أفكَار

هل تستقل الحرية عن المرجعية؟ قراءة في تجربة التأسيس الغربية (2من2)

حين كان روسو وهوبز ينظران للحرية، كان همهما منصرفا بدرجة أولى إلى إيجاد صيغة للتوافق المجتمعي على ممارسة الحقوق السياسية والمدنية.. الأناضول
الحرية بين مناط الآدمية، ومناط التمييز، ومناط الانتظام المجتمعي

يثار في الغرب نقاش كبير بخصوص حماية الناشئة أو حماية القاصرين، والتوجيه الفكري لهذا النقاش، أن هؤلاء، لم يكتمل تمييزهم، ولم يبلغوا سن الرشد، فكان الأولى عدم الزج بهم في ممارسة حريات، يفترض أنها مبنية على مبدأ الاختيار الحر، الذي لا يتأتى إلا للراشدين.

وبغض النظر عن الجدل المثار حول شكل حماتيهم، والارتباك في السياسات الثقافية والإعلامية والإشهارية، التي تسقط هذه الحماية وتجعلها مجرد ضحكة، فإن النظر الفلسفي في هذه القضية يستدعي التوقف عند مناط الحرية، وهل هو الآدمية، أم التمييز والرشد، أم الانتظام في المجتمع؟

فإذا كان هوبز وروسو أصلا لمناط الآدمية، عندما ربطا بين الحقوق الفطرية وبين وجود الأفراد (الأفراد يولدون أحرار)، فإن تعدد الحريات، واختلاف مستوياتها، استدعى التفكير في مناطات أخرى، غير مناط الآدمية، فالمعاملات المالية، على سبيل المثال، تشترط في كل التشريعات منع القاصرين من حرية التصرف وتقييدها بإجازة الوصي، ومنع إجراء مختلف البيوع والعقود التبرعية إلى سن الرشد، والتعليل في ذلك، أن هذه التصرفات، تتأسس على النظر لمصالح الأفراد، والقاصر،  لا يملك هذا النظر، وهو معرض بدون شك لهضم حقوقه من قبل الراشدين، الذين راكموا خبرة في إبرام مثل هذه العقود وإمضاء هذه التصرفات.

وبناء عليه، فالأصل في الحريات الفطرية أنها تتأسس على مناط ألآدمية كلها، ولئن من هذه الحريات ما يتطلب النظر إلى مصالح الأفراد ورعايتها، فقد استدعى ذلك إضافة مناط الرشد، حتى يتم حماية والقاصرين من هضم حقوقهم أو توريطهم في مسارات، ربما لا يقرونها إذا بلغوا سن الرشد.

لا يثار الجدل حول مناط الرشد كثيرا عندما يتعلق الأمر بالحقوق المالية، فهذا مما أطره القانون، وحد حدوده وضوابطه بشكل صارم ومتشدد، لكن المشكلة تثار في الغرب حينما يتعلق الأمر بممارسات اختيارات أخلاقية، أقر القانون جوازها بالنسبة إلى الراشدين، وأناطها بمناط الرشد، وذلك مثل إقامة العلاقات الجنسية، أو تعاطي جزء من المخدرات المسموح به قانونا.

يتدخل القانون بشدة، فيحدد المسؤوليات، ويحمل الآباء مسؤولية حماية القاصرين، ويقرر عقوبات زجرية على كل من تعدى حدوده، وحرض قاصرا على ممارسة مثل هذه الحريات التي تتطلب الرشد.

 هذا الضابط يطرح تساؤلا مهما يتعلق بنوع الحماية، وهل تتعلق بمجرد عملية بيداغوجية، تقنع بضرورة تأجيل ممارسة هذه الحريات إلى حين الرشد، أم يدخل ضمن هذه العملية البيداغوجية المناطة بالآباء، مضمون ديني أخلاقي ثقافي، يقيم هذه الحريات، ويصنع مزاج القاصر بإزائها خاصة إذا افترضنا واقع المجتمعات الأوربية، وأن تيارا محافظا لا يزال يخترقها، وينظر إلى هذه الحريات على أساس أنها تدمر الأسرة وتقتضي على الترابط المجتمعي.

