أفكَار

نقاش هادئ في طبيعة الإنتحال المزعوم ومنزلته في القرآن

القرآن يؤكد أن العلم المحيط لا يمكن أن يكون إلا علم الله والإنسان لا يمكن أبدا أن يحوزه لأن وجود الغيب يعد في الدين من جنس "الشيء في ذاته" عند كنط..
لم يمثل طوفان الأقصى، زلزالا سياسيا فقط لجهة إسقاط مقولة الجيش الذي لا يقهر لدولة الاحتلال، وإنما أيضا مثل سؤالا فكريا وثقافيا وفلسفيا لا يزال يتردد منذ عصر النهضة العربية الأولى، عن سر النهضة والتقدم..

صحيح أن طوفان الأقصى وما تبعه من حرب إسرائيلية موغلة في الإبادة والوحشية، هو في ظاهره معركة بين حركات تحرر وطني وشعب يتوق إلى الاستقلال والسيادة، وبين قوة احتلال ترفض الانصياع للقانون الدولي، لكن ما تبعه من اصطفاف دولي غير مسبوق ضد الشعب الفلسطيني هو ما أثار علامات استفهام كبرى، حول مفاهيم الحرية والقانون والسيادة والمساواة والحقوق وغيرها من القيم التي عملت الإنسانية على مدى تاريخها بإسهامات تراكمية في صياغتها..

الفيلسوف والمفكر التونسي الدكتور أبو يعرب المرزوقي يعمل في هذه المقالات التي تنشرها "عربي21" في أيام شهر رمضان المبارك، على تقديم قراءة فلسفية وفكرية وقيمية للقرآن الكريم والحديث النبوي الشريف باعتبارهما المرجعية الأساسية التي يبني عليها العرب والمسلمون إسهاماتهم الحضارية..


الفصل الثالث

ما طبيعة العاريات المزعومة التي نجدها في القرآن والتي لا أحد ينفي وجودها بحيث إن المشكل ليس فيه بل في منزلتها ودلالتها فيه؟ ما الدور الذي تؤديه في بعده النقدي والتفكيكي الذي يستعمله لعلاج ما يسميه القرآن تحريفا  في ممارسات الأديان السابقة ورؤاها للديني ووظائفه في تاريخ الإنسانية؟

للجواب عن هذه المسألة علي أن أبدأ فأعرف القرآن: "فالقرآن عمل ذاتي النوع يؤدي دور المؤسس لخمسة فنون دينية" ويمكن أن نسميه علما رئيسا ما بعد خلقي- Architectonique méta-éthique-وهو دور شبيه بالميتافيزيقا في الفنون الفلسفية. فالقرآن الذي هو متعدد الأبعاد ومتراكمها في عمقه يبدو في ظاهره عديم النظام ومن ثم فقد لا يتبين قارئه بنيته العميقة.

وسأكتفي ببعدين من أبعاده لتعريف طبيعة "جنسه الأدبي" واستخراج بنيته العميقة للكشف عن طبيعة جوهر رسالته. وهذان البعدان يبدوان لي كافيين ليس لدحض هذه القراءة المزعومة حديثا فحسب بل كذلك للبرهان على أن القرآن يعد خطة أولية لفلسفة  في الدين في علاقة بفلسفة التاريخ ومن ثم  فخطابه هو في آن خطابا ما بعد ديني وما بعد تاريخي (3):

1 ـ  فالبعد  الأول من النص القرآني يحدد طبيعة تلك العاريات الشهيرة ومنزلتها التي نجدها في كل سورة والتي ليست هي في الحقيقة إلا "منتخبات" أو "شواهد" يحللها ويعلق عليها في "تاريخه" النقدي للظاهرة الدينية. وبالتالي فليس قصدي التشكيك في وجود هذه الشواهد بل بالأولى سأحاول بيان طبيعتها ووظيفتها في خطابه. فهو يثبت بعض هذه الشواهد ويدحض بعضها الآخر. وتلك التي يثبتها تثمل الأفكار والقيم التي يعتبرها تراثا مشترك للأديان الكتابية أو هي بالأحرى الديني في كل دين متعين في تاريخ الأديان. أما التي يدحضها فهو يعدها ممثلة لما يسميه تحريفا. وذلك هو بالذات ما يعنيه المفهوم المنهجي الذي يسميه القرآن منهج "التصديق والهيمنة" (4).

إن السلطتين الاستبداديتين تتقاسمان نية جعل الدين مجرد خطة لسلطان مسيطر بدلا من أن يكون بمتقضى طبيعته فضيلة خلقية وسياسية لتحرير الإنسان. لذلك فالقرآن يندد بالطبقة الوسيطة في الدين والطبقة السياسية المسؤولتين على إفساد الديني من حيث هو ديني وتطبيقه في المجال الخلقي والسياسي.
فحضور هذه الشواهد في صوغه الأولي لفلسفة الدين وفي إصلاحه للعلاقة بين الديني والتاريخي عامة أمر لا غناء عنه إذ أن هذه الشواهد هي إما عناصر مشتركة لرسالة الأنبياء أو موضوع نقده للعلاقة بين هذه الرسالة المشتركة والمعوقات الاجتماعية الثقافية المسؤولة عن فشل الرسالات التاريخي.

