أفكَار

في تفسير ظاهرة تحلل الأحزاب الإصلاحية.. المغرب نموذجا

قراءة هادئة في تجارب الأحزاب الإصلاحية بالمغرب.. (الأناضول)

نبه الدكتور عبد الله العروي مبكرا إلى الصراع بين السياسي وبين المؤرخ، وحاول تفسير أسبابه، وأن جزءا من مهمة السياسي، أن يقوم بطمس الذاكرة أو جزء منها، لأنها تحرجه، أو تمنعه من تحقيق أهدافه، أو تجعل تلك المهمة مستحيلة أو متعذرة.

لكن المشكلة، تصير أكثر تعقيدا عندما يتعلق الأمر، بالعداء بين السياسي والتاريخ، أو على الأقل، تغييب التاريخ، حتى لا يكون الحكم قاسيا على السياسي، فالسياسي حينما يعيش تجربة الإصلاح، يحاول دائما أن يعطي لتجربته ميزة خاصة، يسمها بها، ليبرر بها الاستثناء الذي تتميز به، وليخرجها عن القانون العام، الذي يجري على الحركات الإصلاحية، التي يتشرف بالانتماء إلى بعض حلقاتها أو إحدى تعبيراتها.

يصر السياسي دائما، وهو يشق تجربة حركته الإصلاحية على أن يجعل بين تجربة حركته وتجارب الحركات الإصلاحية، مسافة كبيرة، يبرر بها خصوصية حركته، وتمايز حركات الآخرين عنها، وأن تجارب الآخرين محكومة بمنطقها الخاص، وأن تجربة حركته تحتفظ بخصوصيتها، وأنها تجري على غير نسق القانون العام الذي يحكم مسار التجارب الأخرى، مع أن التطلع الإصلاحي واحد، ومصير القوى الإصلاحية التي حملته لا يختلف هو الآخر.

ظاهرة تحلل الحركات الإصلاحية، في مفكرة المؤرخ، لا ترتبط بالحركات الإصلاحية، اليسارية أو الليبرالية أو الإسلامية، وإنما ترتبط بوقائع تشترك بسمات كثيرة ومؤشرات مضطردة، تدفعه لاكتشاف المنطق الخاص، الذي يفسر تحلل هذه الحركات، والقانون العام الذي يحكم هذه الظاهرة. بينما مفكرة السياسي، تقفز على كل ذلك، وترى في هذه الحركات، تجارب مستقلة، تحتفظ كل واحدة بمنطقها، وأن ثمة عشرات الاعتبارات التي تمنع الحديث عن نمط حاكم لها.

السياسي يفعل ذلك، حتى يجد السلاح الذي ينفي عنه تهمة ارتكاب الأخطاء نفسها التي أدت إلى تحلل الحركات الإصلاحية السابقة، ويجد الجواب الذي يبرر به إمكانية الاستئناف، وإعادة التجربة من جديد.

نطرح هذه المفارقة، بين مفكرة السياسي ومفكرة المؤرخ، ونحن نقارب ظاهرة تحلل الحركات الإصلاحية، وارتدادها إلى عكس أهدافها، أو اضطرارها باسم التكيف ليس فقط إلى تبرير الواقع الذي بررت وجدها بضرورة تغييره، بل بمجرد البحث عن موقع داخله.

في تفسير ظاهرة تحلل الحركات الإصلاحية

يفيد الاستقراء لتجربة الحركات اليسارية في الوطن العربي، أن ظاهرة تحلل الفكرة الإصلاحية عندها بدأ في اللحظة التي واجهت صدمات عنيفة، لم يستطع عقلها النظري أن يواكبها، وينتج ما يلزم بصددها من ديناميات سياسية، قادرة ابتداء على تعبئة المجموع الإصلاحي، وخلق الحجة الإيديولوجية المغذية لهذه التعبئة، ومحاولة للتحدي إلى فرص واعدة، تستعبد بها الحركة الإصلاحية دورتها الحيوية في استكمال مشروعها الإصلاحي.

