أفكَار

الفرنسية في الجزائر.. تراجعت اللغة وبقيت عُقدتها

العقدة اللغوية في الجزائر: لا شِفاء في الأفق
منذ الاستقلال وإلى سنوات قليلة مضت، كانت الإشكالية اللغوية في الجزائر ثنائية في شكل صراع بين العربية والفرنسية. منذ حتى ما قبل الاستقلال كان التعايش بين اللغتين شبه مستحيل لأن العقدة أكثر من مجرد لغة. مع بداية العقد الماضي، وبحكم انتشار الإنترنت والانفتاح الجزائري على العالم وأسباب موضوعية أخرى، تسللت الإنجليزية شيئا فشيئا إلى حياة الجزائريين لتضيف ضلعا آخر إلى إشكالية اللغة فتصبح ثلاثية الأبعاد.

لكن النقاش الأكبر يبقى دائما مدفوعا بالفرنسية ويدور حولها.

من الصعب أن يحكم المرء اليوم بموضوعية على حال اللغة الفرنسية في الجزائر بعد أكثر من 60 عاما من الاستقلال. يستطيع خصومها أن يزعموا أنها في تراجع ويبتهجوا. ويستطيع أنصارها أن يؤمنوا بأنها بخير ويفرحوا. الذين يعتقدون بأنها تراجعت وفي طريق الاختفاء غير مخطئين على طول الخط. والذين يعتقدون أنها بخير ليسوا مخطئين تماما أيضا.

لأن الفرنسية حالة ثقافية واقتصادية، لا مجرد لغة، كما ورد آنفا، فهي تتوارث بين الناس مثل الأموال والأملاك.
الفرنسية في الجزائر ليست، ولم تكن يوما، مجرد لغة يحبها بعض الناس مثلما يحبون الإيطالية أو الألمانية أو أيّ لغة أخرى. الذين يدافعون عنها لديهم أسبابهم الوجدانية العميقة، والذين يرفضونها لديهم مسوغاتهم الكثيرة كذلك. هي أكبر بكثير من مجرد لغة. إنها حالة نفسية ثقافية اجتماعية اقتصادية. هي كل هذا في آن واحد. في الجزائر فقط (وربما بعض المستعمرات الفرنسية السابقة في إفريقيا) هناك فرق بين أن تعرف الفرنسية وأن تكون مفرنسا. الفرنسية وحدها باب لكنها لا تكفي لمنحك مكانة اجتماعية. أنت بحاجة إلى حقيبة معبَّأة بموروث ثقافي ونفسي ونمط حياة.

لذا شكّلت دائما مفتاحا في يد من يتقنها، ليس من باب أنه صاحب علم واطلاع ويتقن لغة إضافية، ولكن من حيث أنه صاحب حظ في الحياة أتاح له أن يتعلم الفرنسية فمنحته مكانة مادية ونفسية أفضل في المجتمع. ولهذا أيضا شكّل الجهل بالفرنسية عقدة نقص في  نفوس كثيرين ممن لم يسعفهم الحظ لتعلمها والتشبع بها.

تدرك الحكومات الفرنسية، على اختلاف انتماءاتها، إشكالية اللغة في الجزائر وصراع الجزائريين مع ذواتهم للرسو على لغة واحدة. وتدرك أكثر أهمية سلاح اللغة الفرنسية فيها كبوابة لعقول الأفراد ولاقتصادات المؤسسات والإدارات وخزائنها. لهذا تضع فرنسا اللغة في مقدمة خططها الثقافية ومعاركها المعنوية في الجزائر. هذا ما يفسر استثمارها الكبير في "المعهد الثقافي الفرنسي" بالعاصمة وتعزيزه بأربعة ملاحق عبر الوطن (عنابة وقسنطينة في الشرق، وهران وتلمسان في الغرب وملحق تيزي وزو بمنطقة القبائل في وضع متذبذب وفق السفير الفرنسي السابق في الجزائر كزافييه دريانكور) مع خطط لافتتاح ملاحق في مدن أخرى لكنها تعطلت.