2 ـ أما بعد النص القرآني الثاني فيهدف إلى تحديد مشروع أساسي غايته إصلاح هذه العلاقة بين الرسالة الدينية والشروط الأخلاقية السياسية لتحقيقه في التاريخ الإنساني.

وهذا الشروع الذي هو عين جوهر الرسالة القرآنية والذي يعد مشروعا كونيا ونهائيا يهدف إذن إلى تحقيق الشروط الفعلية لمجتمع إنساني متحرر من عبودية مزدوجة: متحرر من العبودية الروحية بفضل فلسفة في التربية دون وساطة رجال دين مستبدة (5) وتحرر من عبودية سياسية بفضل فلسفة سياسية تؤسس لحكومة لا وصاية فيها لطبقة سياسية مستبدة (6).

1 ـ والعبودية الأولى روحية وتتمثل في وساط سلطة روحية مستبدة تفسد التربية بالتوسط بين الإنسان ومصالحه الروحية أو سماوية (الكنسية المستبدة).

2 ـ والعبودية الثانية سياسية وهي وصاية سلطية سياسية مستدبة تفسد السياسة بالتوسط بين الإنسان ومصالحه السياسية أو الدنيوية (الدولة المستبدة).

إن السلطتين الاستبداديتين تتقاسمان نية جعل الدين مجرد خطة لسلطان مسيطر بدلا من أن يكون بمتقضى طبيعته فضيلة خلقية وسياسية لتحرير الإنسان. لذلك فالقرآن يندد بالطبقة الوسيطة في الدين والطبقة السياسية المسؤولتين على إفساد الديني من حيث هو ديني وتطبيقه في المجال الخلقي والسياسي.

وهكذا فما أعنيه بالبعد الأول هو النقد التفكيكي للتجارب التاريخية التي تقدم لنا أمثلة من فشل الرسالات الدينية المتوالية التي يقص القرآن تاريخها.

اما البعد الثاني فأعني به أولا المشروع البديل في مجال مصالح الإنسانية الروحية التي هي جوهر الديني  وثانيا الرهانات التاريخية التي هي جوهر الخلقي السياسي. ذلك هو ما يعالجه الإصلاح القرآني الهادف لتعرية هذه الإخفاقات وتقديم الإجراءات الضرورية لعلاجها.

وذلك هو ما يبدو لي محاولة أولية لوضع فلسفة الدين في علاقة بفلسفة التاريخ وكلتاهما فلسفة كونية شاملة لكل الإنسانية. وذلك هو الرسالة النسقية التي تغفلها القراءة السياقية باعتماد التاريخ الاجتماعي الثقافي الذي نشأت فيه الرسالة لجعلها مجرد انعكاس لهما  إما بعدم وعي أو بقصد فتجهل أو تتجاهل طبيعة المشروع القرآني وطبيعة حضور الشواهد من الأديان السابقة في نصه.

وهذا المشروع لا يستعمل في سعيه لإقناع مخاطبيه منهج المعجزات النبوية بل هو يستعمل نظام استدلال يناقش المعتقدات  والأخلاقيات الحاضرة في المؤسسات الدينية بالإحالة إلى الديني الذي يعرفه بكونه خاصية فطرية عند الإنسان حيث هو إنسان. وإذن فطريقة الرسالة هذه تستعمل الطريق المضاعفة  التي يتبعها الفكر الإنساني ليتحرر من السياق الاجتماعي والثقافي فلا يكون مجرد انعكاس لهما بل هو متعال عليهما بوصفهما موضوع نقده التفكيكي لما يمثلانه من معوقات لتحقيق المثل التي يقدمها للإنسانية.

والأمر يتعلق بالطريق المضاعفة التي تتبعها نظرية المعرفة ونظرية الجمال التي تقلب العلاقة بين بين ابداعات الفكر التي هي الرؤية التي تبدع  المنهج والموضوع في آن لئلا تكون مجرد انعكاس ما تسميه الفرضية التي أنوي نقضها "الواقع".

وفعلا فإن العلم والفن كلاهما يستعمل للبلوغ إلى الكلي الأبستمولوجي والكلي الجمالي استراتيجية النسق الذي يعبر إما عن الادراك العقلي أو عن الإدراك الذوقي أو أخيرا عنهما في آن كما تفعل رسالة القرآن.

