أفكَار

عن السينما والغزو الفكري للعقل العربي.. تونس نموذجا

كيف يمكن للسينما أن تواجه الغزو الفكري الغربي لعالمنا العربي؟ (فيسبوك)
1 ـ سينما تداوي متفرّجيها بالتي كانت هي الدّاء

تبقى السينما مجالا للتجاذب بين التصورات المختلفة. فعند المثقف هي خطاب جمالي يخوّل للفنان التعبير عن آرائه. وعند الدول المتقدمة هي أداة لفرض هيمنتها الثقافية على الآخر وبسط سيطرتها وفرض تصوراتها. وعند المستثمر هي فرصة للاستثمار في مجال التسلية تحقيقا للربح الوفير. أما في الدّول النامية فهي معادلة عصيّة و"وجع في الرأس". ففي الآن نفسه هي جدار صدّ يقاوم الغزو الثقافي ويسهم في تأسيس ثقافة وطنية وتجذّر هوية المواطن وتدعم اعتزازه بانتمائه وفنٌّ مكلف لكثرة المتدخلين فيه واستثمار "خاسر" من منطق البحث عن المردودية المباشرة. أو هي باختصار "شرّ" لا بد منه.

وإلى زمن قريب كانت السينما التونسية طلائعيّة سباقة إلى طرح الأسئلة المحرجة أو المصيريّة، ساعية على القطع مع النزعة الاستهلاكيّة عاملة على الارتقاء بالوعي الجماعي. فقد نجحت في أن تدير إليها الرقاب رغم كل هذه التناقضات وأن تحوز احترام النقاد والمتفرّجين على حد سواء. ولكنها ما فتئت تتقهقر على أيامنا حتى غدت تعيش أزمة متعدّدة. فهي تواجه صعوبات جمة في فرض أسلوب مميّز على مستوى بناء السيناريو والمعالجة الدرامية المؤثرة وعلى مستوى خلق القصص المبتكرة الأصيلة. 

وتتعثر في تحدّي ضيق السوق المحلية بفرض نفسها في الأسواق الخارجية. لذا ظلت مستطيعة بغيرها، بالدّعم الداخلي الذي تتولاه وزارة الثقافة أو التمويل الخارجي تتولاّه هيئات وصناديق أوروبية بالأساس. وهنا مربط الفرس فكيف يكون العلاج بالتي كانت هي الداء وكيف سينوب الآخر المهيمن والغازي ثقافيا عنّا في بناء جدار الصدّ الذي سيقاوم الغزو الثقافي ويسهم في تأسيس ثقافة وطنية؟ 

2 ـ أثر التمويل الأجنبي على هوية الفيلم

يبلغ معدل تكلفة الفيلم التونسي الواحد اليوم نحو 500 ألف دولار، وفي إطار التشجيع على الإنتاج السينمائي تسهم الدولة التونسية، عند حصول السيناريو على إجازة لجان الدّعم بما لا يفوق 180 ألف دولار ولا يتجاوز نسبة 35% من كامل الميزانية بالنسبة إلى الأفلام الطويلة. ويبقى على المنتج أن يوفر المبلغ المتبقي. وكثيرا ما يجد هذا المنتج ضالته في الدّعم الغربي عامة والفرنسي أساسا ويكون ذلك تحت عناوين جذّابة نحو "تنمية سينما الجنوب وشدّ أزرها" أو "دعم نضالات المرأة" أو "مناصرة الأفكار الحرّة حتى تصل إلى الشاشات". 

ويتجسّد هذا في الدّعم في دفع المموّل الخارجي أجور التقنيين المختصين الذين تضعهم تحت تصرّف المخرج أو في تحمل قسط من تكلفة الإنتاج الذي ينفّذ على أرضها. فلا يكون في شكل سيولة تقدّم إلى المنتج ليتصرّف فيها بحرية وإنما في شكل وصولات تنزّل ضمن دعمها لصناعتها السينمائية المحلية وتوفيرها لفرص عمل لمهنييها.
 
