أفكَار

جاب الله: لماذا يغفل المصلحون المعاصرون عن سنن الله في الخلق والاجتماع؟

عبد الله جاب الله: ما عليه التيّار الإسلامي هو قلة الاستفادة من التجارب، ولذلك تتكرر الأخطاء وتتعدد
يرى الداعية والسياسي الجزائري عبد الله جاب الله، في رصده لعمل الإسلاميين في العالم العربي، الذي كتبه للنشر المتزامن بين "عربي21" وصفحته الرسمية على موقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك"، أن الغفلة عن سنن الله في الخلق والاجتماع، وعدم الاتعاظ بتجارب السابقين، من عوامل الضعف الذي أصاب حياة المسلمين الدعوية والسياسية.. ويشرح ذلك بالتفصيل كما يلي:

الغفلة عن سنن الله في الخلق والاجتماع:

من المعوقات الداخلية لعمل الحركات الإسلامية، الغفلة عن سنن الله تعالى في الخلق والاجتماع وهي سنن ثابتة لا تتغير ولا تتبدل، فقد جعلها الله تعالى قوانين تحكم الجهود التي تبذل في عمارة الأرض، وفيما يقع بين الناس من صراع وتدافع، وفيما يلحقهم من ابتلاءات بالسراء والضراء، ومن طبيعة هذه السنن أنّها لا تجامل أحدا لتقواه أو علمه، ولو كانت تجامل أحدا لجاملت الرسول عليه الصلاة والسلام ومن معه من الصحابة الكرام رضي الله عنهم في معركة أُحد، ولما أصابهم سوء.

وهذه الغفلة عن السنن هي التي تكون سببا في كل ما يلحق الدعوات والدعاة من مصائب وابتلاءات، ومنها مصائب العجلة، وقلة التدبير، وضعف التخطيط، والغفلة عن مخططات الأعداء، وضعف الجهد المبذول في التعرف على طبيعتهم وطبيعة مخططاتهم، وإهمال الأخذ بالأسباب المادية والأسباب المعنوية في الإعداد للدعوة أو في مباشرتها،  إلى غير ذلك من أنواع الغفلة والتقصير، الشيء الذي يوقع كثيرا منهم في التخبط أو الاستعجال أو اليأس أو الثقة فيمن لا يستحقها، أو ما إلى ذلك من التصرفات التي تشوه الدعوة أو تؤخر انتشارها، أو تقلل من فعاليتها وتأثيرها وتعطل وصولها إلى أهدافها.

قلة الاستفادة من التجارب:

من المعوقات كذلك قلة الاستفادة من التجارب، فلا خلاف بين عقلاء النّاس أنّ الواجب يدعوهم إلى محاولة الاستفادة من التجارب سواء كانت ناجحة أو فاشلة، فالناجحة يستفاد من أسباب نجاحها وعوامل تفوقها، فتقلد في ذلك تقليدا يأخذ بعين الاعتبار طبيعة الظروف المكانية والزمانية، وطبيعة الأحوال والأوضاع التي كانت سائدة يومها وتلك الموجودة في واقع حال الدعوة ورجالها حتى تكون الاستفادة على بيّنة، والتجارب الفاشلة يستفاد من أسباب فشلها سواء كانت مادية أو معنوية حتى يتم تجنبها وعدم الوقوع فيها، وما يقال عن ضرورة الاستفادة من تجارب الآخرين يقال أكثر منه عن ضرورة الاستفادة من الأخطاء التي يقع فيها الدعاة والصواب الذي وفقوا إليه،  فالأولى يتم البحث عن سبب الوقوع فيها من أجل تجنبها في المستقبل،  والثانية يتم معرفة ما قاد إلى الصواب من أجل تثمينه وتنميته باستمرار.

وقد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: "كل بني آدم خطّاء وخير الخطّائين التّوابون" .
وقوله عيه الصلاة والسلام: "لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين".

وما عليه التيّار الإسلامي هو قلة الاستفادة من التجارب، ولذلك تتكرر الأخطاء وتتعدد، حتى صار أمر التيّار يسير إلى الوراء باستمرار، فتمزق شرّ تمزق وفشل وذهبت ريحه.

الغفلة عن مخططات الخصوم والأعداء:

من ذلك أيضا الغفلة عن مخططات خصوم الدعاة وأعداء مشروعهم، وقلة الانتباه إلى أساليبهم ووسائلهم في المكر والخداع، وعن واقع الدعوة وطبيعة الظروف المحيطة بها، ما يجعل أعمالهم التي يقومون بها ومواقفهم التي يتخذونها لا تتأسس على الفهم الصحيح للواقع، ولا تبنى على المعلومات الصحيحة عن أعدائهم، فيقعون بسبب ذلك في الأخطاء وتلحقهم الهزائم.

على العلماء والفقهاء أن يهتموا بالفكر والسياسة؛ إذ لا انفصام بين العلم الشرعي الصحيح والفكر والسياسة الشريفة، وعلى الدعاة أن يهتموا كذلك بدراسة شرعهم الذي يدعون لتطبيقه، ويعملوا من أجل رفع رايته والتمكين له، فلا يعقل أن يجهل الداعية ما يدعو الأمة إليه، ولا قيمة لما يزعمونه فكرا وسياسة إذا كان متعارضا مع أحكام الشرع أصولا وفروعا ومبادئ ومقاصد.
 وفي التأمل في قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ *وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ *فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ * وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ * أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ * فَإِذَا نزلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ * وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ * وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ﴾[الصافات 171-179]. الكثير من العبر والعظات.

