كتاب عربي 21

مداخل متنوعة على سبيل "الحوار"

1300x600

(إهداء: إلى العزيزين هشام جعفر وحازم رشوان)


مدخل (1): لو كان آدم سعيداً

لدينا سلطة جاهلة إلى حد توهم العبقرية ومعرفة كل شيء، لذلك فإنها تنسى الأسماء والتعريفات وتخترع معرفتها الخاصة، فتسمي القمع "ديمقراطية"، وتسمي الخوف "أمنا"، وتسمي الركود "استقرارا"، وتسمي الإفلاس "إصلاحا جريئا"، وتسمي بيع الأصول "تقليص ملكية الدولة"، وتسمي الأشلاء "جمهورية جديدة"، وتسمي الإملاءات والتعليمات "حوارا".. إلخ.

نسيان الأسماء دليل على انحراف آدم وإهماله لما علمه الله، ويخيّل إليّ (حسب المجنون الروماني إميل سيوران) أن آدم لم يكن سعيداً قبل طرده من الجنة، ربما بسبب اختلافه، وهذا الاختلاف لم ييسر له فرصة للحوار مع مثيل له من مخلوقات الطين، ولهذا جاء خلق حواء كأنيس وجليس وشريك حياة وحوار..

للحوار إذن ضرورة عظيمة لآدم (ونسله) حتى لو كانت الإقامة في الفردوس، فالحوار دليل إنسانية، الحوار احتياج غريزي فوق الثقافة وفوق المعرفة، لهذا يثرثر الناس في كل شيء أيا كانت معلوماتهم وموضوعات النقاش. فالثابت أن الثرثرة والفضفضة والبوح لها قيمتها النافعة لصحة الإنسان العقلية والبدنية، ومع ذلك أدى تطور الوعي الإنساني إلى تأطير الثرثرة وتعدد أشكالها، حتى وصلنا إلى أسلوب علمي ينظم الثرثرة في شكل حوار له دوافع وله أهداف، وعادة ما تكون الدوافع "مشكلة" تحتاج إلى مشاركة جماعية وتبادل خبرات من أجل التوصل إلى اتفاق يحل تلك المشكلة..

هكذا يمكن تعريف الحوار باعتباره دليلا على وجود مشكلة يجتمع عدد من الناس لحلها بالكلام فيما بينهم، بدلا من التحارب. ومن هنا يطرق السؤال رأسي: ما هي إذن المشكلة التي دفعت السلطة في مصر للدعوة إلى الحوار بغية حلها؟

الحوار حق، لكن لا أحد يضمن ما تحت هذا الحق وما يراد به ومنه (فقد يكون تحته وفوقه والمراد منه باطل)، لذلك فإننا عندما نتحدث عن أهمية ونفع الحوار، فإننا نحيي الفكرة والأسلوب والمبدأ، ولا نتحمل وزر المحرفين والمنحرفين

مدخل (2): قولوا حطة

تحت لا فتة حوار يجلس شخص وهو يفكر في شراء المعارضة بثمن بخس، ويجلس آخر وهو يفكر في حيلة للإفراج عن أكبر عدد من السجناء السياسيين، ويجلس ثالث وهو يقدم أوراق انضمامه للسلطة بعد أن تبينت له مخاطر بقائه في حارة المعارضة، ويجلس رابع وهو يردد في نفسه مقولة العمدة الانتهازي (في مسرح سعد الدين وهبة): معرفة الناس الكبار كلها خير وبركة.. إذا لم يسعفنا الحظ بنصيب "مستر بانجو" في مجلس نواب أو شيوخ، "فلنتفشخر" بالأخبار والصور والاجتماعات والتصريحات الصحفية والتلفزيونية، وفي كل الأحوال سنجد الواسطة لاستثناء الولد في صف الدرجة المطلوبة لدخول الكلية أو الوظيفة!!

هذا يعني أن الحوار حق، لكن لا أحد يضمن ما تحت هذا الحق وما يراد به ومنه (فقد يكون تحته وفوقه والمراد منه باطل)، لذلك فإننا عندما نتحدث عن أهمية ونفع الحوار، فإننا نحيي الفكرة والأسلوب والمبدأ، ولا نتحمل وزر المحرفين والمنحرفين الذين يذكروننا بمن قال الله لهم: قولوا حطة نغفر لكم، فلم يقولوا وبدّلوا قولاً غير الذي قيل.