ومن تبعات هذا الدّعم الفيلم يفقد هويته التونسية على مستوى الملكية الفكرية حين يتجاوز مقداره نسبة الخمسين بالمائة. فتدعم الدولة أفلاما لا تقرّر هي مصيرها ولا تعرضها إلا بعد شراء حقوقها ولا تشارك في التظاهرات العالمية باسمها. ورائعة "صمت القصور" على سبيل المثال لا تنسب إلى السينما التونسية إلا تجوّزا. أما على المستوى القانوني فهو إنتاج فرنسي، والحال أن فاعلية المساهمة الأجنبية تظل أدنى بكثير من فاعلية التمويل المحلّي بالنظر إلى التباين الكبير بين مستوى التأجير وتكلفة الخدمات هنا أو هناك.

3 ـ التمويل الخارجي وتحريف أفق التقبل

لا ننكر أنّ هذا الدّعم أسهم إلى حدّ ما في دفع الإنتاج السينمائي وتنميته إلى وقت قريب. وتظل أفلام كـ "طوق الحمامة المفقود" للناصر خمير و"صفائح من ذهب" للنوري بوزيد و"يا سلطان المدينة" لمنصف ذويب شواهد على الجدوى من هذا الدّعم. ونسجّل تأكيد المخرجين هنا أنّ الجهات المانحة لا تفرض على المبدع رأيا معيّنا ولا تعتدي على حرية التعبير. وهو كلام حق في ظاهره باطل في باطنه. فقد بيّنت التجربة أنّ هذا الدعم يخلق مشاكل جديدة تؤثر عميقا في محتوى هذه الأفلام وفي اختياراتها الجمالية وأنّ كل تلك القيم الجميلة شأن احترام حرية التعبير وشدّ أزر السينماءات الناشئة تبقى عناوين براقة خادعة.

فمن الطبيعي أن ألا تدعم هذه الدول الأفلام إلا بعد قراءة سيناريوهاتها وألا تختار منها إلاّ ما تتماشى مع سياساتها ويتوافق مع تصورها النمطي للمجتمعات العربية وبلدان جنوب الصحراء. والعودة إلى الأفلام المدعومة أوروبيا تكشف بجلاء هذا "التناغم" بين أطروحات المبدعين وآفاق انتظار الجهات الدّاعمة. فهي تقدّم التونسي ضحية لـ"ثقافته المتخلفة" و"القائمة على العنف والقهر"، وتجعله فاقدا لتوازنه النفسي والاجتماعي. 

فالأطفال مشردون ضحايا للعنف والمرأة محرومة من الاستمتاع بجسدها مقموعة خاضعة للمجتمع الذكوري المتسلّط والعنف الزوجي. وتخزل المجتمع في صور فلكلوريّة تكرّس تخلّفه وانخراطه في عالم الإجرام والمخدرات أما الأقليات فمضطهدون في مجتمع غير متسامح يعاني من صعوبات في تقبّل الآخر المختلف ومن فوبيا المثلية الجنسية. صحيح أنّ الإبداع في أهم تعريفاته حفر في المنسجم في حياة الأفراد أو المجتمعات على مستوى الطبقة السطحية للوقوع على المشوّه والمختل المسكوت عنه في الطبقات العميقة بحثا عن تقويمه. ولكنّ السينما التونسية اليوم تسرف في هذا الحفر لتتحوّل إلى جلد للذات مدمّر وإلى تعسّف على المجتمع محبط عاجز عن بناء النماذج الإيجابية التي ترنو إليها السينما الطلائعية.