هناك على الأقل ثلاثة مستويات من النقاش تساعد على رسم صورة أوضح لإشكالية اللغة في الجزائر وعقدتها الأساسية، الفرنسية: مستوى / سياسي إداري، آخر علمي / أكاديمي وثالث نفسي / اجتماعي. علما أن كل هذه المستويات متداخلة بشكل يجعل من الصعب الفصل بينها.

المستوى السياسي الإداري

ورثت الإدارة الجزائرية اللغة الفرنسية عن فرنسا الاستعمارية، لكنها لم تفعل شيئا يُذكر للتخلص منها. بينما أخذت المدن الإدارة واللغة الفرنسية، كان نصيب الريف اللغة العربية والأعمال الزراعية. لم تكتف الإدارة بالكسل اللغوي، بل تعمَّدت السير في اتجاه يكرّس الفرنسية، في تناقض واضح مع الخطاب السياسي الذي لا يتوقف عن تمجيد العربية والحث على تطبيقها (من بن بلة والهواري بومدين إلى كل من جاؤوا بعدهما!).

استعملت السلطات الجزائرية المتعاقبة الفرنسية، كلغة وتركة ثقافية، أداةً في صراعاتها الداخلية ومع المجتمع والأوساط الجامعية والنقابية. كثير من الصراعات النقابية والطلابية في الجامعات خلال سبعينيات القرن الماضي (بعضها تخلله عنف دموي) أخذت طابعا عقائديا ولغويا بين معرّبين ومفرنسين. تصنيف الطلاب بعضهم لبعض على أساس اللغة معزوفة أزلية تسمعها منذ اليوم الأول من حياتك الجامعية إلى أن تتخرّج، وهذا بدل أن يقارع الطلاب ونقاباتهم السلطات التي تنتهك حقوقهم. كذلك استعملت السلطة الجزائرية، أو عصب منها، دائما الفرنسية سلاحا في إدارة خلافاتها مع فرنسا.

في كل الحالات كانت المدرسة الجزائرية هي المختبر والتلاميذ من أبناء عامة الناس فئران التجارب.. مرة منع المعاملات الإدارية باللغة الفرنسية بلا مقدمات وأخرى إعادة الفرنسية في آجال ضيقة وسريعة. مرة نعم للتعريب، مرة أخرى لا للتعريب. ولأن الأمر كان مجرد مزايدات ومناكفة بين العصب الحاكمة من جهة، ولفرنسا من جهة أخرى، وبعيدا عن أيّ مصلحة للتلاميذ، لم تفكّر السلطات الجزائرية في أن الفرنسية يمكن أن تتعايش مع التعريب، وأن أحدهما لن يضرّ بالضرورة بالآخر. كان ديدن السلطات الجزائرية دائما يا هذا يا ذاك. وفي نهاية المطاف انتهينا بلا هذا وبلا ذاك! اليوم لا يستطيع طالب جزائري القول بثقة، كما في السابق، أنه معرب التكوين أو مفرنس لأنه في الغالب لا معرب ولا مفرنس. أما بالنسبة لأبناء مسؤولي الدولة والأثرياء فالأمر محسوم: هم واثقون من أنهم مفرنسيون شكلا وروحا.

ورثت الإدارة الجزائرية اللغة الفرنسية عن فرنسا الاستعمارية، لكنها لم تفعل شيئا يُذكر للتخلص منها. بينما أخذت المدن الإدارة واللغة الفرنسية، كان نصيب الريف اللغة العربية والأعمال الزراعية.
قبل نحو عام ونصف العام قررت السلطات البدء باستعمال الإنجليزية بدل الفرنسية في الجامعات وفضاءات البحث العلمي، وتعليمها أيضا في الطور الابتدائي بحجة أنها لغة العلم والعالم. حقٌّ أُريد به باطل! يدرك الجزائريون أن القرار لم يكن حرصا على مصلحة التلاميذ وحبًّا في لغة شكسبير بقدر ما كان نكاية في فرنسا على خلفية فصل من فصول الخلافات المزمنة مع باريس. في الأطوار الابتدائية تعثر الأمر ولم يبدأ بعد بالجدية المطلوبة. وفي المستويات الأعلى وخصوصا الجامعات، بُدئ تنفيذ القرار من دون تحضير كافٍ ووسط ارتباك كبير ترتبت عنه طُرفٌ ونكات حول الترجمة إلى الإنجليزية وصياغة النصوص تندَّر بها الجزائريون كثيرا.

