كتب

فشل "الاتحاد المتوسطي".. ما علاقة فلسطين والإسلام السياسي؟ كتاب يجيب

يشدد إعلان مشروع الاتحاد المتوسطي على ضرورة جعل منطقة البحر المتوسط فضاء مشتركاً من السلام والاستقرار والازدهار
يشدد إعلان مشروع الاتحاد المتوسطي على ضرورة جعل منطقة البحر المتوسط فضاء مشتركاً من السلام والاستقرار والازدهار
الكتاب: "أوروبا من أجل المتوسط: من مؤتمر برشلونة إلى قمة باريس (1995-2008)"
 المؤلف: الدكتور بشارة خضر
ترجمة: سليمان الرياشي
الناشر: مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة الأولى، يناير 2010.

شكلت عالمية التجارة، وتحرير نظام العلاقات الدولية، وعدة متغيرات دولية وإقليمية كبيرة دافعاً قوياً لإقناع مجموعة دول الاتحاد بأن أوروبا لا يمكن لها أن تبني مستقبلها بتجاهل جنوب المتوسط. ومن هذه المتغيرات، حرب الخليج الثانية وإسقاطاتها المدمرة عربياً وعالمياً، لجهة هيمنة الولايات المتحدة الأمريكية على منابع النفط، واستخدامها سلاح النفط لخنق أقرب منافسيها من التكتلات الاقتصادية العملاقة وهي أوروبا واليابان، وتصاعد حدة الخلافات بين أوروبا والولايات المتحدة الأميركية حول القضايا التجارية والنقدية العالمية.

ولقد عكست هذه الخلافات بين ضفتي الأطلسي آثارها على المواجهة حول حوض المتوسط، ومن هنا كانت الدعوة للمتوسطية الجديدة تعبيراً عن رغبة أوروبا في جعل (المتوسط) بحراً أوروبياً لا بحراً أمريكياً. وتجسدت هذه الرؤية الأوروبية في فرنسا بعد وصول الديغوليين إلى السلطة فيها. فكان الطرح المتوسطي الأوروبي ردّاً على إصرار الولايات المتحدة الأمريكية على الانفراد بمقدرات الشرق الأوسط، وهو الذي يتجلى بوضوح منذ أزمة الخليج الثانية.

وأخيراً هناك التحديات الإقليمية التي تتمثل في مجموعة المخاطر والتهديدات الأمنية التي باتت تهدد الأمن الأوروبي، وهي في معظمها قادمة من الجنوب الذي يشمل جنوب وشرق المتوسط، وأهم تلك التحديات:

ـ تصاعد المد الإسلامي الأصولي في كل من مصر وتونس والجزائر، وانفجار الأزمة الجزائرية، حيث أن نظرة الغرب للإسلام لا زالت ترى أن الإسلام يعني الأصولية، وهذه الأخيرة تعني الإرهاب.

ـ امتعاض أوروبا من اقتصار دورها كممول فقط في عملية السلام الجارية في منطقة الشرق الأوسط، بسبب عجز الاتحاد الأوروبي عن انتهاج سياسة مستقلة عن السياسة الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط، وعن ممارسة ضغوط حقيقية على الكيان الصهيوني، وعدم طرح أوروبا نفسها شريكاً فعلياً في عملية السلام الجارية التي انطلقت منذ مؤتمر مدريد عام 1991، حيث تؤكد الدول الأوروبية دائماً بأن أي مبادرة أوروبية في شأن السلام في الشرق الأوسط، لن تكون بديلاً عن عملية السلام التي ترعاها الولايات المتحدة الأميركية.

ـ استمرار مستويات التسلح المرتفعة في بلدان العالم الثالث.

ـ استمرار تدفق المهاجرين غير الشرعيين من شمال إفريقيا إلى أوروبا، إذ تعتبر أوروبا أن النمو الديمغرافي المغاربي، وتزايد الهجرة غير الشرعية، وتصاعد الأصولية الإسلامية في البلدان المغاربية وفي العالم، وغياب سياسة أوروبية موحدة، وتضاربها تجاه بعض أزمات المنطقة، من أكبر التحديات التي تواجه دول الاتحاد الأوروبي في عقد التسعينات، الأمر الذي جعلها تعقد عدة ملتقيات ومهرجانات ومؤتمرات حول المنطقة المتوسطية، والشرق الأوسط، وإفريقيا الشمالية، بين عامي 1994 و1995. كما أن السياسة المتوسطية المجددة لأوروبا تفضل المبادلات التجارية، وتقوية المكاسب الأوروبية في بلدان جنوب المتوسط. كما يقول تقرير البرلمان الأوروبي " إننا أمام رتق السياسة المتوسطية"ز