ولهذا فإن الإشادة بمبدأ الحوار لا تعني أن نتجرع مراراته و"جلايبه" و"مصايبه"، لمجرد أنه "السيد حوار"، هذا إذا أجاب أحد من الداعين والمتحمسين على سؤال: لماذا الحوار الآن؟ وما هي المشكلة التي نبحث لها عن حل؟، وهل الحديث عن مشكلة تقتضي الحوار حولها، يتضمن اعترافا من المخطئ بالخطأ الذي تسبب في المشكلة؟ وهل هناك نية للمحاسبة على هذا الخطأ، أو حتى إثباته ثم العمل بقيمة العفو عما سلف وفتح صفحة جديدة نحرم فيها مثل ذلك الخطأ؟

مدخل (3): الشجعان لا يتحدثون عن العفاريت

وحدهم الخائفون تدفعهم رغبة خفية في الحديث عن العفاريت ربما لتبرير خوفهم، وربما لاستغلال مشاعر الخوف في إخضاع خائفين غيرهم، وربما لأسباب أخرى لا يهمني الآن سردها، لأن ما يهمني في هذا المقال هو التذكير بأن الحديث المتزايد عن الحوار والحرية في هذه الأيام دليل مؤكد على غياب الحوار وغياب الحرية، وهو ما يعبر عنه المثل الشعبي: "الجعان يحلم بسوق العيش"، والمثل بتعبيرات المثقفين يوضح أن الغياب والافتقاد يؤدي إلى نوع من "الحضور التعويضي"، فالإنسان لا يبحث عن الموجود، بل يشتاق ويسأل عن غير الموجود، لذلك فإن كثرة الحديث عن الحوار هي دليل على أن الحوار غائب، وإذا كان الحديث الدائر لاستعادته ورد اعتباره فإننا أيضا لا بد وأن نبدأ بالتعرف على هوية الحوار ومحاوره الرئيسة وأهدافه، حتى لا نستدعي مسخاً أو وحشا ينتحل صفة الحوار، بينما هو "قرار" أو "إجبار" أو "احتيال" يمهد لخديعة جديدة؛ أولها "نتعهد" وختامها "آدي اللي كان وآدي اللي صار"..
لماذا الحوار الآن؟ وما هي المشكلة التي نبحث لها عن حل؟، وهل الحديث عن مشكلة تقتضي الحوار حولها، يتضمن اعترافا من المخطئ بالخطأ الذي تسبب في المشكلة؟ وهل هناك نية للمحاسبة على هذا الخطأ، أو حتى إثباته ثم العمل بقيمة العفو عما سلف وفتح صفحة جديدة نحرم فيها مثل ذلك الخطأ؟

مدخل (4): انتبهوا جيدا

في سهرة عاصفة في فندق شبرد بعد توقيع اتفاق أوسلو، انقلب الحوار مع الشاعر الفلسطيني أحمد دحبور إلى هجوم على منظمة التحرير وانفعال ضد تأييد دحبور لتنازل المنظمة عن خط المقاومة؛ بحجة تحقيق مكتسبات معيشية للفلسطينيين في المنفى وفي الداخل. وكانت حجة الشاعر المهذب أن تحول المنظمة من "مقاومة" إلى "سلطة" أتاح إصدار وثائق هوية للاجئين الضائعين في الشتات، ولما كان دحبور من مواليد المخيمات وعانى من شتات أسرته بين المنافي فقد دافع عن فكرة "الدولة الهشة"؛ باعتبارها أكثر واقعية ونفعا للمشردين من حلم تحرير فلسطين من النهر للبحر، الذي قد يستغرق أجيالا من دون أن يتحقق، بينما الفلسطيني الذي يدرس في اليمن لا يستطيع أن يسافر لرؤية أمه في لبنان أو شقيقه في تونس أو شقيقته في سوريا أو أي بلد أوروبي..

مرت سنوات على السهرة العاصفة، وكلما تذكرتها شعرت بقسوتي ضد دحبور، واستهانتي بدوافعه الإنسانية التي تبرر بعض التنازلات السياسة من أجل حق المعذبين في بعض المكاسب..