ساد منذ عقود بين النخب الجزائرية أن الفرنسية غنيمة حرب من الخطأ التفريط فيها. هذا الكلام هو نصف الحقيقة، نصفها الآخر أن غنائم الحرب لا تُستعمل سلاحا ضد الموروث الثقافي واللغوي لشعب ما. الفرنسية استُعملت، ولا تزال، رغما عن الجزائريين، وغمرتهم زمنا طويلا جعلهم لا يرون لغة أخرى غيرها. رُفعت أكثر مما يجب وعلى حساب العربية والأمازيغية.

خطورة اللغة الفرنسية كسلاح سياسي وإداري تبدو لي الأكبر. فتفوُّقها في هذا المسرح يُسهِّل على أصحابها المهمة في المسارح الأخرى. القرار السياسي هو المدخل لأنه يُبقي الفرنسية فوق سطح الماء ويحول دون غرقها. كما يؤخِّر تقدم اللغات الأخرى وانتشارها، وبالذات العربية كما فعل في 1991 مع قانون تعميم استعمال اللغة العربية الذي صادق عليه البرلمان ومرَّ على كل المراحل المطلوبة، إلا آخرها: التطبيق.

في الجزائر لوبي فرنكوفوني فرنكوفيلي قوي. لكن يقابله آخر عروبي لا يقل قوة. ينتشر الأول في الإدارة والاقتصاد والأعمال وفي دوائر القرار العليا. وينتشر الثاني في قطاعي التعليم والقضاء وفي المستويات الدنيا من الإدارة. أؤمن بأن لوبي العربية لم يخسر المعركة كما يُشاع، وبأن لوبي الفرنسية لم يكسبها في المقابل. الأمر سجال ومراحل تدور فيها الأيام. هذا ما يفسِّر أن اللغة الفرنسية تراجعت من دون أن تنتصر العربية. بقاء العربية، ومن ورائه إدخال الإنجليزية، يعود في جزء هام منه لجهود المعسكر الذي يدافع عنها، من حيث يدري أو لا يدري. والكلام ذاته ينسحب عن دور اللوبي الفرنكوفوني في بقاء الفرنسية على الرغم من تراجعها. الإشكال هنا أننا أصبحنا أمام بلد لا لغة، وإنْ كان دستوره ينص في مادتيه الثالثة والرابعة على أن العربية لغة وطنية ورسمية ومعها الأمازيغية.

وزير المجاهدين في حكومة سيد أحمد غزالي (1991 ـ 1992) كان اسمه إبراهيم شيبوط. كثيرا ما ادّعى بأنه مجاهد من الرعيل الأول في مسقط رأسه، ولاية سكيكدة بالشمال القسنطيني. قبل الوزارة كان شيبوط عضوا في البرلمان، وكان زملاؤه ينادونه "جاك شيبوط" تندرا بتعلقه باللغة والثقافة الفرنسيتين. كان يسخر منا نحن الصحافيون المعربون ويخاطبنا بـ"انتوما ياللي قريتو عند المصريين" (أنتم يا من تعلمتم عند المصريين).

هل بعد هذا نستغرب التنكيل الذي لحق باللغة العربية من سلطة بين ثناياها وزير بهذه الذهنية؟

الوزير شيبوط وأمثاله في الأوساط السياسية والثقافية هم الذين ساهموا في إبداع وترويج مصطلح "إسلامي / بعثي" ISLAMOBAATHISTE لوصف مَن يدافع عن اللغة العربية، وكرَّسوا فكرة أن المعرَّبين فاشلون والمفرنسين أكثر كفاءة. بينما الحق يتطلب القول إن المفرنسين أوفر حظا وحظوة والمعرَّبين ضحية لكل أنواع الظلم.

على مستوى مقررات التعليم

أقصد بهذا المستوى حال اللغة الفرنسية في المدارس ومؤسسات التعليم الحكومي والخاص وفي كل أطوار التعليم. في هذا السياق لا يختلف عاقلان على أن الفرنسية في تراجع ومساحتها تضيق رغم حضورها في المقررات المدرسية منذ مراحل مبكرة.