في كتابه الجديد، "أوروبا من أجل المتوسط من مؤتمر برشلونة إلى قمة باريس (1995 ـ 2008)، الصادر عن مركز دراسات الوحدة العربية، والذي قام الأستاذ الباحث الراحل  سليمان الرياشي بترجمته من الفرنسية إلى العربية، يقدم لنا الكاتب الدكتور بشارة خضر، رؤية نقدية لموضوع الاتحاد الأوروبي من أجل المتوسط، حيث يقول: إنَّ "الاتحاد الأوروبي لا يستطيع أن يصبح قاطرة حوض المتوسط بمجرد إطلاقه سياسة جديدة، سواء كانت تلك السياسة "الجوار" أو "الاتحاد من أجل المتوسط"، لكنه يصبح كذلك بتبني سلوك يقطع من منظور البحر المتوسط المهدد، ويعيد تشييد الفكرة العزيزة على إدغار موران. ومن ناحيتي، فقد اعتدت على القول إن البحر المتوسط أضيق من أن يفرِّق، وأوسع من أن يُخلط. فهو ليس جدولاً ولا محيطاً، بل هو كما سماه العرب "البحر الأبيض المتوسط"، إنه البحر الواقع وسط اليابسة، وهو جسر يربط، وليس حفرة تفصل"(من المقدمة ص16).

ساركوزي وإطلاق مشروع الاتحاد المتوسطي

كان الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي، هو الذي أطلق مشروع إنشاء اتحاد متوسطي: أي منظومة حضارية وسياسية واقتصادية وأمنية وثقافية تجمع بلدان حوض البحر الأبيض المتوسط شماله وجنوبه، على غرار عملية بناء الاتحاد الأوروبي، اندماج لضفتي المتوسط بوساطة الاقتصاد.. فالحلم عظيم وعبارة الحلم أطلقها ساركوزي ذاته في فبراير2007 في خطابه بمدينة طولون الفرنسية ضمن حملته الانتخابية، وفي حفل تسلمه لمهامه كرئيس للجمهورية الفرنسية يوم 16 مايو 2007. وهو مشروع مستوحي في قسم كبير منه من المراجع التي اعتمدها الرئيس ساركوزي لتأسيس هذا الاتحاد والظروف الدولية المحيطة بالمشروع الطموح.

ومن أبرز المراجع التقرير الذي أعدته بطلب من الرئيس ساركوزي كوكبة من الديبلوماسيين والمنظرين والمفكرين الفرنسيين لهذا الغرض وهو يحمل عنوان (تقرير ابن سينا) على اسم الفيلسوف الطبيب العربي المسلم. والتقرير وثيقة ضرورية لفهم الغايات التي يرمي الى تحقيقها الرئيس الفرنسي الجديد الذي باشر الإصلاحات الجذرية الجريئة في كل مجالات الحياة في بلاده.

ينقل المؤلف بشارة خضر مقتطفات من خطاب الرئيس السابق ساركوزي في مدينة طولون ما يلي: إنه "بإدارة الظهر إلى المتوسط، فإن أوروبا وفرنسا ظنتا أنهما تديران الظهر إلى الماضي"، بينما كانتا في الواقع "تديران الظهر إلى مستقبلهما"، لأن" مستقبل أوروبا في الجنوب".ثم يركز المؤلف على الخطأ الذي ارتكبه المرشح ساركوزي عندما ذكر بملحمة الصليبيين "هذا الحلم" الذي دفع في الماضي بكل فرسان أوروبا إلى طرق الشرق، ثم حملة نابليون في مصر، ثم "حملة نابليون الثالث" في الجزائر، وليوتي في المغرب، "هذا الحلم الذي لم يكن غزواً بقدر ما كان حضارة"، لأن معظم الذين اتجهوا إلى الجنوب لم يكونوا مسوخاً ولا مستغلين "بل بالإجمال أناساً طيبين، ذهبوا ليكسبوا بكدّهم قوت عيالهم، من دون أن يستغلوا أحداً، وخسروا كل شيء لأنهم طردوا من أرض تملكوها بالعمل وحق العيش بسلام".. إن هذه الاستشهادات من خطاب طولون، تشكل اختصاراً مؤثراً للرسالة التمدينية الشهيرة لفرنسا، وللاستعمار الطيب والأخوي"(ص 221).