قد لا تتدخل الجهات المانحة في مسار العمل ولكنّ الرقابة الذاتية التي يفرضها السينمائي التونسي على نصّه ليقتنص هذا التمويل الخارجي باتت عنصرا مكبّلا يحدّ من حريته ويدفعه آليا إلى تكييف قصته ومقاربة الجمالية والفكرية للقضايا التي يتناول مع تطلعات صناديق الدعم وتصوّراتها. فتتأثر أعماله عميقا وتتحول إلى فنّ مراء يعلن مقاومته للاغتراب والاستلاب ويجسدهما في أتعس صورهما واقعا. 

والحاصل أنّ هذه السينما التي يراد لها أن تقاوم الغزو الثقافي وتجذّر المواطن في ثقافته وتدعم اعتزازه بذاته باتت تعمل على الاستجابة، للأسباب التمويليّة لأفق التقبل الغربي وتحقّق انتظاراته وتهمل أفق تقبّل المتفرّج التونسي دافع الضرائب وصاحب المال العام الذي تنفقه وزارة الثقافة في دعمها. فإذا بها تدّعي عليه وتشوّه صورته أكثر مما تعبّر عن قضاياه وتطلعاته.


4 ـ سينما المؤلف: من البحث عن المقاربات الجمالية المبتكرة إلى إرضاء النرجسيات المتورّمة 

من نتائج هذا التمويل الأجنبي وقوع السينما التونسية في تبعية فنية. فقد كانت أول نشأتها سينما شعبية يحكمها عنصران البحث عن الحكاية المشوقة وحشد الجماهر لترسيخ حكم بورقيبة "المجاهد الأكبر" وصاحب الفضل في استقلال البلاد و"باني الدولة الوطنية". فظهرت أفلام مثل الفجر والمتحدي.. ثم جاء جيل من السينمائيين المتأثرين بالموجة الجديدة في فرنسا، تلك التي تنتصر إلى المخرج المبدع المسؤول مسؤولية كاملة عن التصور الجمالي للفيلم والمشرف على جميع مراحل إنجازه بدءا من القصة إلى السيناريو إلى الحوار إلى التقطيع الفني والتصوير والمونتاج وبحثا عن أعمال مبتكرة تخرق القواعد المحنّطة التي يفرضها المستثمر المحكوم بهاجس الربح الأقصى. فقد كانوا يشتركون معهم الخلفيات الفكرية التي تعمل على تجديد وعي الجمهور بواقعه. 

وبعد أعمال مميّزة ذكرنا نماذج منها في بداية المقالة فقد هذا الاتجاه السينمائي الكثير من مميزاته وكاد يقصر همّه على رصد عوالم المخرج الباطنيّة بدل بحثه عن الأساليب المبتكرة لطرح قضايا الإنسان في مواجهة عوامل استلابه وتهميشه. وأسرف في عرض وأحلامه الخاصة وهلوساته حدّ التغاضي عن كل هموم جماعيّة. فتحوّل الابتكار إلى استنساخ لتجارب بعينها يمكن أن نختزلها في التركيز على حياة المهمشين ومشاغلهم وحالات انهيارهم النفسي دون إقناع فنّي. وغدت أغلب الأفلام مصطنعة مفتقدة للمصداقيّة الفنيّة.

5 ـ السينما المستقلة تعجز على أن تكون البديل

نريد بالسينما المستقلة تلك الأفلام التي يتمّ إبداعها خارج دوائر الإنتاج المعهودة بعيدا عن دعم السلطة ورعايتها المباشرة أو التمويلات الأجنبية ومسالك التّوزيع ذات البعد التّجاريّ الصّرف، والتي تقوم أساسا على التطوّع والمبادرات الخاصّة. وتنضوي ضمن هذا الصّنف، بمقادير مختلفة من الدّقة سينما الهواية وسينما الصّفر في المائة ميزانية والسّينما السرية وغيرها. ويجسّد الاستقلال هنا حبّ السينما في ذاتها ولذاتها والانتصار إلى حريّة التّعبير بعيدا عن إكراهات الإنتاج وتعقيداته المرتبطة بضوابط السّوق ومسالك التوزيع التجاريّة. لذلك يرفض هؤلاء السينمائيون اعتبارها مهنة يعتاشون منها ويرفضون التضحية باستقلالهم الفكري المجسّم لحريّة المبدع ومناهضته لكل أشكال الاستبداد. 