لا يعدم منظرو هذه الحركات المبرر، لتفسير ظاهرة عجز العقل النظري عن مواكبة التحولات، والتكيف مع الأزمات وتحويلها إلى فرص اقتحامية، فأغلب هؤلاء يتعللون باختلاف سياق الصراع على الحكم عن سياق الصراع من داخل الإجماع، وأن مرحلة الصراع على الحكم فرضت خطوط نضالية متعددة منها الثوري ومنها الديمقراطي، وفرضت أيضا توحد مكونات ووسائل الدفاع الشعبي والمدني، وجعلت الثقافي يسير في خط واحد مع السياسي، وجعلت النقابي والحقوقي خادما للخط النضالي الثوري أو الديمقراطي، وأن مرحلة الصراع من داخل الإجماع، تقتضي الشراكة والتعاون والتوافق، وأن ثمن هذت التحول، هو إجراء مراجعات فكرية وتنظيمية وسياسية، وأنه بسبب وجود التباين  بين هذين السياقين يصبح سؤال تحلل القوى الإصلاحية، غير ذي مضمون، أو بالأحرى، يجعل السؤال في هذا الموضوع لا يطرح بهم البحث عن القانون العام الذي يجري على هذه التجارب الإصلاحية؟

تجارب من تحلل الأحزاب الإصلاحية المغربية

يؤكد التاريخ، برواياته، المختلفة، أن تحلل القوى الإصلاحية في النموذج المغربي، بدأ في اللحظة التي عجزت فيها هذه القوى عن التعامل الذكي مع الصدمات التي لم تكن مهيأة لاستقبالها، فضلا عن تأطيرها نظريا وسياسيا.

تجربة الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، تمثل حالة دراسة مهمة، فهذا الحزب نجح في أن يقود زخما ثوريا مهما، أهله للانغراس في قاعدة مجتمعية عريضة حظيت بتمثيلية شاملة لجميع الفئات، في الأرياف والحواضر، ولم يكن للسلطة من جواب عن هذا التحدي سوى بالقبول بواقع الأمر (رئاسة الاتحاد الوطني للقوات الشعبية للحكومة سنة 1959 في شخص عبد الله إبراهيم). 

التفاصيل المرتبطة بالدينامية السياسية، توفر مؤشرات عدة على القوة التنظيمية والفكرية والسياسية والجماهيرية لهذا التنظيم، فضلا عن قوته أيضا في الدينامية السياسية، ومقاومته من داخل التجربة الحكومية نفسها، لكن، في الوقت الذي كان ينتظر من هذه التجربة أن تواجه أزمة إعفاء حكومة عبد الله إبراهيم، بعقل نظري يحدد الجواب الجماعي الموحد، والخط السياسي الذي يمكن به تأطير الفعل السياسي المنفعل بهذه الصدمة، انتهى الأمر بهذا الحزب إلى تحلل تجربته الإصلاحية، وتركيز التقييم على الأخطاء القاتلة، لا الخيارات العملية لتحصين الخط الإصلاحي، وتأمين زخمه.

كتب المهدي بن بكرة كتابه "الاختيار الثوري" وضمنه مجمل النقد الذاتي الذي وجهه لحركته الإصلاحية، ووضع الأصبع على الأخطاء الثلاثة (عدم الوضوح الإيديولوجي، عدم التقدير الصحيح لمآلات أنصاف الحلول التي اضطرت إليها الحركة الإصلاحية، والنخبوية خوض المعارك بعيدا عن الجماهير).

 

ظاهرة تحلل الحركات الإصلاحية، في مفكرة المؤرخ، لا ترتبط بالحركات الإصلاحية، اليسارية أو الليبرالية أو الإسلامية، وإنما ترتبط بوقائع تشترك بسمات كثيرة ومؤشرات مضطردة، تدفعه لاكتشاف المنطق الخاص، الذي يفسر تحلل هذه الحركات، والقانون العام الذي يحكم هذه الظاهرة.

 



جاء هذا النقد بعد إسقاط حكومة عبد الله إبراهيم، أي أن أزمة الاتحاد بدأت، عمليا، في اللحظة التي لم تستطع الآلة النظرية أن تقدم جوابا عمليا ع مرحلة بعد إسقاط حكومة عبد الله إبراهيم.

احتفى الكثير بكتاب "الاختيار الثوري"، لكن بنبركة لم يقدم جوابا سياسيا، فبقدر ما كان نقده للتجربة السياسية الاتحادية قويا وصارما، بقدر ما فتح الباب أمام خيارات أخرى، أدخلت الحركة الإصلاحية في المتاهة؛ متاهة اليسار الجديد، ومتاهة الخيار العسكري، ومتاهة انكفاء خط الإصلاح الديمقراطي، بحجة عدم وجود إرادة سياسية للإصلاح.

تقدم كتب المذكرات التي غطت مرحلة التيه الفكري والسياسي لقيادات الاتحاد المختلفة (مرحلة ما بين 1961 ـ 1975) معطيات مهمة عن الخلافات التي مزقت الداخل الاتحادي حول خيارات مواجهة هذه الصدمة، والتي تأرجحت بين خط الانتظار، وخط الخروج من ساحة السياسة، والخط العسكري مع البحث عن تحالفات مع الخارج، والخط المزدوج، الذي يجمع بين النضال الديمقراطي والكفاح المسلح والتحالف مع الخارج.