كان ساركوزي اختار زيارته الى المغرب في أكتوبر 2007 لإلقاء خطابه المتوسطي الذي استخدم العبارات والصور الشعرية حين قصد شعوب المنطقة بالقول: ".. إلى كل المتوسطيين، إلى الشعوب التي تعيش في معجزة هذا الضوء الذي أنار أجمل أحلام الإنسانية... أقول إن الوقت قد حان لجمع القوى والقلوب من أجل بناء الاتحاد المتوسطي لأن ما يجري في المنطقة أمر حاسم... هناك يتقرر ما اذا كانت الحضارات والأديان ستخوض في ما بينها أشد الحروب وما إذا كانت المواجهة بين الشمال والجنوب ستنفجر أو أن الإرهاب والتطرف والأصولية ستفرض على العالم سجل العنف والكراهية"... ذاك بعض ما قال الرئيس الفرنسي عن دعوته زعماء بلدان حوض الأبيض المتوسط لإنشاء اتحاد إقليمي يجمع عناصر القوة الاقتصادية والتنوع ويكون بمنزلة الجسر الثقافي المشترك بين الغرب والشرق وبين أوروبا وإفريقيا. وكان الرئيس السابق  ساركوزي دعا زعماء المنطقة إلى الاجتماع في فرنسا في 14 يوليو2008 لإعلان تأسيس الاتحاد.

تجاوز مسار برشلونة

يقوم المشروع: الاتحاد من أجل المتوسط، على إنشاء إلى جانب الأوروميد ـ برنامج للتعاون بين الاتحاد الأوروبي مع بلدان حوض المتوسط والشرق الأدنى، أطلق منذ عشر سنوات لكنه جمد بسبب الصراع الإسرائيلي ـ الفلسطيني ـ لتأسيس شراكة تقوم على معادلة "5+5": خمس بلدان من جنوب الاتحاد الأوروبي (إسبانيا، فرنسا، إيطاليا، اليونان، البرتغال) تتعاون مباشرة مع خمس بلدان من جنوب المتوسط: الجزائر، تونس، المغرب، ليبيا ومصر.

وتقوم فكرة المشروع على البناء التدريجي لهذا الاتحاد المتوسطي الجديد من خلال القمم المنتظمة، ثم عبر المؤسسات المقلّدة من مؤسسات الاتحاد الأوروبي في بدايات تشكله في خمسينات القرن الماضي، إذ أن المقاربة كانت اقتصادية في جوهرها. والحق يقال، إن الفكرة ليست جديدة، فالقمة 5+5، عقدت في تونس في ديسمبر 2003، وهناك عدة اجتماعات مشابهة ضمت وزراء المالية أو الدفاع، عقدت بشكل سري خلال العشر سنوات الماضية. وكان واقع الإخفاق لأوروميد، عقب الذكرى العاشرة لاتفاق الشراكة الأورو ـ متوسطية في برشلونة في نوفمبر 2005، قد حث على الإسراع ببلورة هذا المشروع الجديد.

يستند هذا المشروع إلى التقرير الذي استعرض العلاقات الفرنسية المتوسطية أي في الحقيقة علاقات باريس التقليدية مع بلدان المغرب العربي: تونس والجزائر والمغرب، نزولاً إلى مصر وتركيا كشركاء لبلدان ساحل البحر في الشمال أو في الشرق أي فرنسا وايطاليا وإسبانيا واليونان ومالطا وقبرص. ويمضي التقرير في تقييم العلاقات الفرنسية المغاربية فيؤكد على طابعها التاريخي ولكنه يعترف بأن سياسات باريس لم تكن دائماً مستقرة الأهداف ومنطقية الخيارات باتجاة المغرب العربي، وكذلك الأمر باتجاه أزمات المشرق العربي، ما جعل أبواب هذه الأقاليم تنفتح تدريجياً على القوى الأخرى الطموحة للحضور فيها مثل الولايات المتحدة ولكن أيضاً الصين وروسيا.

الأصل في الاتحاد المتوسطي الذي يبدو اليوم بمنزلة تقليعة جديدة، أنه لا يعدو أن يكون استنساخاً ذكياً لمشروع السلام الاقتصادي في المنظومة الأمريكية للشرق الأوسط وشمال افريقيا، التي بدأت في الدار البيضاء عام 1994، ثم جالت على عواصم عربية قبل أن تتعرض للانهيار نتيجة تداعيات أزمة الشرق الأوسط.

