قضايا وآراء

الإيمان والتفكير الناقد

1300x600

كشفت وسائل التواصل الاجتماعي عن منسوب مرتفع من رواج الخرافة في وسطنا الثقافيِّ، ومدى قابلية الناس لتصديق أيِّ شيءٍ وغياب آليات الفحص والتحقُّق التي تميِّز بين العلم والجهل وبين الحقِّ والباطل.  

يتداول الناس ملايين الرسائل التي تتضمَّن قصةً خرافيةً أو ادعاءً لا مصدر يؤكده أو حديثاً مكذوباً أو صورةً مفبركةً أو فيديو مجتزأً من وقته وسياقه ويُمرَّر هذا المحتوى على مئات الآلاف فلا يفكر أكثر المتلقِّين في طرح سؤال بسيط: ما هو الدليل على صحة هذا المحتوى؟ ويعيدون إرساله بمنتهى الحماس ظناً منهم أنهم يؤجرون على إعادة نشره وأن من امتنع عن ذلك فإن شيطانه قد منعهّ!

ميل الناس إلى الخرافة قديم، ذلك أن الخرافة توافق أهواءهم وتشبع خيالهم وتمنحهم حبكتها المثيرة شعوراً باللذة، لكن الخرافة تظل خرافةً و "إنَّ الظنَّ لا يغني من الحقِّ شيئاً"، "ولو اتبع الحقُّ أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهنّ". 

واللافت أنَّ من نسميهم البسطاء والعامَّة ليسوا وحدهم من يتلقى الخرافة ويروِّجها، بل يتورط في ذلك حملة شهادات عليا ومنتسِبون إلى النخبة ومؤثرون في تشكيل وعي الناس، وهذا يدلُّ على أن الخرافة هي مرض ثقافيٌّ لا يحصِّن من الإصابة به مكانة الأشخاص الاجتماعية وحقول تخصصهم الفنيَّة.  

والخطير في تفشِّي الخرافة هو نسبتها إلى الدين، فيظن عامة الناس أن رفض قصة أو مرويَّة لافتقارها إلى أسس التحقق العلمي هو رفض للدين أو ضعف في الإيمان، وهو ما يدفع كثيراً من الناس إلى إحدى طريقين: إما أن يقبل ما يظن أنه دين بخرافاته وتناقضاته ويلجم عقله بزعم أن الدين لا يؤخذ بالعقل، وإما يتجه إلى طريق الإلحاد ظنَّاً منه أنها طريق التنوير والتحرر العقلي.  

الحقُّ هو ما يثبته الدليل، ولولا الدليل لصار بإمكان أي أحد ادَّعاء أيِّ شيءٍ، وقد تفطَّن العلماء المحققون في العصور الأولى إلى مركزية الدليل في طرح أيِّ فكرةٍ فقالوا: "البيِّنة على من ادَّعى"، و"لا دعوى إلا بدليل".  

 

التفكير الناقد ليس ترفاً، وكلمة النقد لا تعني ذكر السلبيات وحدها كما يتوهم البعض من دلالة لهذه الكلمة، بل إن النقد هو الميزان الوحيد والضروري لتحرير الحق من الباطل والظن والخرافة، فالله تعالى لا يُتعبَّد إلا بالعلم،

 



أما ابن خلدون مؤسس علم الاجتماع فقد وضع شروطاً علميَّةً لتمحيص الأخبار، فهو يرفض ادعاء أن جيش بني إسرائيل في سيناء كان ستَّمائة ألفٍ، ويخلص إلى فكرة بسيطة لكنها ثورية جذرية وهي أن النقل وحده لا يكفي دون التمحيص والتحقُّق العلمي. 

يقول ابن خلدون في مقدمته: "إنَّ الأخبار إذا اعتمد فيها على مجرّد النّقل ولم تحكم أصول العادة وقواعد السّياسة وطبيعة العمران والأحوال في الاجتماع الإنسانيّ ولا قيس الغائب منها بالشّاهد والحاضر بالذّاهب فربّما لم يؤمن فيها من العثور ومزلّة القدم والحيد عن جادّة الصّدق، وكثيراً ما وقع للمؤرّخين والمفسّرين وأئمّة النّقل من المغالط في الحكايات والوقائع لاعتمادهم فيها على مجرّد النّقل غثّا أو سمينا ولم يعرضوها على أصولها ولا قاسوها بأشباهها ولا سبروها بمعيار الحكمة والوقوف على طبائع الكائنات وتحكيم النّظر والبصيرة في الأخبار فضلّوا عن الحق وتاهوا في بيداء الوهم والغلط ولا سيّما في إحصاء الأعداد من الأموال والعساكر إذا عرضت في الحكايات إذ هي مظنّة الكذب ومطيّة الهذر ولا بدّ من ردّها إلى الأصول وعرضها على القواعد". 

