الذاكرة السياسية

الحركة البربرية في الجزائر.. الجذور التاريخية والمواقف السياسية.. شهادات

كان أول من دق جرس الإنذار حول تشكل نواة هذه الحركة هو أحمد بودة عضو اللجنة المركزية لحزب الشعب في ديسمبر 1948.. الأناضول
إذا كان الزمان غير الزمان، فالإنسان هو الإنسان وفريضة الدفاع عن النفس والأرض والعرض، لا تسقط عنه إلى  يوم  الدين، وسنة التدافع بين الناس والحضارات والقيم تجعل دوام الحال من المحال، ولو دامت  للأولين لما دانت للآخرين!؟ وأن الكيل بمكيالين في حقوق الإنسان من القائمين على مجلس الأمن المخيف، هو سبب كل الخلل في المعايير والموازين وهذا الدمار المبين.

وفي تاريخ الحروب والثورات التحريرية العظمى دروس للمعتبرين، وأن الذكرى قد تنفع حتى البغاة  والعصاة والطغاة فضلا عن المؤمنين!!

وبمناسبة إحياء الجزائر للذكرى  التاسعة والستين لثورة القرن العشرين، دون منازع في الفاتح  من  تشرين  الثاني (نوفمبر 1954)، وربطا بما تصادفه إحياء هذه الذكرى من أحداث جسام جارية في الساحة والساعة الدولية، عرفنا إرهاصات بدايتها ولا نعرف نهايتها بعد، نود أن نذكر المعتبرين بدروس التاريخ الحي الذي عشناه في هذه الثورة لحما ودما وجهادا و"استشهادا"، لما يزيد عن السبع سنين مماثلة  لما يراه العالم  على  المباشر يوميا من أهوال الحرب غير المتكافئة بين الحق والباطل، في معركة الأحزاب الثانية في فلسطين الحالية، والتاريخ بيننا يبقى دائما الشاهد الأمين على المحسنين والمسيئين، والظلمة والمجرمين، وأصحاب الحق والمغتصب الذي لا يسترجع إلا غلابا وافتكاكا باليمين، وتلك هي سنة الله في الأولين  والآخرين.

تأتي ذكرى هذا العام مشحونة بكثير من الآلام المبرحة والآمال العريضة في الوقت ذاته، وهي تصادف قمة الثورة الجهادية الوريثة الشرعية لها في معركة الأقصى بشقيقتها الصغرى فلسطين.

لقد عايشت تلك  الثورة الجهادية كابن شهيد ومجاهد في صفوف جيش تحريرها حتى توقيف القتال وتقرير المصير والاستقلال، وكنت شاهدا على كثير من مجرياتها المفرحة والمقرحة بورودها وأشواكها؛ بأفراحها بانتصاراتها وأقراحها بالإحباطات والتقلبات والخيانات التي اعترضت مسيرتها الطويلة إلى النصر المبين!

ومن مميزاتها، أن يوم انتصارها وتحقيق الاستقلال سنة 1962 كان هو يوم ذكرى الغزو والاحتلال سنة 1830، مما يعني أن كل استقلال قد يحمل بذور احتلال، كما أن كل احتلال يحمل بذور استقلال، إذا بقي عزم الرجال كما كان واقع الحال.

وإدراكا مني بما للثورة الجزائية من أوجه شبه وتطابق أحيانا مع ما يجري في فلسطين هذه الأيام، إلى درجة التوأمة (السيام) بين الثورتين، وخاصة من جهة  نوعية  الاستيطان وفصيلة المستوطنين أنفسهم  خلفا عن سلف. والدليل على ذلك، هي آلاف القوافل من شهداء  المغرب العربي الكبير، المدفونين  في القدس الشريف على مر التاريخ الإسلامي للأمة، عندما كانت أمة حرة حتى  تحت الاحتلال الأجنبي  الخارجي (الأرحم  مع  الأسف  من  الاستحلال الداخلي  الراهن!!!!)، حيث ذهب أكثر من 4000  مجاهد سنة 1948 ودخلوا  من أرض الكنانة سابقا  لنجدة الأشقاء في الأرض المباركة، التي لم تتغير في وجدان كل مسلم من المحكومين لاحقا في أمة المليارين من أصحاب العين البصيرة واليد القصيرة، على امتداد سماع الآذان وتلاوة القرآن من جاكارتا  إلى داكار ونواكشوط والرباط وتطوان، مرورا بقسنطينة ووهران!؟!