تبدأ المدارس الرسمية الجزائرية تعليم الفرنسية في السنة الثالثة من الطور الابتدائي (العام الثامن من عمر الطفل)، ورغم ذلك يبدو التحصيل أقرب إلى رديء إذ يكمل التلاميذ الطور الابتدائي بالحد الأدنى من إتقان اللغة الفرنسية. لا توجد دراسات علمية موثوقة واستطلاعات رأي دقيقة في هذا السياق، لكن أيّ جزائري يستطيع أن يلمس ذلك يوميا في أبنائه وأبناء أقاربه وجيرانه وحتى في الشارع. اسأل أيّ تلميذ عابر عن أبسط أمر بالفرنسية فتكتشف فورا حجم أميّته.

ولا غرابة اليوم أن الأغلبية من خريجي الجامعة الجزائرية لا يستطيعون كتابة فقرة من ثلاثة أسطر بفرنسية نقية خالية من الأخطاء. ويعجز أفضلهم عن الحديث ثلاث دقائق متواصلة بفرنسية سليمة. هذا ليس ذنبهم، فهم يتعلمون باللغة العربية ويتلقون الفرنسية كلغة أجنبية، وعندما يصلون إلى المراحل الجامعية يجدون كل التخصصات العلمية والتقنية بالفرنسية، فتبدأ رحلتهم مع الصراع بالفشل.

ورغم حديث السلطات عن التعليم بالإنجليزية في المدارس العلمية بدءا من الموسم الجاري، على الأرجح أن الدفعات الأولى من المتخرجين ستكون لا مفرنسة ولا "مؤنجلزة" (من الإنجليزية) تماما مثلما ينهي التلميذ أطوار الابتدائي والثانوي لا معرّبا ولا مفرنسا.

 يجب القول إن الضرر الذي لحق بالفرنسية في أطوار التعليم، لم يستهدفها منفصلة، وإنما هو جزء من ضرر معنوي أكبر طال المجتمع الجزائري كله.

هذا الواقع هو ثمرة تراكم احتاج إلى سنوات حتى أصبح كل جيل أسوأ (في معرفة الفرنسية وغيرها من بقية المقررات) من الذي سبقه. ويعود أيضا إلى أسباب موضوعية منها، على الصعيد العام، تراجع التعليم كقيمة معنوية جميلة في المجتمع أمام طغيان المادة والثراء الفاحش، وانهيار المنظومة التربوية وخراب المدارس كبنايات وكرموز أخلاقية. أما على صعيد أضيَق فهناك عوامل ضعف البرامج، وإلمام المعلمين والأساتذة باللغة الفرنسية في حدها الأدنى وبشكل لا يتيح لهم نقلها لغيرهم. وهناك حقيقة أن أجيالا كاملة من المعلمين هم ذاتهم خريجو (ضحايا) منظومة تعليمية منكوبة، وضحايا نظرة المجتمع الدونية لهم وسخريته من فقرهم وبساطة حالهم.

المستوى النفسي الاجتماعي

رغم كل ما يقال عن فرنسا الاستعمارية في وسائل الإعلام والمقررات الدراسية وفي الحياة العامة بالجزائر، تشعر كأنما هناك قوة خفية تجعل أغلبية الجزائريين عاجزين عن التحرر من اللغة الفرنسية. كثيرون يشعرون بعقدة عدم إتقانها. لا بأس أن تتلعثم أمام الناس وتخطئ في حديثك بالعربية الفصحى أو الإنجليزية، لا أحد يلومك. لكن ممنوع الخطأ عند استعمال الفرنسية. لم ألمس هذه الظاهرة في غربتي أكثر من ربع قرن. عندما كنت أتعثر في الإنجليزية أمام الإنجليز، كثيرا ما لقيت التشجيع وكلاما من قبيل "لا حرج، فهي ليست لغتك".. "لا تقلق إنجليزيتك جميلة، لا أحد في هذه الحياة يعرف كل شيء وأي شيء".. إلخ.