المؤلم أكثر أني بعد لوم نفسي على القسوة في حق رجل مهذب يعاني، لا أستطيع التسامح مع أسلوب التفريط في الأسس لتحقيق مكاسب معيشية مؤقتة، فأنا ضد من يبيع الاستراتيجية لتحقيق مكسب تكتيكي.. وبتعبير طريف "ضد من يبيع التلفزيون ليشتري ريسيفر أو "ريموت كونترول".

أتذكر هذا الموقف الآن وأنا أتابع مجريات "الحوار السياسي" كأنه "جولة مفاوضات" بشأن الأسرى في حرب ما، حيث تحول مطلب الإفراج عن السجناء إلى "نقطة مقايضة" مع النظام تحت مسمى الحوار. وعلى حد فهمي فإن الحوار "حالة وليس اشتغالة"، بمعنى أنه مفهوم لممارسة الحياة في صراعاتها واتفاقاتها، وليس موسما نستثمر فيه أو نتسوق في الأوكازيون قبل أن ينفض المولد.

وهذا الفهم يعني السؤال عن مؤشرات الحوار في المنابع التي يأتي منها المتحاورون: مثلا مثلا.. هل مؤسسات الدولة التي دعت إلى الحوار تؤمن بمبدأ الحوار، وتمارسه فيما بينها حتى نصدق دعوتها للحوار مع مخالفيها؟.. يعني هل أسلوب الحوار معمول به في عملية اتخاذ القرار السياسي؟ وهل يمارس المجلس النيابي بغرفتيه الحوار بشكل صحيح؟ وهل يعتمد الإعلام على أسلوب الحوار في برامجه بحيث يتم استحضار وجهتي النظر على الشاشة في أي خلاف سياسي أو اقتصادي؟ وما فائدة أن نناقش لوائح ومكتسبات نقابية وفئوية، بينما الدستور معطل وهناك تجاهل سافر لمبادئه المتعلقة بالحريات وضمان تداول السلطة بالأساليب القانونية والسلمية؟

وتمتد الأسئلة إلى المشاركين في الحوار من خارج الدولة: هل الدعوة مفتوحة أم أن الدعوة مشروطة بتعهدات أو ضمانات مسبقة؟ أو بتعبيراتي التي تغضب الأسياد: هل نحن مطالبون بالمشاركة في "حوار باستمارة"؟
أنا لا أسعى لتقويض فرصة الحوار، بالعكس أكتب ملاحظاتي وتساؤلاتي لدعم المبدأ وعدم تشويهه وعدم تفريغه من معناه الإنساني والسياسي الصالح، ليتحول في النهاية إلى "سبوبة للمنتفعين"

على كل حال، أنا لا أسعى لتقويض فرصة الحوار، بالعكس أكتب ملاحظاتي وتساؤلاتي لدعم المبدأ وعدم تشويهه وعدم تفريغه من معناه الإنساني والسياسي الصالح، ليتحول في النهاية إلى "سبوبة للمنتفعين"، كما تحول أشقاءه الكبار من أمثال تمرد وجبهة الإنقاذ وأنبوبة البوتجاز!

وقبل أن أنهي هذا المدخل أعود إلى سيرة الراحل العزيز أحمد دحبور، لأحكي حكاية مرتبطة بقصيدة له، عنوانها "انتبهوا جيدا"، غناها مطرب سوري، اشتهر بأغنياته الثورية في أوساط الطلبة بجامعة دمشق أيام حافظ الأسد. والقصيدة تقول:

"انتبهوا جيداً/ انتبهي جيداً أيتها الثعالب/ انتبهي جيداً أيتها التماسيح/ وانتبهوا جيداً أيها الموتى/ لقد بتنا نتذكر الحرية كثيراً في هذه الأيام/ وحين يتذكر الناس الحرية/ فهذا يعني أن شيئاً خطيراً يحدث في العالم/ حين يتحدث عاشقان عن الحرية/ فهذا يعني أن كارثةً توشك أن تلتهب قلب الأرض/ وأما حين يتهامس القلب بالحرية/ فهذا يعني أن طاغيةً لا بد أن يموت/ آمين".