وإني لهذا السبب وغيره، أعيد نشر بعض فصول كتابي (جهاد الجزائر: حقائق التاريخ ومغالطات الجغرافيا)، هنا في صحيفة "عربي21"، وهو صورة حية عن جوانب مشرقة من ثورة القرن العشرين التي جسدت أمجاد الحرية والكرامة، تماما كما هو حال غزة وفلسطين هذه الأيام لما بين الثورتين من تطابق  وتشابه كما قلنا وعشنا في الثورة الأولى، مقارنة بما نراه على المباشر في  الثورة الفلسطينية  العظيمة  الثانية، التي اختصرت أمة المليارين (من غثاء السيل) في المليونين من أبناء الشعب الفلسطيني في غزة والقدس وجنين.

وإنني أدرك تمام الإدراك الصلة الوثيقة بينهما في حجم التضحيات ومعارك التحرير التي يخوضها الأشقاء  الفلسطينيون هناك (كما كان أشقاؤهم هنا لأكثر من سبع سنين دون انقطاع)، في مواجهة أعتى احتلال وأشده شراسة، لا سيما وأنه احتلال يلتف حوله  قادة  العالم الغربي الاستعماري كله، ويدعمونه انتقاما من عدوهم اللدود على هزائمهم السابقة، وإحياء لخلافات وأحقاد تاريخية دفينة.

كنا نعتقد، وإن بعض الظن ليس إثما، أن ثورات الحرية والكرامة والسيادة والاستقلال التي عرفتها مختلف أنحاء المعمورة، قد تجاوزتها الوحوش البشرية المسلحة بالنووي والحقد الأعمى في معاداة حقوق الإنسان الفلسطيني خارج  حقوق الإنسان، التي يحميها حق الفيتو الظالم أمام كل أنظار العالم الأعور الأصم  الواجم.

إن الإسلام والاستعمار ضدان لا يلتقيان في مبدأ ولا في غاية، فالإسلام دين الحرية والتحرير، والاستعمار دين العبودية والاستعباد، والإسلام شرع الرحمة والرفق، وأمر بالعدل والإحسان، والاستعمار قِوامه على الشدة والقسوة والطغيان، والإسلام يدعو إلى السلام والاستقرار، والاستعمار يدعو إلى الحرب والتقتيل والتدمير والاضطراب، والإسلام يثبت الأديان السماوية ويحميها ويقرّ ما فيها من خير ويحترم أنبياءها وكتبها، بل يجعل الإيمان بتلك الكتب وأولئك الرسل قاعدة من قواعده وأصلا من أصوله، والاستعمار يكفر بكل ذلك ويعمل على هدمه، خصوصا الإسلام ونبيه وقرآنه ومعتنقيه. وهذا المكيال العجيب الغريب بين إنسانين، لا يثير القلق  فقط حول مصير البشرية في هذا العالم (وحيد القرن)، وإنما يعيد السؤال أيضا وبالحاح عما إذا كان للمعارك الحضارية الكبرى التي سعت لتوحيد البشرية على أساس العدل والمساواة تتراجع إلى ما تحت الصفر، كما نراها في مجازر المغول الجدد بالصوت والصورة في غزة  العزة والإنسانية، التي تحتضر في مستشفياتها المنكوبة كلها  اليوم  والمقطوعة عن الحياة أمام أعين دعاة حقوق الإنسان (الحجري)، وليس الإنسان البشري المتحضر  المتعلم  والمتقدم!!

وما يفيد في هذه الصفحات من ثورة الجزائر (فلسطين الأولى) الأشقاء في الجزائر الثانية (فلسطين  الحالية)، سأسرده ليس من باب تقديم الدروس، وإنما من باب قراءة التاريخ والاتعاظ به وأخذ العبرة منه.