قام عبد الرحيم بوعبيد بدور كبير في إصلاح عطب الآلة النظرية، وأوجد الجسر الذي يمر منه الخيار الاستراتيجي (التحرير)، بوضع لبنات الخيار الديمقراطي، وأسهم معه مثقفون وازنون في بناء الخط الفكري والسياسي (محمد عبد الجابري)، بما جعل هذا الخيار يعمر طويلا، ويحقق الكثير من ثمراته، حتى اقتنع الحكم بألا محيد عن خوض تجربة التناوب الديمقراطي.

لكن مرة أخرى، ستعاد تجربة التحلل، مع أزمة أخرى شبيهة، هي أزمة الانزياح عن المنهجية الديمقراطية، وعدم تعيين أحد قيادات حزب الاتحاد الاشتراكي الذي تصدر الانتخابات وزيرا أول للحكومة (عبد الرحمان اليوسفي)، وتعيين شخصية تكنوقراطية بدلا عنه (جطو)، إذ برزت من جديد أزمة عجز الآلة النظرية عن الجواب عن لحظة الانزياح عن المنهجية الديمقراطية، فرغم قوة وغزارة التحليل السياسي الوارد في محاضرة اليوسفي ببروكسيل، فإن واقع الحزب، وتدبيره القيادي، فضلا عن علائقه البينية، كانت بعيدة عن روح ومضمون ورسائل هذا الخطاب التاريخي.

يعتقد البعض أن المشاركة الحكومية استنزفت الاتحاد، وأحدثت اختراقات مهمة في بنيته القيادية، بل وربما غيرت تركيبته السوسيولوجية، بحكم الولاءات الجديدة التي أنتجتها بعض القيادات في مربع التدبير الحكومي، أو في بعض المواقع المؤسساتية، لكن، في المحصلة، اختصرت المشكلة في بعدها التنظيمي، أو في الخط القيادي، فأجهز الصراع القيادي على ما تبقى من رصيد داخل الاتحاد، فلم يعد ممكنا تصور اجتماع مكوناته أو مناضليه الكبار، لتقديم جواب جماعي عما بعد الانزياح عن المنهجية الديمقراطية!

الإسلاميون يعيدون التجربة نفسها

يتكرر المشهد مع العدالة والتنمية، لكن هذه المرة بوتيرة سريعة تطرح أكثر من سؤال عن هشاشة التجربة، فما إن أعفي عبد الإله بنكيران من رئاسة الحكومة، حتى وجد الحزب نفسه في أزمة داخلية عميقة، لم يجد لها إلى اليوم حلا، مع أنه خرج من انتصار انتخابي أربك كل القواعد المؤطرة للنسق الانتخابي.

من المؤسف جدا، ألا ينتبه منظرو الحزب وقياداته السياسية إلى جملة مهمة، عبر عنها رئيس الحكومة المعين لحظة البلوكاج الحكومي (امتناع لأحزاب بإسناد من السلطة عن التعاون مع رئيس الحكومة لتشكيل حكومته)، وذلك حين قال بأن رفض تشكيل حكومة العدالة والتنمية، يعني الحاجة إلى المكاشفة وإخبار الشعب بأن الديمقراطية لم تنضج بعد في المغرب، وأنه لا يمكن بأي حال من الأحوال القبول بواقع سياسي يبتعد بشكل كامل عما قررته نتائج الانتخابات.

لم يسر الحزب في هذا الخيار، وساير خيار الضرورة، أو الخيارات الوسيطة التي لم يكن مهيأ لها من قبل، ولاغ له تصور عن كلفتها السياسية، لكنه مع ذلك، انتبه إلى خطورة التحلل، فسارعت قيادته (عبد الإله بن كيران) إلى استثمار كل أرصدته من أجل تحصين تماسك الحزب إلى لحظة المؤتمر، وترك كلمات ووصايا، لخلفه القيادي، كلها مبادئ وقيم تدور حول التحصن من التحلل.

انشغلت قيادة هذا الحزب بعده بالتحديات اليومية، أو بالأجندات التي وجدت نفسها مضطرة إلى الانخراط فيها، دون أن يكون لها وقت لتدبير الانتقال من واحدة إلى أخرى، أو للتفكير في عناوين أخرى مستقلة، فوضعت بين ضغطين؛ ضغط حاجيات الدولة، وضغط الغاضبين في الحزب، فاستجابت للأول بل استنزفت فيه، وانشغلت في الثاني بهم الغلبة التنظيمية، بدل الحوار السياسي المفتوح على مستقبل الحزب بعد إعفاء بنكيران؟

نتيجة الاستحقاق الانتخابي للثامن من أيلول / سبتمبر 2021، رسمت واقع تحلل الظاهرة الإصلاحية، واستمرار عجز العلق النظري عن إنتاج خيارات استعادة المبادرة.