المؤسف أننا ظللنا نتذكر الحرية كثيراً، لكن الطغاة لا يموتون، بل مات دحبور وهاجر المغني الثوري (اسمه فهد يكن) بعد أن اعتزل الثورة والغناء، واكتفى بالعمل كمهندس منسي في إحدى البلاد النفطية التي ساهمت بشدة في تدمير بلاده، وللقصة تفريعات موجعة كثيرة عن الحرية التي تشبه العفاريت.. يتحدث عنها كثيرون برغم أنها غير موجودة في الواقع، فقط في قصور الرعب وقصص التخويف.

مدخل (5): هوبليس كيس

تخيل أنك طبيب، وتخيل أنك تعالج مريضاً ميئوسا من شفائه (هوبليس كيس)، هل تهمله؟ أو تقنعه بإنهاء حياته.. انتحاراً أو بالقتل الرحيم؟

لو فعلت ذلك فأنت لا تقتل المريض كشخص، بل تقتل فكرة الأمل في تطور الطب والتوصل إلى علاج جديد لأمراض لا نعرف لها أدوية اليوم..

لا أتذكر اسم المفكر السياسي الذي كتب عن هذا المثال ليقول: مهما كانت المشاكل عويصة في مجال السياسة والاقتصاد، فإننا لا يجب أن "نعدم الأمل في الحلول"، بل لا بد ان نندفع للبحث عن الحلول في كل اتجاه، لكن هذا الاندفاع يجب أن يحتمي بالعلم ويتخلص من الدجل والخداع. وهذه المحاولات تشبه محاولات الطبيب للتمسك بعلاج ميئوس من شفائه حتى يصل الطب لدواء جديد، حينها فإن الدواء لن ينفع مريضا واحدا دفعنا للبحث عن العلاج، لكنه يخدم الإنسانية كلها..

هذا الفهم يصالح بين الأغراض الخاصة من الحوار كالإفراج عن سجناء متعينيين نعرف أسماءهم وظروفهم ونقدم بها توصيات، وبين الغرض العام المتمثل في ضمانات تفعيل الدستور ليتحقق قدر أكبر من العدالة ومن ضمانات الحرية التي أدى نقصانها إلى الزج بالأحرار في السجون، ثم التفاوض للعفو عنهم، ليبقى دخولهم وخروجهم "استثناء" يجسد السير خارج مسار القوانين المدونة..
أي حوار يتغافل عما كان، لا يمكن أن يؤسس لما نطمح أن يكون.. أي حوار لا يبدأ من الاعتراف بالأخطاء والخطايا لن يؤدي إلى جديد جيد.. أي حوار لا يناقش أسباب الخصام والخذلان والشقاق لن يفضي إلى سلام ولا مصالحة ولا اتفاق.. أي حوار مشروط ومغلق ومقيد ببطاقات دعوة هو "حفلة على الخازوق"،

مخرج (1): مسار إجباري

بدأت المقال بعنوان مستوحى من فيلسوف العدم إميل سيوران، وأختتمه بعبارة لنفس الكاتب التعيس يقول فيها: "الشر خلفنا وليس أمامنا"، والمقصود أن المشكلة التي نحشد الناس للحوار فيها، ليست مشكلة خوف من المستقبل، أو كما يروج المخادعون بسبب تداعيات الحرب الأوكرانية أو مجاعات كونية قادمة، لكنها بسبب مشكلة في الماضي تجعل مستقبلنا مهددا وتعيسا، وبالتالي فإن أي حديث عن حوار وحلول يجب أن يهتم بما حدث في الماضي، لكي لا نحمل شروره معنا إلى المستقبل.

والمنطق البسيط يقول إن أي حوار يتغافل عما كان، لا يمكن أن يؤسس لما نطمح أن يكون.. أي حوار لا يبدأ من الاعتراف بالأخطاء والخطايا لن يؤدي إلى جديد جيد.. أي حوار لا يناقش أسباب الخصام والخذلان والشقاق لن يفضي إلى سلام ولا مصالحة ولا اتفاق.. أي حوار مشروط ومغلق ومقيد ببطاقات دعوة هو "حفلة على الخازوق"، ومن يرغب في التعرف على برنامج الحفلة يكتب العنوان في خانة البحث ويقرأ ملخص المسرحية السياسية التي كتبها محفوظ عبد الرحمن عن السلطة والفساد والظلم والتلفيق وحبس الأبرياء.

وللحوار بقية..

(* كالعادة.. هذا المقال ممنوع من النشر في جمهورية الحوار).

tamahi@hotmail.com