بقدر ما كانت الثورة الجزائرية عظيمة في أهدافها، وواسعة في نطاقها ومتنوعة في وسائلها، ومعقدة في عناصرها وأطرافها، اعترضتها مخططات وخيانات ومؤامرات في مستوى عظمة أهدافها، وشراسة أعدائها، في الخارج والداخل، من الفاعلين الحقيقيين المباشرين ومن نوابهم المساعدين؛ وهو ما نتناوله في هذه المقالات بما يتطلبه من شمولية، وتفصيل، وشهادات وتوثيق من الأطراف المعنية حسب مختلف المراحل والمنعرجات التي مرت بها الثورة من البداية إلى النهاية، وقد حصرنا أهم هذه المناوآت والاعتراضات والخيانات والمؤامرات فيما يلي:

ثانيا: الحركة البربرية

إذا كان الفضل في اندلاع الثورة التحريرية ونجاحها يعود إلى بيان أول تشرين الثاني/نوفمبر 1954، والتفاف أغلبية أفراد الشعب الجزائري حول مبادئه (التي سبق الحديث عن أبعادها الوطنية والدينية، والقومية في الفصل الأول)، فإن أكبر وأخطر الحركات التي تشكلت في داخل الحركة الوطنية قبل اندلاع الثورة، ظلت تعمل في السّرية مع إدارة العدو لضرب الثورة من الداخل في الجزائر وعلى التراب الفرنسي بعد ذلك في الأوساط المهاجرة، على غرار الحركة المصالية (السابقة الذكر)، هي الحركة البربرية التي تأسست في الجزائر ثم انتقلت إلى النشاط ضد الثورة على التراب الفرنسي ذاته بعد ذلك.

وعن تشكل نواة هذه الحركة قبل اندلاع الثورة، يقول المناضل القيادي في الحركة الوطنية سيد علي عبد الحميد؛ "إن هؤلاء الشبان المناضلين (ومنهم من كان على مستوى معتبر في سلم القيادة)، قد كانوا يخفون إيديولوجيا مغايرة لإيديولوجيا ومبادئ الحركة الوطنية في الصميم، حيث كانت هذه النواة (المزروعة) داخل الحزب تطالب بالبربرية للجزائر، مع رفض الانتماء العربي الإسلامي للشعب الجزائري، وهم بذلك لم يكونوا متأثرين بالأفكار والأطروحات الاستعمارية الفرنسية فحسب، بل أيضا متأثرين بالإيديولوجيا الشيوعية التي كانت في أوج عصرها الذهبي في ذلك الوقت، ويجدر التذكير هنا بأن الشيوعيين الجزائريين كانوا يعارضون مفهوم "الأمة الجزائرية" الموجودة والمكونة أصلا قبل أن توجد الأمة الفرنسية ذاتها، وإنما كانوا يدافعون عن شعار "الأمة الجزائرية في طور التكوين"؛ رافضين الثوابت الأساسية التي أقرتها الحركة الوطنية بالإجماع كمبادئ مقدسة، جندت من حولها الشعب الجزائري طوال سنوات المقاومة والكفاح ضد المحتل في أنحاء الوطن كافة".

وقد كان أول من دق جرس الإنذار حول تشكل نواة هذه الحركة، هو أحمد بودة عضواللجنة المركزية لحزب الشعب (ح.إ.ح.د) في أثناء الاجتماع في كانون الأول/ديسمبر 1948، الذي بلغ عن وجود هذه النزعة البربرية، التي لاحظ أنها قد تعدت الأفكار إلى الأعمال، وحاولت التهيكل داخل الحزب نفسه لتفجيره من الداخل. أما عن علاقتها بالاستعمار وامتدادها إلى فرنسا، فيقول الرئيس بن يوسف بن خدة: «لقد كانت أرض فرنسا المكان الصالح لأنصار النزعة البربرية الذين بدؤوا نشاطهم هناك. ففي ربيع سنة 1948 التقى السيد واعلي بناي بأحمد بودة رئيس المنظمة الوطنية لـ (حزب الشعب الجزائري-حركة انتصار الحريات الديمقراطية)، وتحدث معه عن طالب "بصدد البحث عنه من طرف الشرطة"، ويرغب في الالتحاق بفرنسا قصد متابعة دروسه، وهو بحاجة إلى أن يوصى به إلى قيادة الفدرالية، وفي الحقيقة، فإن هذا الطالب ما هو إلا "محمد علي يحيى" الذي سوف يكتشف لاحقا، بصفته محرضا للنزعة البربرية بفرنسا.