إنَّنا نذكر اسم ابن خلدون عادةً في سياق الفخر بأمجادنا وعلمائنا، لكن منهجه أبعد ما يكون عن الشيوع والرسوخ في عقولنا وحياتنا، ولو أنَّ عموم المسلمين أخذوا بالاقتباس السابق وحده من ابن خلدون وترسَّخ فيهم حتى صار عادةً لتغيَّر وجه التاريخ، ولما انطفأت عصور العقل سريعاً وحلَّ محلاً لها عصور التقليد.  

السؤال عن ضمانات ثبوت أيِّ خبرٍ قبل تصديقه ليس منقصةً في إيمان المؤمن، بل إن العكس هو الصحيح، فالقرآن قد اتخذ البرهان ميزاناً للتمييز بين الحقِّ والباطل، وبين الهدى والضلالّ

كل دعوىً أياً كان قائلها فهي ملزمة بإثبات نفسها بالبرهان، فإن عجزت عن ذلك تهاوت ودحضت: "ولله الحجة البالغة"..
  
ارتضى الله البرهان للتحاكم في أكبر قضايا الوجود، وهي قضايا إثبات وحدانيَّته وإثبات الحياة بعد الموت فقال في مخاطبة الذين أشركوا:

"قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين"، "ومن يدع مع الله إلهاً آخر لا برهان له به فإنما حسابه عند ربه"،  "هل عندكم من علم فتخرجوه لنا"، "إن عندكم من سلطان بهذا"، "وما لهم به من علم إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئاً". 

وقال في إثبات البعث: "قل يحييها الذي أنشأها أول مرة"، "وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه" . 

الإيمان في القرآن هو مقتضى البرهان، والكفر هو اختلال المنهج العلميِّ والقبول بالظن وما تهوى الأنفس دون برهان.  

وإنَّ من أمارات الافتقار إلى المنهج الناقد أن مرويَّةً ضعيفةً منسوبةً إلى الرسول صلى الله عليه وسلم قد تتسلل خفيةً إلى تراث المسلمين، وتكون تلك المروية مختلفةً مع مبدأٍ راسخٍ في القرآن الكريم، فيبذل المسلمون جهوداً مضنيةً في محاولة التوفيق والترقيع بين تلك المروية الواهية وبين المعنى القرآنيِّ المحكم، ظنَّاً منهم أنَّ رفض المرويَّة هو رفض لأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، مع أن هذا الرفض في حقيقته هو غيرة على معاني القرآن وهو سؤال مشروع عن ضمانات التحقق العلمي. 

إنَّ هناك فرقاً بين أن يسمع أحدٌ حديثاً من الرسول صلى الله عليه وسلم مباشرةً ثم يكذبه، وبين أن يسمع حديثاً منسوباً إلى الرسول فيسأل عن ضمانات أن الرسول قد قاله فعلاً، ويأبى التصديق بالظنِّ دون دليل قاطع.  

ومنهج التشكيك في صحة الأحاديث حين يعارض ظاهرها مقاصد الدين ومعاني القرآن المحكمة هو منهج الصحابة أنفسهم، فقد ردَّت عائشة رضي الله عنها حديثاً ادّعى راويه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "يقطع صلاة المسلم ثلاث المرأة والكلب الأسود والحمار" وبرَّرت عائشة ردَّ الحديث بقولها:  "لقد عدَلتُمونا بالكلابِ والحَميرِّ! 

ونفس المنهج نجده في تعامل عمر بن الخطاب رضي الله عنه مع أبي موسى الأشعريَّ حين جاء يستأذنُ على عمرَ بنِ الخطابِ فاستأذنَ ثلاثًا ثم رجع، فأرسلَ عمرُ في أَثَرِهِ فقال ما لك لم تدخلْ؟ فقال أبو موسى سمعتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ يقولُ: الاستئذانُ ثلاثٌ فإن أُذِنَ لكَ فادخلْ، وإلا فارجعْ، فقال عمرُ بنُ الخطابِ: ومن يعلمُ هذا؟ لئن لم تأتِ بمن يعلمُ ذلك لأفعلنَّ بك كذا وكذا. 

