن الخبر ليس كاذباً، وأنه سيتقدم بالاستقالة من رئاسة تحرير الوفد مقابل هذا العرض!

وفي الليلة السابقة ليوم صدور قرارات التعيين، كان الحفل السنوي لجريدة "الأسبوع" بمناسبة تأسيسها، وانفض السامر، وبقي أسامة الباز مستشار مبارك للمعلومات، وزكريا عزمي مدير ديوان الرئاسة، ومعهم جمال بدوي وآخرين، يؤكدان أن وجوده في القائمة أمر مفروغ منه، ورسما معه خطة الغد!

في الصباح الباكر، كان جمال بدوي في مقر جريدة "الوفد" يعلن تقديم استقالته من رئاسة التحرير، وعندما سئل عن سبب ذلك.. لم يزد عن قوله: "أحل الله الطلاق وحرم الزنا"، ثم غادر إلى مؤسسة أخبار اليوم لتوقيع عقد عمله الجديد! وكانت المفاجأة أن قائمة المعينين بمجلس الشورى التي صدرت بعد ساعات لم تشمله!

وكان من أكثر المتأثرين بحاله هو الدكتور عبد العظيم رمضان، المؤرخ المعروف، والذي اتصل بي يسألني عن أسباب استقالته، وقال إنه في حرج من أن يسأله لأنه ليس معه في هذه الخطوة! فلما أخبرته أنه كان موعوداً بالتعيين في الشورى، وأن "الباشا" لن يوافق، فكان قراره بالاستقالة بيدي لا بيد عمرو! قال عبد رمضان: وماذا في مجلس الشورى يجعله يضحي بمنصب عظيم كرئيس تحرير الوفد؟ ولم أجد ما أقوله إلا أن ذلك قد يكون بسبب غواية الحصانة البرلمانية! ليعلق في أسى وغضب: وهل نحن تجار مخدرات لنبحث عن الحصانة؟!

كان عبد العظيم رمضان عضواً معيناً في الشورى لعدة دورات، وسمعت من وزير الأوقاف السابق محمد علي محجوب أنه مستشار للرئيس، لكن هذا المنصب الرئاسي لم أسأله عنه، مع ما كان بيننا من ود متبادل!

النهاية:

لقد انتهى جمال بدوي بقبوله الدنية، وكان المفاجأة أنه بعد بضعة شهور صدر قرار بإخلاء مكتبه في أخبار اليوم، وانتظره أحد الصحفيين المقربين من رئيس مجلس الإدارة إبراهيم سعده، على باب المؤسسة لتسليمه متعلقاته!

وظني أن الأمر لا علاقة لنا هنا بقرار رئاسي، فهو تصرف رئيس المؤسسة، وكان الجيل القديم من رؤساء المؤسسات الصحفية يعلمون أن مبارك لا يتابع، فيسايرون قراراته ثم يخالفونها لو أرادوا. وعندما أمر ببرنامج للدكتور محمد إسماعيل علي في التلفزيون، ومقال أسبوعي في الأهرام، صار المقال مرة كل أسبوعين ولم يخصص له مكتب في الأهرام كما طلب الرئيس، وأوقف صفوت الشريف البرنامج، وقال لي هو: وكيف سألتقي مبارك لكي أخبره بذلك؟.. ونفس الأمر يسري على جمال بدوي الذي فقد منصب رئيس التحرير الذي كان يمكنه من مقابلة الرئيس في رحلاته الخارجية!

وعندما قررت مشيخة الأزهر إصدار صحيفة أسبوعية باسم "الأزهر" في سنة 1999، كان جمال بدوي هو رئيس تحريرها، وزاره رئيس تحرير الأحرار ليهنئه، وهناك أبدى دهشة لأنه رفع ضدي قضية بعد مقالي سالف الذكر، لكنها اختفت تماماً، ولم أكن قد سمعت بها!

فما عرفته، أنه كتب مقالاً ضدي رداً على مقالي، قلما طالعه محمد شردي قبل الطباعة اعترض على أن يهاجم صديقه في جريدة يعمل هو بها، وكان الرد الطبيعي: ولماذا لا تغضب لأنه هاجمني؟ وفي النهاية اتصل شردي الابن بالباشا ليبلغه بفحوى المقال، والذي جاء رده: "الوفد" لا يهاجم صحفيين على صفحاته، ورُفع المقال!

وربما وجد جمال بدوي - رحمه الله - السلوى في رفع قضية ضدي، لكن القضية اختفت من المحكمة فلم يعثر لها على جرة، وقال له صلاح قبضايا: إن سليم عزوز صاحب كرامات!

ولا علاقة للأمر بالكرامات، أو الفتوحات، فربما سايره المحامي في رفع القضية، لكنه لم يفعل حتى لا يكون رئيس تحرير الوفد في خصومة مع صحفي ويطلب حبسه أو شيئا من هذا القبيل على مقال رأي، وربما كانت هذه نصيحة الحزب، فأخبره برفع الدعوى، ثم أخبره باختفائها، ليندهش بدوي وهو يسمع عن كرامات العبد الصالح!

رحم الله جمال بدوي، الذي كان مع كل هذا من بقايا جيل الكبار، فلن يعرف قيمته إلا من ابتلي بما تنبت الأرض الآن من طحالب! فقط، لم يسمع نصيحة المتصوفة ومفادها: "إن من الذنوب أن يحمل المرء نفسه من البلاء ما لا يطيق".

فكل ميسر لما خلق له!

twitter.com/selimazouz1