هؤلاء الشبان المناضلون (ومنهم من كان على مستوى معتبر في سلم القيادة)، قد كانوا يخفون إيديولوجيا مغايرة لإيديولوجيا ومبادئ الحركة الوطنية في الصميم، حيث كانت هذه النواة (المزروعة) داخل الحزب تطالب بالبربرية للجزائر، مع رفض الانتماء العربي الإسلامي للشعب الجزائري، وهم بذلك لم يكونوا متأثرين بالأفكار والأطروحات الاستعمارية الفرنسية فحسب، بل أيضا متأثرين بالإيديولوجيا الشيوعية التي كانت في أوج عصرها الذهبي في ذلك الوقت.
وبحسن نية، أعطى السيد بودة موافقته لبناي (وقد كان هذا الأخير مناضلا في الحزب، ويخفي نزعته البربرية)، وبهذا الشكل التحق محمد علي يحيى الملقب "برشيد" بفرنسا، حيث أدرج في المنظمة، والمعروف عليه أنه يتسم بالنشاط والجرأة مما مكنه من الارتقاء بسرعة إلى مراتب المسؤولية، حتى أصبح طرفا في اللجنة المديرة لفدرالية فرنسا لـ (ح.ش.ج-ح.ا.ح.د)، وعندما انفجرت أزمة القضية البربرية في ربيع 1949، توصل إلى دفع اللجنة المديرة إلى انتخاب لائحة تدين "خرافة الجزائر العربية الإسلامية".

وقد أكد هذه الحقيقة المناضل الكبير في حزب الشعب الجزائري، عمر بوداود (وهو من بلاد القبائل) في مذكراته بقوله: "عرفت سنوات 1950-1949 انفجار ما سوف يعرف بأزمة الانتماء البربري، وتلك القضية تورط فيها بالخصوص مثقفون شباب من القبائل الكبرى، تحت قيادة علي بناي، وكان ولد حمودة، مسؤول المنظمة الخاصة (L’OS) على بلاد القبائل كافة واحدا منهم. وقد كانت لي معهم اتصالات في المجالات التنظيمية، من غير أن أطَّلع على محتوى مشاريعهم الخاصة بـ "الانتماء البربري".
 .
ويضيف بوداود قوله في مكان آخر: "بعد أن عرفت أفكارهم بداية الشروع في التنفيذ، طُرحت المسألة في أجواء مكدَّرة، فثارت ثورة الحزب بسبب الحادث الذي تسبب فيه تعيين رشيد علي يحيى كمسؤول لفدرالية فرنسا للحركة من أجل انتصار الحريات الديمقراطية، فقد قام بصفته كذلك، بتحرير وثيقة تتعلق بتنظيم الحزب في فرنسا، سُلمت الوثيقة لمناضل كان متوجها إلى الجزائر مع تكليفه بتسليمها إلى "عمار"، ومن المعلوم أن "عمار" هو تسمية نضالية لولد حمودة. ولم يفهم المناضل حامل الرسالة ذلك فسلّمها إلى المناضل عمار حداد، (وهو اسمه الحقيقي)، فلم يفهم هذا المناضل الذي تلقى الرسالة ما الذي يراد فعله بهذه الوثيقة، وظن أنها من الأمور التي تهم الحزب، فسلّمها بدوره إلى حسين لحول الذي كان بحضرة محمد خيضر في مكاتب (ح. إ. ح. د) في ساحة شارتر. وعند قراءة الوثيقة بإمعان، تبين لقيادة الحزب بأن ذلك تقرير صادر من تنظيم مواز، مما تسبب في تفجير ما عرف بالأزمة البربرية".