وهذه الطريق المضاعفة تمكن الفكر الإنساني المبدع من التحرر من سيطرة "الواقع". فبدلا من الخضوع  له يبدع الفكر "أدوات"  الفكر النظري و"أدوات" الذوق الجمالي وهي أدوات تمكنهما من تأويل السياقات الاجتماعية والثقافية ومناقشة أنواع التناص بردها إلى حالات خاصة من عالم أسمى من عالم الطبيعة ومن عالم التاريخ لأنه عالم متعال على التعين الحسي  تعاليا يمكن من إدراك الحقيقة التي تعليل كونه على  ما هو عليه. فالفلسفة تعتقد أن العالم صنيعة قوانين الضرورة الطبيعية والدين يعتقد أنه صنيعة قوانين الإرادة الإلهية الحرة.

إن العلم والفن كلاهما يستعمل للبلوغ إلى الكلي الأبستمولوجي والكلي الجمالي استراتيجية النسق الذي يعبر إما عن الادراك العقلي أو عن الإدراك الذوقي أو أخيرا عنهما في آن كما تفعل رسالة القرآن.
وهكذا فإنه يمكنني القول إن ما يدور حوله الكلام بوصفه السياق الاجتماعي الثقافي وتناصا القرآن لا يستعملهما بوصفهما تمثيلا تجريبيا للأفكار التي يعالجها فحسب، بل هو يجعلها موضوع نقده الذي ليس هو إلا أحد أبعاده كما سنبين. فهو يختارها بصورة قصدية وهو يضربها أمثلة يجلعها موضوع "تفكييك" بغاية التمييز بين ما يعده دينيا وما يعده تحريفا مفسدا للديني فسادا حل بالمؤسسات الدينية التي وظفت الديني لكن الديني يبقى سليما وهو ما يريد تحريره من التحريف.

ويمكن أن نقارن هذه الطريقة بالطريقة التي استعملها أرسطو في مقالة الألف الكبرى وكذلك في المقالات الثلاث عشرة الباقية في الميتافيزيقا. ولكن مع وجود فرقين أساسيين بين الميتافيزيقا التي من المعلوم أنها سميت " إلهيات في التلقي الإسلامي" وهو من اسمائها الارسطية (العلم الإلهي والعلم الرئيس والحكمة). ولهذه العلة بينت الفرقين عندما اطلقت على القرآن اسم الارشيتاكتونيك ما بعد الخلقي أو العلم الرئيس ما بعد الخلقي أو الأخلاق الإلهية:

1 ـ فالفرق الأول ينبع من طبيعة موضوع النقد. فالرسالات الديينية التي يأتي بها الأنبياء ذات مصدر إلهي ومن ثم فالقرآن لا يمكن أن يجعلها موضوع نقده كما فعل أرسطو مع نقد أفكار القدامى. فالخطأ لا يتعلق بالرسالة الدينية بل بما صارت عليه في المؤسسات الدينية الوضعية التي أفسدت طبيعتها ووظيفتها بتواطؤ صريح بين رجال الدين والحكام (آل عمران).

2 ـ لكن الفرق الثاني هو الأكثر أهمية لبحثنا في المنهج الذي نرفضه إذ هو الذي يتعلق بأساس النقد الأبستمولوجي والوجودي في استعمال النص القرآني.

فلعلتين يرفض القرآن ابستمولوجية المطابقة الأرسطية التي نكصت إليها الهيغلية والماركسية اللتين ترفضان النقد الكنطي  واللتين تبناهما الإسلامولوجيون بوعيأو بغير وعي:

أ ـ فالقرآن يؤكد أن العلم المحيط لا يمكن أن يكون إلا علم الله والإنسان لا يمكن أبدا أن يحوزه لأن وجود الغيب يعد في الدين من جنس "الشيء في ذاته" عند كنط.

بـ ـ والقرآن يؤكد أن العالم ليس واحدا وكل عالم له ما بعده الذي لا يمكن أن يرد إليه لعجزنا عن الولوج إلى ما يتعالى على المحسوس من العالم الشاهد.

وبصورة عامة فإن الوضعيات النموذجية للعلاقة بين الديني والتاريخي مع كونها تمثل اللحظات الأساسية في التاريخ الكوني تتخذ شكل مقاومة ما هو اجتماعي ثقافي لما هو مضمون الرسالات النبوية كما يتبين ذلك في الوضعية التاريخية التي تتميز بيها حقبة من حقب التاريخ وهي تعرف بمن يصادم الرسالة النبوية ذات الصلة بالحقبة المعنية.

الهوامش:
 3 ـ أاعني بما بعد الديني كون القرآن لا يقتصر على تبليغ رسالته الدينية بل هو يدرس طبيعة دور الرسالة الينية المتقدمة عليه ويحال تعليل فشلها التاريخي. إنه في آن رسالة دينية ودراسة نقدية للرسالات السابقة لتتطهيرها مما طرأ عليها من تحريف. واعني بما بعد التاريخ كون القرآن لا يكتفي بقص تواريخ الشعوب الذين تلقوا تلك الرسالة النبوية بل هو يجعلها موضوع فحص نقدي كذلك ليعلل فشل الرسالات.
4 سورة المائدة 48
5 سورة الحديد 27
6 الشورى 38