والحال أن الطبعة المنقحة للاتحاد المتوسطي تسلك المنهجية ذاتها في استقطاب بلدان شمال افريقيا، كونه الأقل تأثراً بما يحدث في المشرق العربي، وبالتالي فالرهان على إمكان إحداث اختراق كبير في انفراج العلاقات المغاربية يبقى محكوماً بإرادة الدول المعنية، أكثر منه بتسويق المشاعر. وسواء انجذبت المنطقة إلى دعم غير مشروط للاتحاد المتوسطي أو تحفظت على بعض أهدافه السياسية، فإنه يظل رؤية أوروبية تأخذ في الاعتبار معطيات توسيع الاتحاد وآفاق التحالفات والمنافسات القائمة مع الولايات المتحدة.

وتعلم بلدان المنطقة صعوبات الاندماج الاقليمي على الصعيد المتوسطي بسبب تعثر السلام في الشرق الأوسط. ويعد نقص التعاون في ما بين دول الجنوب أحد نواقص الشراكة الأوروبية المتوسطية. وتمثل اجتماعات الشراكة إطاراً لوجود العرب المتوسطيين والإسرائيليين إلى جانب الأوروبيين، لكن ذلك لم يؤثر ولم يساعد في حلحلة الصراع. بل إن اجتماعات الشراكة تحول أحياناً إلى سجالات "كانت سبب تلوث نقاشات الشراكة". والوضع على حاله منذ انعقاد مؤتمر برشلونه التأسيسي في 28 سبتمبر1995.

وقال ساركوزي في خطاب طنجة إن "الاتحاد المتوسطي سيكون اتحاد المشاريع من أجل أن يكون حوض البحر الأبيض أكبر مختبر للتعاون والتحكم معاً في التنمية وفي حرية تنقل الأشخاص، والحيز الذي ينظم داخله الأمن الجماعي". وبحكم الدفء الذي يسود العلاقات بين إسرائيل وفرنسا في العهد الجديد، فإن الدولة العبرية قد تتحمس لإنجاح مبادرة ساركوزي كما يصعب على لبنان تناسي الدور الفرنسي في عهد ما بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري. لكن الموقف السوري سيظل لغزاً. فدمشق التي حضرت المؤتمر التأسيسي للاتحاد من أجل المتوسط، لا تزال ترفض إلى الآن توقيع اتفاقية الشراكة الأوروبية المتوسطية.

تتباين الثقافات السياسية وأساليب الحكم والقيم من أقاصي منطقة المغرب العربي إلى أقاصي المشرق والشرق الأدنى المطل على حوض البحر المتوسط. والسؤال هنا لا يتعلق باختلاف النظم بل أولاً باستعدادها لرفع الثقافة الديمقراطية الغربية لمرتبة المثل الأعلى المنشود، وثانياً قدرتها على تطبيق هذه الأنماط الغربية بشكل فعلي. وحتى إن سلمنا بأن مبدأ الديمقراطية على الطريقة الأوروبية مقبول من جميع الشركاء في جنوب حوض البحر الابيض المتوسط، يبقى حق الدول ذات السيادة في تقرير الحاجة إلى تعجيل عملية التحول الديمقراطي، أو إلى إبطائها، أو تقييدها أو حتى تجميدها.
الدعاة المتحمسون للمشروع الجديد، يريدون أن يستفيدوا من النمو الاقتصادي الهائل الذي تشهده منطقة المغرب العربي، سنوات عديدة، إما بفضل تزايد المداخيل المتأتية من الريع النفطي، أو بسبب انتقال خطوط الإنتاج الصناعية من البلدان الأوروبية باتجاه البلدان المغاربية، التي فتحت أسواقها الواعدة للشركات الأوروبية التي تنفذ مشاريع استثمارية في مجال "الاوفشور التكنولوجي" وصناعة قطع غيار الطائرات والسيارات (إذ تتسع رقعة السوق المغاربية الي 100 مليون نسمة في 2010)، من أجل تشغيل وتثبيت اليد العاملة الرخيصة، حتى لا تحاول الانتقال إلى الضفة الشمالية من المتوسط.

في هذا المعنى يكمن جديد المبادرة الفرنسية في كونها طرحت صيغة للعلاقات الأوروبية ـ المتوسطية أعلى من سقف مسار برشلونة، بل هي ترقى إلى مستوى العلاقات بين أعضاء الاتحاد الأوروبي ما دام الأمر يتعلق باتحاد وليس بشراكة. وهي أتت صدى للانتقادات اللاذعة والمتنوعة التي صبها أصحابها، من الجنوب والشمال على حد سواء، على المسار الأوروبي المتوسطي الأعرج.