وعن كيفية محاربة هذه الحركة، يورد بلقاسم راجف (وهو من كبار قادة الحركة الوطنية) الذي كان له دور كبير في القضاء على هذه الحركة على التراب الفرنسي ذاته فيقول: "وقعت المشادة الأولى بالدائرة الباريسية الثامنة عشرة، في شارع أوردنير (Arrondissement  rue Ordonner 18è) في قاعة تابعة لفندق مقهى، حيث اجتمع مائة شخص بدعوة من خصومنا، وأرسلنا ثلاثين من رجالنا لحضور الاجتماع، ومع الأسف وصلوا متقدمين، الأمر الذي سمح لخصومنا بأن يجمعوا مقابض معاول وقوارير من زجاج.

وبمجرد أن علمنا بذلك، قصدنا المكان على الفور، وكان عددنا عشرين مناضلا، وفور وصولنا هاجمنا خصومنا وتحطم الباب الزجاجي للفندق، وحين رجعت أدراجي رأيت شخصا يقصدني وبيده سكين جزار، وخرج في تلك الأثناء صديق لي محتميا بكرسي فرماه باتجاهي فأمسكته، وضربت به صاحب السكين (أرزقي مغيرة)، وهو صديق واعلي بناي، فانسحب على الفور.

وفي تلك اللحظات، تسلق زملائي الأشجار وقطعوا منها فروعا ليجعلوا منها هراوات، استخدمناها للدفاع عن أنفسنا ودحرنا عناصر العصابة، ففر بعضهم ودخل بعضهم إلى الفندق، وتسببت المواجهة في عدة جرحى من الطرفين ودخل ثلاثة المستشفى، وكنت قد أبعدت من جماعتنا المهاجمة، كل العناصر التي تنتمي جغرافيا إلى المناطق التي يتحدث سكانها بالعربية في الجزائر، وذلك حرصا مني على أن تكون القضية أو المعركة قائمة بين أهل القبائل وحدهم، حتى لا تضفي عليها طابع «نزاع بين العرب والقبائل» الذي قد يستغله أعداؤنا ضدنا".

وعن استمرار هذه الحركة في فرنسا كالنار تحت الرماد، يقول أحد مناضلي هذه الحركة في فرنسا علي الحساني: "تكونت "تيويزي اتمازيغت" سنة 1951 وصارت رسمية ابتداء من 1952، النشطاء هم من أطلق عليهم مصالي الحاج اسم "بربريست"، وقد أسسها سرباح وهو مناضل قديم في حزب الشعب، وكان معه السي الهاشمي، وعلي بوداود، وحروي الحسين، وآخرون، أنا كنت معهم، وكنا نلتقي كلّ يوم أحد!".

ويضيف قوله: "ومرّة جاء ديدوش مراد غاضبا، مع مجموعة لكي يهاجم رابح سرباح الذي خلق "تيويزي تمازيغت" وكان عند بوعزيز، وبدأ ديدوش يُهدد، وأنا دخلت بالصدفة، ولما رآني، هدأ قليلا، ثم ذهب ورفاقه، وبعد أيام عاد مع مجموعة وكسروا، وضربوا سرباح.".

وعن معارضة هذه الحركة لبيان أول تشرين الثاني/نوفمبر، ومن ثم بالثورة يقول علي الحسني: «سنة 1955، جاء السعيد واعلي إلى فرنسا يبحث عن اتصال، وكان هناك كل من عبد الكريم السويسي، سي موح أمقران، الشيخ إيدير مزي، وبعد الاجتماع صار هذا الأخير أول رئيس لفدرالية فرنسا، وقد دعانا مرة إلى اجتماع وأخبرنا أنّ الدكتور لمين دباغين سيزورنا، وكان معنا رشيد علي يحيى، وإيدير مزي، وسي محمد أمقران الشيخ، وعندما بدأ الدكتور لمين يتحدث قلت له: "انظر ما كتبت في بيان أول نوفمبر ضد الجزائر". قال لي: كيف هذا؟ قلت؛ إنكم تقولون في الإطار العربي الإسلامي، لماذا لا تقولون في الإطار البربري الإسلامي؟ فوقف الدكتور لمين، وقال: "هل تريدونني أن أجتمع مع أشخاص مثل هذا؟" وغادر على الفور!" .