واضح من إناطة القانون حماية القاصرين بالآباء، الإقرار الضمني بالعودة إلى المرجعية التي يتم الاستناد إليها في عملية التنشئة التربوية، فالقانون، يقدم استقالته من هذا المجال، ويدفع هذه المهمة للأسرة التي تقوم بها من منطلق انتظامها في مرجعية خاصة، سواء كانت دينية محافظة أم حداثية ديمقراطية.

وفي الحالتين معا، نثبت أن الحرية في التحديد الغربي نفسه ليست قيمة مطلقة في ذاتها، وأنها لا تستقل عن المرجعية، وذلك في كل مستويات إقرارها وشكل ممارستها.

الحريات الفردية وتحولات القانون

حين كان روسو وهوبز ينظران للحرية، كان همهما منصرفا بدرجة أولى إلى إيجاد صيغة للتوافق المجتمعي على ممارسة الحقوق السياسية والمدنية، ولذلك، تم التركيز بكثافة في أدبياتهما على ضرورة الإبقاء على الحريات الفردية بعيدا عن دائرة التنازل، وكان القصد من ذلك، حفز الناس على الانخراط في العقد الاجتماعي للتأسيس لسلطة زمنية ديمقراطية، وفي الآن، ذاته محاولة الإقناع بأن سلطة القانون، لن تمس هذه الحريات التي تشكل جزءا من هوية الإنسان.

لكن ممارسة هذه الحريات وما أفضى إليه من مفاسد أضرت باستقرار المجتمع، دفع بشكل تدريجي إلى تدخل القانون إلى هذا الفضاء الخاص. عند التأسيس للسلطة الزمنية الديمقراطية، كانت حرية إقامة العلاقات الجنسية مقيدة بضابط واحد هو تواطؤ الراشدين، مما يعني تدخل القانون، لردع جريمة الاغتصاب، لكن، مجال تدخل القانون، سيتسع أكثر مع ظهور مفاسد ممارسة الحريات على إطلاقها، يتعلق بالإنجاب، وعدم تحمل المسؤولية في الرعاية، فأصبح القانون، يتدخل لحل الإشكالات، إما عبر إقامة مؤسسات اجتماعية جديدة (الأم العازبة) أو تبني سياسات صحية تنبه على أهمية الممارسة الجنسية الآمنة، أو عبر الإعلان عن محدودية قدرته على التدخل والإحالة مرة أخرى على دور الأسرة والمدرسة في التثقيف والتربية الجنسية.

الحرية كقيمة ستبقى تفتقد إلى مرجعية تقرها وتضبط شكل ممارستها سواء كانت دينا أو قانونا، وأن أي تصور يحاول أن يصور الحريات على أساس أنها فطرية وذاتية، لا يملك أحد الاقتراب من دائرتها والحد منها، هو تصور لا يفهم دلالات تمدد القانون في المجال الخاص، وتحولاته المستمرة، وحاجة المجتمع الاستراتيجية إلى تكييف الحرية وتوجيهها بالشكل الذي يخدم المجتمع وبقاءه واستقراره واستدامته.
في الولايات المتحدة الأمريكية، وبعد أن أثبتت الدراسات أن نسبة مهمة من الجرائم يتسبب فيها أحداث من أمهات عازبات، يفتقدون الرعاية الأبوية، توسع مجال تدخل القانون، فتم سن قانون الأبوة المسؤولة سنة 1995، والذي أضحت الدولة بموجبه مسؤولة عن تقديم دعم مالي مهم، لفائدة الرجال الذين يتطوعون للزواج بالأمهات العازبات، ويتعهدون برعاية أبنائهن.