ويبدو أن أحد أهم دوافع الرئيس الفرنسي إلى الدعوة إلى اعتماد الاتحاد المتوسطي يتمثل في نتيجة الفشل التي حصدها "مسار برشلونة" للتعاون الأوروبي المتوسطي على كافة المستويات السياسية والاقتصادية. ومن الأسباب التي تبناها الرئيس الفرنسي، صراحة أو ضمناً، في تشخيص أزمة "مسار برشلونة" عجز هذا الأخير عن ممارسة تأثير ايجابي في الصراع العربي ـ الإسرائيلي، على الرغم من انطلاقه عام 1995، أي بعد بضع سنوات من انطلاق ما سمي عملية السلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين.

وكان الشركاء الشماليون والجنوبيون يراهنون كثيراً على الأجواء الإيجابية التي ظهرت في منطقة الشرق الأوسط، ويتطلعون إلى تعاون وثيق بين دولها، بما فيها إسرائيل والدول العربية، لا يقف عند الحدود الاقتصادية بل يطال المجالات السياسية والاستراتيجية. ولكن رفض إسرائيل للسلام باعتباره نقيضاً لوجودها، وعجز الأوروبيين والعرب معاً عن حمل تل أبيب على احترام التزاماتها، أدّيا إلى إخفاق "مسار برشلونة" منذ عيد ميلاده الأول بعدما رفضت الدول العربية الأعضاء الموافقة على مشروع فرنسي للتعاون الاستراتيجي تكون إسرائيل شريكة فيه.

ويعتقد المحللون أن مشروع الاتحاد المتوسطي الذي اقترحه الرئيس ساركوزي يمكن أن يعمق المسار الأوروبي المتوسطي ويسد الثغرات والتشققات التي ظهرت في جداره. إن مفهوم الاتحاد من أجل المتوسط نفسه هو معادل للاتحاد الأوروبي لكن في حقل جغرافي واقتصادي مُغاير، ومعنى هذا أن هناك ذهنية جديدة تذهب إلى مدى أبعد من مفهوم الشراكة، أي إلى نظير للاتحاد الأوروبي.

غير أن المشروع هذا لن يكون محصناً من المطبات التي وقع فيها مسار برشلونة، ما يطرح أسئلة عدة عن الضمانات التي ينبغي تأمينها لوضعه على السكة. فما دام مسار برشلونة أظهر ضعف الإرادة التي تدفع الأوروبيين لتطوير الشراكة، فما الذي يضمن أنها ستكون أقوى زخماً في المشروع الجديد؟

وبالعودة إلى أسباب تعثر مسار برشلونة، فالمسؤولية مشتركة تتحملها دول شمال المتوسط مثلما دول جنوبه. فها هي تجربة أوروبا الشرقية والوسطى تحقق الغايات المرسومة للشراكة، لأنها من روحها قبل الانضمام للاتحاد الأوروبي. فضلاً عن أن إرادة تلك البلدان قبلت بإصلاح النظام الاقتصادي ولكن أيضاً إصلاح أنظمتها السياسية وإقامة المؤسسات وإرساء التعددية وصون حقوق الإنسان وإطلاق حرية الإعلام واحترام استقلال القضاء وإصلاح النظام التعليمي، وهي خطوات لم تحققها بلدان الضفة الجنوبية للمتوسط في ذلك الحيز الزمني نفسه، لأنها كانت متعلقة بتدفق التمويلات الأوروبية والمحافظة على الامتيازات التي أتت بها اتفاقات سنة 1976 مع المجموعة الاقتصادية الأوروبية.

مشروع الاتحاد المتوسطي ومفهوم السلام والأمن

يشدد إعلان مشروع الاتحاد المتوسطي على ضرورة جعل منطقة البحر المتوسط فضاء مشتركاً من السلام والاستقرار والازدهار. ولهذا اُعتبر البعد الأمني للشراكة الأوروبية المتوسطية مسألة حيوية لا يجوز أن يُسَاءَ تقديرها. وقد كانت دول المغرب العربي ومصر متجاوبة جداً مع مقترح الشراكة المتعلق بالجانب الأمني، نظراً للظروف السياسية المعقدة التي تعيشها منذ مطلع التسعينات وليومنا هذا، وارتعابها من احتمال تولي الحركات الإسلامية السلطة في بلدانها، ولا سيما أن النخب الحاكمة تشكك بإطلاقية، في صفات هذه الحركات الإسلامية الديموقراطية.