فالله تعالى في هذه الآيات بيّن بوضوح أنّ نصره تعالى مضمون لرسله عليهم الصلاة والسلام ولعباده المؤمنين، الذين ارتقوا بأنفسهم وأعمالهم إلى مستوى الجندية المطلوبة، وأنّ من صفات ذلك الإعراض عن العدو إعراضا تكتيكيّا ومؤقتا، في وقت عدم توفر الاستعداد الداخلي للمواجهة، وإعراضا إيجابيّا، وإيجابيته تكمن في الاجتهاد في معرفة العدو معرفة شاملة ودقيقة، تطال أعداده وإمكاناته، وعناصر قوته ونقاط ضعفه، وطرق حربه وكيده، ووسائله في ذلك، إلى غير ذلك من المعلومات التي يتطلبها حسن التدبير وسلامة التخطيط والتحضير للمعركة وحسن إدارتها، حتى يتحقق النصر بإذن الله تعالى .

التأثر بالفكر العلماني:

من المعوقات، شيوع ظاهرة التأثر بالفكر العلماني في الإعجاب بقواعد الديمقراطية والممارسة السياسية دون غربلة ولا تمحيص، وقد تبع ذلك ظاهرة انفصال السلوك عن الإيمان، والعلم عن العمل، والفكر عن التطبيق، وذلك لدى كثير من الدعاة وأتباعهم، مما أوقعهم ضمن دائرة المقت الرباني: ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ﴾[الصف:2-3 ]، وجعلهم في نظر الأمة فئة لا تستحق الثقة والنصرة، فتولت عنهم، وانصرف كثير من أبنائها لغيرهم.

 ولا علاج إلا بالعودة الصحيحة إلى الإسلام علما وفهما والتزاما ودعوة، فالإسلام لا يفرق بين النظرية والتطبيق بل يجمع بينهما، ويشترط في قبول الله تعالى العمل ومباركته وتوفيق أصحابه المتابعة الصحيحة والصادقة لأحكامه، والتوجه الخالص لله تعالى في العمل وسائر الطاعات .

انتشار الأمراض القلبية واللّسانية:

من المعوقات الداخلية، انتشار كثير من الأمراض القلبية واللّسانية بين كثير من الدعاة وأتباعهم؛ كالغيبة والنميمة وسوء الظن، وتسارع الصفات التي لا يحبها الله تعالى إلى بعضهم تحت تأثير حبّ الدنيا وإيثار المصلحة الشخصية،  ومن أسوأ تلك الصفات ما جاء التحذير منه في القرآن مثل: الظلم والفسوق والكذب وشهادة الزور والغيبة والنميمة وسوء الظن والخيانة والغدر والكبر والفخر والتعصب للباطل وغيرها، وما جاء في السنّة مثل الشح المطاع والهوى المتبع والدنيا المؤثرة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه والكبر والعجب وحب الزعامة والجري وراء المسؤولية،  وكل هذه الأمراض والصفات مهلكات، وقد كان لها ولا يزال كبير الأثر فيما حلّ بالتيار الإسلامي من تفرق وضعف، وما حدث بين بعض مكوناته وأفراده من صراع مذموم.

ولا علاج إلا أن يدرك الدعاة أن هذه الأمراض والصفات مهلكات ويوقنوا بذلك، ويعملوا على التخلي عنها ويسارعوا إلى معالجتها، حتى تصفو سرائر أتباعهم ويعودوا إلى التحلي بالإخلاص في العمل والخلق الحسن في المعاملة.

الانفصام الثقافي بين العلماء والساسة:

من المعوقات الداخلية أيضا، بروز ثقافتين لدى العلماء وكثير من الدعاة: ثقافة أصولية فقهية أصيلة لدى العلماء بالشريعة وبعض الدعاة من جهة، وثقافة فكرية سياسية عند معظم الدعاة من جهة أخرى، ثم اتسعت الهوة بينهم مع الزمن، فصار في ساحة العمل الإسلاميّ الواسع صنفان:
- علماء وفقهاء لا يهتمون كثيرا بالفكر والسياسة، فتحول كثير منهم إلى أدوات مسخرة من طرف السلطات لتزكيتها وتزكية ممارساتها!

- ومن جهة أخرى دعاة ومفكرون وساسة لا يهتمون بالفقه والعلوم الشرعية، فغلب عليهم الجهل بدينهم وعمّق ارتماءهم في أحضان الفكر التغريبي، وإخضاع ممارساتهم السياسية لمنطق القوة والمصلحة!

 وقد أحدثت هذه الظاهرة خللا  كبيرا في جسم التيّار الإسلامي، وكانت من أهمّ عوامل انقسامه وتباين مواقف رجاله، وتضارب مفاهيمهم وتصوراتهم وتحاليلهم لواقع الأمة وسبيل النهوض بها، وتضارب مواقفهم من نظام الحكم والقوى السياسية الموجودة في ساحة الأمة،  وكل ذلك زاد في تشويه التيار وحاملي لوائه لدى الأمة، وعمّق يأسها منهم ومن العمل السياسي كله .

 ولا علاج إلا بأن يعود الجميع للعمل بما يأمرهم به الإسلام، فعلى العلماء والفقهاء أن يهتموا بالفكر والسياسة؛ إذ لا انفصام بين العلم الشرعي الصحيح والفكر والسياسة الشريفة،  وعلى الدعاة أن يهتموا كذلك بدراسة شرعهم الذي يدعون لتطبيقه، ويعملوا من أجل رفع رايته والتمكين له، فلا يعقل أن يجهل الداعية ما يدعو الأمة إليه، ولا قيمة لما يزعمونه فكرا وسياسة إذا كان متعارضا مع أحكام الشرع أصولا وفروعا ومبادئ ومقاصد.