على أن الأمر لا يتعلق فقط بتمدد سلطة القانون لتأطير حرية إقامة الحريات الجنسية، وإنما يشمل أيضا مجال حرية المعتقد، إذ تدخل القانون، ليجعل من العداء للسامية جريمة، وليتم تكييف جملة من الممارسات التي تدخل عادة في إطار البحث التاريخي، على أنها عداء للسامية وكراهية لها. ويجري الآن، نقاش في عدد من الدول الأوربية، حول منع الإساءة إلى الأديان والرموز الدينية، وذلك على خلفية الآثار الاقتصادية التي تتحملها بعض الدول التي تحمي هذه الحرية بشكل متطرف (مثل السويد) من جراء مقاطعة منتوجاتها من طرف الدول المستهدفة في عقائدها ورموزها الدينية.

وثمة مثال آخر، يتعلق بحرية الأفراد في بناء الأسرة، فقد تدخل القانون لإحداث نوع من التحفيزات للزواج، بل وإقرار قوانين تشجع على زواج الأجانب من المواطنات الأوربيات، سواء تعلقت بتأشيرات الإقامة أو قوانين الشغل، أو الحماية الاجتماعية، وذلك لمواجهة معضلة الخصوبة وتحديات شيخوخة الهرم السكاني.  وقد أثارت بعض هذه القوانين، جدلا حقوقيا، يتعلق بالأفضلية الوطنية، والأولوية في استحقاق فرص الشغل، بل أثارت مشكلات أخرى عنصرية تتعلق بالموقف من الهجرة والمهاجرين.

وفي المحصلة، ثمة مؤشرات عدة، تبين بأن العلاقة بين القانون والحريات الفردية آخذة في التغير، وأن التحولات التي تجري على مستوى إعطاء مجال أكبر لتدخل القانون، توحي بأن ممارسة الحريات الفردية، لا يختلف عن ممارسة بقية الحريات، وأن الأنانيات التي تحكمه، تدفع المجتمع الغربي إلى تبرير تدخل القانون لعقلنة هذه الحريات وترشيدها، حتى ينتهي المسار إلى التسوية تماما بين وضع الحريات الفردية والحريات المدنية والسياسية من جهة تدخل القانون في الحد منها لاعتبارات تخص المصالح الاستراتيجية للمجتمع.

خاتمة:

تقود هذه التأملات لاستخلاص خلاصة مهمة، وهي أن الحرية كقيمة ستبقى تفتقد إلى مرجعية تقرها وتضبط شكل ممارستها سواء كانت دينا أو قانونا، وأن أي تصور يحاول أن يصور الحريات على أساس أنها فطرية وذاتية، لا يملك أحد الاقتراب من دائرتها والحد منها، هو تصور لا يفهم دلالات تمدد القانون في المجال الخاص، وتحولاته المستمرة، وحاجة المجتمع الاستراتيجية إلى تكييف الحرية وتوجيهها بالشكل الذي يخدم المجتمع وبقاءه واستقراره واستدامته.

كما يسمح هذا النقاش باستنتاج خلاصة أخرة مهمة، فقد أثبتت الوقائع المتعلقة بمناقشة القوانين التي تحد من الحريات، أن المجتمعات، التي تؤطر ابتداء الحريات الفردية بضوابط أخلاقية ودينية، تخدم المصالح الاستراتيجية للمجتمع، ستكون مصدر إلهام في العقود القليلة القادمة، وأن المجتمعات التي تعلي من شأن الحريات الفردية وتحميها وتبعد القانون من التدخل فيها، ستكون عاجزة عن مواجهة التحديات القائمة، وستضطرها  الهزات إلى تسويغ تدخل القانون في الحد من هذه الحريات وتكييفها بما يؤمن استقرار المجتمع واستدامة الدولة.

اقرأ أيضا: هل تستقل الحرية عن المرجعية؟ قراءة في تجربة التأسيس الغربية (1 من 2)