من الجائز القول إن كثيرا من الجزائريين الذين يُبدون اهتماما باللغة الفرنسية لا يفعلون حبًّا فيها، بل وعيا بأنها فُرضت عليهم كأحد أهم المفاتيح لمستقبل أفضل. بدايةً، قد يُقرأ الأمر على أنه ذكاء يحركه غياب الثقة في السلطات الحاكمة: بينما يدغدغ كبار المسؤولين مشاعر البسطاء من الناس بخطاب الرومانسية القومية وحب الوطن وثورته المظفرة، لا يتأخرون في تعليم أبنائهم الفرنسية ولا يدّخرون جهدا في إرسالهم لتلقي التعليم في فرنسا وتأمين مستقبلهم المادي والوظيفي هناك. يكشف السفير الفرنسي السابق في الجزائر، كزافييه دريانكور، في كتابه "اللغز الجزائري" (2022) أن أحد أكبر مصادر الصداع له مع المسؤولين الجزائريين كسفير، كان موضوع التأشيرات وتسجيل أبنائهم في الثانوية الفرنسية بالجزائر. يضيف أن المنافسة في الثانوية بلغت في مرحلة ما 100 تلميذ مترشح لكل منصب متاح!
رغم كل ما يقال عن فرنسا الاستعمارية في وسائل الإعلام والمقررات الدراسية وفي الحياة العامة بالجزائر، تشعر كأنما هناك قوة خفية تجعل أغلبية الجزائريين عاجزين عن التحرر من اللغة الفرنسية.

حتى الذين لا يغادرون الجزائر من أبناء الطبقة المحظوظة واثقون أن مستقبلهم أفضل وفرصهم في التوظيف أكبر، فقط لأنهم أصحاب ثقافة ولغة فرنسيتين. لا تحتاج إلى شيء آخر لمستقبل زاهر في الجزائر إذا كنت من عائلة متنفذة وحقيبتك اللغوية والثقافية فرنسية.

ولأن الفرنسية حالة ثقافية واقتصادية، لا مجرد لغة، كما ورد آنفا، فهي تتوارث بين الناس مثل الأموال والأملاك. إذا كانت عائلتك متعلمة وباللغة الفرنسية، ستورِّثك الحقيبة الفرنسية (لغة وثقافة ونمط حياة) مثلما تورِّثك قطعة أرض أو عمارة وسيارة، ومن ورائها تورِّثك مكانة اجتماعية وفرصا لحياة أفضل من المعرَّبين والمتعربين.

لهذا سهل أن تلوم الناس، وأسهل أكثر أن تلتمس لهم الأعذار في سعيهم وراء اللغة الفرنسية. ومن السهل كذلك أن تجد تفسيرا موضوعيا لتلك الصور التي صدمت الناس في خريف 2017 وكانت لآلاف الشبان الجزائريين يتدافعون أمام المركز الثقافي الفرنسي في العاصمة الجزائر من أجل امتحانات تتيح لهم الهجرة.

مرة أخرى، لا شيء يثبت أن التدافع كان بالضرورة حبا في فرنسا ولغتها. غالبا كان هربا من واقع اقتصادي واجتماعي وثقافي مُرّ ومظلم، ومن أفُق مسدود نحو فضاء أكثر رحابة. هذا الفضاء تبدو فرنسا الأفضل لتوفيره للجزائريين من غيرها. فرغم انفتاح الجزائريين على أوروبا وأمريكا ودول الخليج العربية، تبقى الهجرة إلى فرنسا أولوية للكثيرين منهم، متعلمون وغير متعلمين، فقط لأنها نظريا أسهل.. أغلب الجزائريين لديهم أقارب أو معارف في فرنسا، يعتقدون أن فرص العيش فيها أسهل لهم، الذين لا يتقنون الفرنسية يفهمونها في الحد الأدنى ويُمنُّون النفس بأنهم سيتعلمونها بسهولة.

إشكالية اللغة في الجزائر تكمن في أنها دائما مشحونة بالعواطف والأحكام السابقة وحتى بالتعصب ومشاعر العداء. لا يخلو الأمر أيضا من غرور وسخرية من السهل أن تلمسهما، إذا كنت صحافيا مُعرَّبا مثلا، في معاملة المسؤولين الحكوميين والسياسيين لك ونظرة زملائك المفرنسين لك. عجيب أنه لم يخطر على بال أحد أن الجزائر تتسع للمعسكرَين، وأن وجود أحدهما لا يتطلب بالضرورة إبادة الآخر!

*كاتب وإعلامي جزائري