وفي تونس رفعت "الجامعة التّونسية للسّينمائيين الهواة" لواء الانتصار إلى "السينما الحق" المتحرّرة من ضغط الهواجس المالية وعملت على منح "النضال السينمائي" بعدا مؤسّساتيّا فريدا في العالم العربي. ويحسب لها تكوين أجيال من المخرجين المبدعين وتحقيق منجزات معتبرة. فهي إلى اليوم تسهر على تنظيم أقدم مهرجان سينمائيّ عربي وإفريقي على الإطلاق، هو المهرجان الدولي لفيلم الهواة بقليبية. الذي تمّ تأسيسه سنة 1964. ولكن مساحة الفراغ في المشهد السينمائي التونسي أكبر من أن يسدها جسدها النحيف. بل إنها هي نفسها فقدت شيئا من بريقها تضاءل لتراجع مفهوم التطوع اليوم ولمحدودية الآفاق التي تمثلها. ففرص أفلامها في العرض تظل مقتصرة على مهرجان قليبية أو بعض التظاهرات السينمائية الصغيرة. 

وفضلا عن ذلك، فقد ظل الانخراط في السّينما المحترفة هاجس أغلب من يمتلك ناصية هذا الفن من منتسبيها من أمثال رضا الباهي وسلمى بكار ووليد الطايع. وهذا ما يعني التنصل من أرضيتها الثقافية والفكرية والخضوع لطاحونة الإنتاج المشترك والتمويل الأجنبي والرقابة الذاتية بالتبعية.

6 ـ عتمة حالكة ولا ضوء يلوح في الأفق البعيد

لقد مد واقع السينما التونسية والتأثير السلبي لظروف التمويل الأجنبي وإكراهاته المسافة طويلة بين الجمهور وأفلام بلاده. وبات المتفرّج يشعر بأنه عنصر هامشي في معادلات إنشائها. فركدت السوق المحلية. وتقهقر عدد قاعات العرض. فلا يكاد يزيد اليوم عن 14 قاعة بعد أن كان يبلغ 128 قاعة فجر الاستقلال. وما وجد منها يظل شاغرا تقريبا عند عرض الأفلام المحلية. ودعم الدولة لا يكفي. فقانونه يفرض ألا يتجاوز مقداره نسبة 35 في المائة من تكلفة الفيلم أولا ولا يستفيد منه الجميع ثانيا. 

ومن حظ السينما التونسية السيء أنّ النقد يتراخى عن دوره الأساسي المتمثل في تشخيص الهنات في الوقت المناسب وفي ترشيد تجارب المبدع وتعميقها من خلفيات فكرية وجمالية عميقة وبات يختزل في مقالات صحفية هزيلة عاجزة عن تبيّن إنشائيّة الفيلم وآليات إنتاجه للمعنى. فتورد نقدها في شكل انطباعات متواطئة مع صناع هذه السينما وتنصرف إلى مدح أفلامهم حينا أو متواطئة ضدهم فتدين إنتاجهم لأسباب ذاتية ضيقة أو إيديولوجيّة لا صلة لها بالجانب الفنيّ من الأثر. 

أما النقد المحترف والمختصّ فلا يجد الفضاء الإعلامي الذي يحتضنه فيوفر له المساحة الكافية والمقابل المجزي. وحاصل هذا الوضع المعقّد أن بات الإنتاج اليوم أشبه بالعمل الاجتماعي. فتدعم الدولة بعض المشاريع لتنتشل مهنيي القطاع من بطالتهم. أما الرهانات الكبرى التي من أجلها تُدعم القطاع فمؤجلة إلى تاريخ غير مسمى. وتبقى العتمة حالكة فلا ضوء يلوح في الأفق البعيد.