وهذا الموقف المناهض للثورة من الحركة البربرية، هو الذي جعل قادة الثورة بعد سنة بالضبط في مؤتمر الصومام، يحكمون بالإعدام على هؤلاء الخونة لمبادئ الثورة (كما بيّناها في الفصل الأول)، فيقول نص الوثيقة بالحرف الواحد:

"جبهة التحرير الوطني
الجزائر 20 آب / أغسطس 1956
إلى مسؤولي فيدرالية جبهة التحرير الوطني بفرنسا

إنّ المسؤولين الأساسييّن لمنطقة وهران، والعاصمة، وقسنطينة، المجتمعين في مكان ما بالجزائر، بعد الاطلاع على تقريركم العام غير المؤرّخ، يجدّدون لكم الثقة، ويؤكّدون لكم مساندتهم الكاملة في عملكم المتعلّق بالتّنقية، والدعم لجبهة التحرير الوطني في فرنسا، وبتصفية البربرّيين والمصاليّين، وكلّ المعاكسين للثوّار من الذين يواصلون عمل التّفرقة في صفوف الجالية الجزائرية.

نحيطكم علمـا بأنّ هناك وفاقا تامّا يسود مسؤولي الثورة. إنّنا مقتنعون بأنّ هذا الوفاق سيكون أقوى من أيّ وقت مضى بعدما تحقّقت الوحدة والمركزية.

لقد عولجت المشاكل المتعلقة بالاعتقادات والسّلطة، وحلّت، وستنشر الحلول فور الحصول على موافقة الإخوة المعنيين الموجودين في الخارج.

ستعطى التّعليمات إلى مسؤولي القرى والدّواوير الذي يوجهون رسائل إلى عناصر جبهة التحرير الوطني، وفي فرنسا، سعيا إلى إنهاء هذه الحالة، سنوافيكم بعناوين جامعي التّبرعات، قصد الاتصال بهم بكلمة السرّ هذه: "أنا قادم من الجزائر".

مستقبلا، سيقدم المال إليكم مباشرة، ونتمنّى ألا يقع أبدا سوء تفاهم".

وعن بذور وجذور الحركة البربرية التي تكونت جنينيا في جوف الحركة الوطنية في الجزائر قبل انتقالها السّري إلى التراب الفرنسي، لتنشط على راحتها هناك وتصل إلى درجة الخطورة على الثورة، التي دفعت قادة مؤتمر الصومام إلى الحكم على عناصرها بالإعدام واستئصالهم من جسم الثورة.

يقول المجاهد سيد علي عبد الحميد وهو من قادة الحركة الوطنية: كان عناصرها مُتأثرين بالفكر الماركسي. في سنة 1947 كانوا قد بدؤوا يتهجّمون على إدارة الحزب. ولقد قاموا باجتماع. ودعوا اثنين من الإطارات، من الجزائر ـ قصبة، ومن بلكور. ونادوا باجتماع انشقاقي. كان لديهم توجه ضدّ إدارة الحزب. ولكن الأسوأ هو فكرة رشيد علي يحيى بأن يأخذ زمام الأمور، بداية من فرنسا، للانتقال إلى العاصمة. كان هذا غير مقبول. ما كان يُهمهم بالدرجة الأولى هي إدارة الحزب، بتنحية كل من له علاقة بالإسلام والعروبة. واعلي بناي هو من اتجه إلى أحمد بودة لكي يُساند رشيد علي يحيى، مُدّعيا أنّ هذا الأخير ليس إلا طالبا يحتاج إلى المُساعدة، فأمر بودة، ودون أن يعلم بما يُدبرون، أمر فدرالية فرنسا أن تتمّ مُساعدة علي يحيى حتى يتمّ دراسته في ظروف جيدة". 

اقرأ أيضا: على قدر عظمة الثورات تأتي الخيانات والمؤامرات.. الحركة المصالية في الجزائر