الناموس المفسر لتحلل الظاهرة الإصلاحية

تشترك التجارب الثلاثة على الاختلاف الأيديولوجي الذي يخترق حركاتها، في الناموس الذي يجري عليها، والنمط العام الذي يحكمها.

ما يعزز وحدتها وتشابهها، أن النسق القيادي المخترق للقوى الإصلاحية، خاصة في التجربتين الأخيرتين، بحكم أن التجربة الأولى انتهى بها التقييم إلى السباحة بعيدا عن خيار الخط الديمقراطي، بات محكوما بثلاث خطوط أساسية:

خط للتدبير السياسي المساير لما ترسمه نخب الحكم، وقد تعزز هذا الخط بتبرير التباين بين سياق الصراع على الحكم وسياق الصراع من داخل الإجماع، وأن مخرجات نخب الحكم، تمثل الجانب الاستراتيجي، الذي يمثل توجهات الدولة، وأنه لا يجوز الخلاف فيها، عكس تدبير السياسات العمومية، المحكوم بالخلاف في التقديرات السياسية وخط للتبرير الإيديولوجي الذي تنتجه القيادة أو بعض مثقفيها في مربع التدبير، إذ أصبحت كل السياسات العمومية، وكل القرارات السياسية التي تتخذ سواء داخل الحكومة أو خارجها، تبرر بسند إيديولوجي قوي يتكلف قادة الحركة الإصلاحية، بدلا عن حلفائهم به.

وخط الانتفاع، الذي يكبر على هوامش القيادات السياسية، التي تستعين به في مغالبة القواعد الغاضبة، إذ غالبا ما يحتاج التبرير غير المقنع لشبكات وكتل تدور حول القيادات، تقوم بدور التوازن، حتى يسير القرار السياسي والتبرير الإيديولوجي والآلية والقرار التنظيمي في مسار واحد.

المؤسف أن هذا المصير، الذي يتشابه بين هذه التجارب الثلاث، هو نفسه الذي تعرفه حركات إسلامية أخرى، تعيش في سياقات سياسية مختلفة، إذ يمكن أن نمثل لذلك بحركة النهضة التونسية، التي عجزت آلتها النظرية عن أن تنتج جوابا سياسيا عما بعد مرحلة إزاحتها، وبدل أن تتوجه إلى نقد ذاتي جماعي، وإنتاج جواب سياسي، يرتب المسؤوليات، ويصحح الأخطاء، ويستعيد المبادرة، تم تعطيل هذه الأداة بشكل كامل، وتم الاستعاضة عنها بشرعية القيادة التاريخية، وصوابية اختياراتها، وبالتغلب التنظيمي، حتى أضحت حركة النهضة بيتا لا يتسع لأبنائه، فضلا عن قياداته الغاضبة، وبدأ التفكير جديا في تأسيس كيانات إصلاحية أخرى، يتصور أن مجرد ابتعادها عن النهضة سيخلق الإضافة النوعية، وسيوفر الشط للالتفاف الجماهيري حول المشروع.

تجربة الإخوان، تعيد التجربة نفسها، فهذه الحركة، أبدا لا تترك المجال لتحرك العقل النظري لتقييم الموقف، وإجراء النقد الذاتي ألأساسي، والنظر في شروط بناء خط سياسي جديد، بل تستعين دائما بنفس الأطروحة ( قمع النظام مصادرته للحريات) لكي تبرر وجودها في المربع الصحيح، مربع المطالبة بالإصلاحات السياسية والدستورية، ومواجهة الاستبداد، وتسعتين بصوابية أطروحة المقاومة،  بالإخفاقات التي تعرفها النظم السياسي، وحاجتها إلى المصالحة والانفراج السياسي، تماما، كما حصل في عهد السادات، بعد قمع النظام الناصري للإخوان، وكما حصل في أول عهد مبارك بعد انعطاف السادات لقمع الإخوان، وكما يجري من مؤشرات اقتناع السيسي بألا خيار لاستمرار نظامه في ظل التحديات السياسية والاقتصادية الجارية إلا بمصالحة سياسية، وعودة الإخوان إلى مربع السياسة.

العقل النظري، الذي لا يستطيع أن يميز بين السياقات، ولا يدرك التحولات التي جرت على البنية التنظيمية الإصلاحية، والصراع الذي نشب بين أجيال الحركة الإصلاحية، لا يستطيع أن يدرك مخاطر تحلل الحركة الإصلاحية، وأثر ذلك عل المشروع الإصلاحي برمته.