ولهذه الغاية، أصبحت هناك مصلحة مشتركة سياسية وأمنية بين البلدان العربية جنوبي المتوسط وبلدان الاتحاد الأوروبي لجهة تحقيق الأمن، مع التأكيد على ضرورة الاستقرار الداخلي والخارجي للبلدان العربية. فالتهديدات تغيرت بعد نهاية الحرب الباردة وسقوط جدار برلين، وتلاشى التضاد شرق غرب الذي كان سائداً بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، والذي كان البحر المتوسط أحد بؤره من خلال تكديس الأسلحة الهجومية وأسلحة الدمار الشامل. وعلى الرغم من أن هذا بات حالياً جزءاً من الماضي، فإن منطقة المتوسط لا تزال تشهد انبعاث التفتت والتناقض الأشد حدة في عصرنا الراهن، والهجرات الإنجيلية، والعصبيات الدينية، والتناقضات السياسية الإثنية، والكيانات الجيوبوليتيكية الجديدة الهشة.

الاختلاف في الثقافات السياسية بين شمال والمتوسط وجنوبه

تتباين الثقافات السياسية وأساليب الحكم والقيم من أقاصي منطقة المغرب العربي إلى أقاصي المشرق والشرق الأدنى المطل على حوض البحر المتوسط. والسؤال هنا لا يتعلق باختلاف النظم بل أولاً باستعدادها لرفع الثقافة الديمقراطية الغربية لمرتبة المثل الأعلى المنشود، وثانياً قدرتها على تطبيق هذه الأنماط الغربية بشكل فعلي. وحتى إن سلمنا بأن مبدأ الديمقراطية على الطريقة الأوروبية مقبول من جميع الشركاء في جنوب حوض البحر الابيض المتوسط، يبقى حق الدول ذات السيادة في تقرير الحاجة إلى تعجيل عملية التحول الديمقراطي، أو إلى إبطائها، أو تقييدها أو حتى تجميدها.

إذا كانت دول شمال حوض المتوسط قد أخذت بمبدأ الديمقراطية في ثقافتها السياسية منذ زمن بعيد، فإن دول جنوب المتوسط، تشكل استثناء في ذلك، لجهة افتقارها عموماً إلى خبرة سابقة في ممارسة الديمقراطية، كما أن أغلبها ليس فيه إلا القليل من إمكانية الانتقال حتى إلى نسبة الديمقراطية. وإذا كان الطرف الأساسي في مسيرة يحتمل أن تكون ديموقراطية، هو الدولة أكثر منه المجتمع المدني المهزوم بطبيعته في دول جنوب المتوسط، أو الأمة، أو الطبقة، أو السوق، فإن الدولة العربية في جنوب المتوسط، التي استحوذت على التراث البيروقراطي الفرنسي أو البريطاني، أو تراث الاتحاد السوفييتي السابق، هي دولة تسيطر عليها صورة دولة المخابرات ـ هذا المخلوق الضخم الاستبدادي البيروقراطي ـ التي تستمد استقرارها من الخوف لا من الشرعية. فعملية الانتقال إلى الديمقراطية تتطلب عادة وجود مجتمع مدني قادر على إثبات وجوده وعلى مساومة الدولة، بما في ذلك وجود نقابات العمال التي تتمتع بشيء من الاستقلالية، لكن أنظمة الحكم في جنوب المتوسط تتهيب أو في الأقل ترتاب من مجتمع مدني فعال وقوي أكثر مما ينبغي.

لذا فإن التعددية المحدودة التي أقرتها أنظمة في جنوب المتوسط إنما هي للدفاع عن النفس والمحافظة على وجود النظام وليس للتحرك الفعلي نحو الديمقراطية.

والحال هذه، كيف يمكن أن تكون هناك شراكة حقيقية متكافئة في منطقة البحر المتوسط، في ظل وجود أنظمة ديموقراطية راسخة على الضفة الشمالية، في حين تسود في الضفة الجنوبية أنظمة ما زالت تحركها نحو ديموقراطية ناشئة وبطيئة، ويظل انفتاحها السياسي خاضعاً للسيطرة وقائماً على استراتيجية ميكيافيلية تمزج بين "الليبرالية المتحكمة" وجني ثمار الخصخصة والليبرالية الاقتصادية.
التعليقات (0)