فخرج أبو موسى حتى جاء مجلسًا في المسجدِ وجاء بأبي سعيدٍ الخدريِّ، فقال عمرُ لأبي موسى أما أني لم أَتَّهِمْكَ ولكني خشيتُ أن يَتَقَوَّلَ الناسُ على رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ. 

بمنطق الذين يريدون منَّا أن نقبل أي حديث مزعوم وإن كان ظاهره ينقض أصلاً واضحاً في القرآن والدين، فإن عائشة وعمر رضي الله عنهما كانوا يكذِّبون بالسنة لأنهم لم يصدِّقوا كل ما قيل إن الرسول قد قاله! لكنَّ ما فعلته عائشة وعمر في هذين الموقفين هو حقيقة الدين، فالدين لا يقوم إلَّا على اليقين والتثبُّت، ومن ردَّ روايةً لعدم توفر الضمانات العلمية لصدقها بعد أن تجرَّد في السؤال والتحقق متحرِّراً من ملابسة الهوى، فهو معذور عند الله تعالى، حتى وإن كان الرسول قد قالها فعلاً، فالحجة لا تقوم على الإنسان إلا بالبلاغ المبين، والبلاغ المبين هو الذي لا يبقي مساحةً للظنِّ والشكِّ والشبهة.   
مما يحدث الخلط هو ظنُّ فريقٍ من المؤمنين أن عماد الدين هو الطاعة والاستسلام، بينما عماد التفكير الناقد إخضاع المنقول للعقل! 

 

ربط الدين بالخرافة ينشئ متديِّناً ساذجاً يمكن التغرير به من قبل اللئام واتخاذه أضحوكةً، وهو ما يشيعه أعداء الدين أن المتدينين يصدقون أي شيء إذا كان يداعب عواطفهم الدينية، مثل أن شجرةً أو بيضةً أو خروفاً نقش عليها لفظ الجلالة.

 



لا ريب أن عماد الدين هو الطاعة والاستسلام، ولكنها الطاعة على بصيرةٍ: "قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني".. 

وكما تبيِّن هذه الآية فإن البصيرة ليست حقَّ الإمام وحده، بل يجب أن يكون المتبِع على بصيرة أيضاً، وإن القرآن يتوعَّد الذين يتبعون سادتهم وكبراءهم على عمايةٍ بالنار يوم القيامة: "وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا * ربنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعناً كبيراً"، "إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ". 

فكيف يذمُّ الله تعالى المتبعين على عماية ثم يرضى من عباده المؤمنين أن يتبعوا على عماية! 

والطاعة التي يأمر الدين بها هي طاعة بنيت على حبٍّ وعلى يقين بأن هذا هو شرع الله العليم الخبير، والناس يعرفون من معاشهم أن التسليم لخبير في حقلٍ ما لا يعني إغلاق العقل، فإذا قعد أحدنا إلى جوار طيَّار في قمرة قيادة الطائرة فإنه لن يسأله لماذا تفعل هذا أو لا تفعل ذاك، بل إن الناس يسلمون أنفسهم ومصائرهم إلى الطيار وينامون بهدوء على متن الطائرة وهي معلقة بهم في الهواء لأنهم يثقون في خبرته! هذا هو السياق الذي نفهم فيه معنى الطاعة في الدين، وهي طاعة لا تبنى إلا على علم ويقين أن هذا هو أمر الله تعالى ونهيه! 

التفكير الناقد ليس ترفاً، وكلمة النقد لا تعني ذكر السلبيات وحدها كما يتوهم البعض من دلالة لهذه الكلمة، بل إن النقد هو الميزان الوحيد والضروري لتحرير الحق من الباطل والظن والخرافة، فالله تعالى لا يُتعبَّد إلا بالعلم، وربط الدين بالخرافة ينشئ متديِّناً ساذجاً يمكن التغرير به من قبل اللئام واتخاذه أضحوكةً، وهو ما يشيعه أعداء الدين أن المتدينين يصدقون أي شيء إذا كان يداعب عواطفهم الدينية، مثل أن شجرةً أو بيضةً أو خروفاً نقش عليها لفظ الجلالة. 

التدين الحقيقي يجب أن يكون بالضرورة متوافقًا مع المنهج العلمي ولا يقبل أيَّ ادعاءٍ إلا باختبارِه وفحصِه والتحقق من خلوه من التناقض والاختلاف والعلَّة، وتعطيل العقل هو كفر بنعمة الله فهو لم يعطنا العين لنغمضها أو الأذن لنصمها أو العقل لنعطله.