الذاكرة السياسية

ابن باديس وغريمه الجنرال..كلاهما حاضر في جزائر الاستقلال و"الاستحلال" (2من2)

من رموز المقاومة في الجزائر  للاحتلال حتى توقيف القتال..
من رموز المقاومة في الجزائر للاحتلال حتى توقيف القتال..
عن اختلاط الأنساب والأعراق في الجزائر داخل بوتقة الإسلام وثقافته الربانية إيمانا وإنسانا ولسانا، يقول الإمام ابن باديس؛ "إن أبناء يعرب وأبناء مازيغ وحّد بينهم الإسلام منذ بضعة عشر قرنا، ثم دأبت تلك القرون تمزج بينهم في الشدة والرخاء، حتى كونت منهم منذ أحقاب بعيدة عنصرا مسلما جزائريا، أمه الجزائر وأبوه الإسلام".

ويقول عن فرنسا ذاتها، متخذا الحجة من واقعها الحالي على أرضها وشعبها المكون من شتى الأصول السلالية والثقافية، وخاصة من أقطارنا المغاربية المسلمة العربية (الوطنية منها والحرْكية (بتسكين الراء)؛ "إن اختلاط الدماء في فرنسا والدول الأوروبية قائم، ولم يحل ذلك دون أن تكون فرنسا أمة واحدة لاتحادها فيما تتكون به الأمم، بينما نجد على جبال فرنسا وفي قراها من لا يحسن اللغة الفرنسية، ولكن ذلك القليل ـ نظرا للأكثرية ـ لم يمنع من أن تكون فرنسا أمة واحدة، وهذه الحقيقة الموجودة في فرنسا، يتعامى الغلاة المتعصبون عنها، ويحاولون بوجود اللغة البربرية في بعض الجهات، وجودا محليا، وجهل عدد قليل بالعربية، أن يشككوا في انتماء الجزائر إلى الأمة العربية التي كونتها القرون وشيدتها الأجيال".

هذا هو مفهوم العروبة النوفمبرية المكتسبة بالانتساب الاختياري، وليس بالإكراه الاستحلالي والاستدماري، كما حاول المحتلون أن يفرضوه منذ قرون، وما يزالون يحاولون ويأملون في البقاء والعودة من النافذة الثقافية واللغوية، بعد أن أخرجوا من الباب العسكري والسياسي والوطني الترابي (الجغرافية والديمغرافية)، والانضمام الاسمي إلى الجامعة العربية كما أسلفنا!

إن هذه العروبة الإسلامية الاختيارية، هي التي أخرجت أبا لهب (القرشي) من الأمة المحمدية، وقربت بلالا الحبشي وصهيبا الرومي وسلمان الفارسي، وجعلتهم جميعا من الصحابة المقربين.

والعروبة الإسلامية، ما يزال بابها مفتوحا لكل مسلم على وجه الأرض، كما ورد في الحديث الشريف: "ليست العربية (أي العروبة بالمعنى الباديسي) بأحدكم من أب أو أم، وإنما هي باللسان؛ فمن تكلم العربية فهو عربي".

وإن تعلم أي فرد مسلم للعربية وإتقانها كأهلها أو أفضل منهم، هي مسألة في متناول كل إنسان سليم الحواس موفور الإرادة، ككل الأسلاف في شمال أفريقيا بعد الفتح الإسلامي، واستبدال العربية القرآنية بالبونيقية والرومانية.

وهذه العلاقة العضوية بين الإسلام والعربية، هي التي كونت الهوية الوطنية لشعوب كل البلاد المسلمة، الناطقة بالعربية في القارة الأفريقية والآسيوية الحالية.

وإن مطالب الشعب السينغالي المسلم للتبني الرسمي والوطني للغة العربية بدل الفرنسية، لأقوى دليل على ما نقول، وستصبح السينغال عضوا فاعلا في جامعة الدول العربية مستقبلا، إن تحررت من سيطرة اللوبي الفرنكو عبري الحالي.

ولذلك، يتعين علينا هنا رفع اللبس الذي يكتنف هذه المغالطة الكبرى التي يرددها بعض المتجنسين الجدد عندنا (عن أمية وجهالة أو عن خبث وتواطؤ وعمالة)، لتجريم بيان الشهداء المذكور آنفا، وادعاء رفع المظلومية عن مكون أو حقبة من تاريخ الذات الوطنية، المتمثلة في ما يسمونه بالبعد النوميدي (أو البربري) للهوية الوطنية الجزائرية، التي أهملها البيان (الباديسي النوفمبري) حسب زعمهم، وكأنهم اكتشفوا البارود بهذه الهوية الثلاثية التركيب أو الترتيب (عربية بربرية إسلامية)، الموجودة كحلقة من أطوار التاريخ الوطني في الاتجاه العمودي عبر الزمان، وتتمثل في كون الهوية الوطنية الجزائرية أو المغاربية والعربية عموما، هي بربرية عربية إسلامية، أو بابلية عربية إسلامية، أو سريانية عربية إسلامية، أو فرعونية عربية إسلامية، أو كنعانية عربية إسلامية. ولكنها في الاتجاه الأفقي في المكان الواحد، هي عربية إسلامية فقط، أو بربرية إسلامية فقط، أو فرنسية إسلامية فقط، مثلما كانت طوال 132 سنة تحت الاحتلال.

وإن أي طرح لهذه الهوية الثلاثية المركبة على هذا النحو المغالط والمريب، لا تكون نتيجته الحتمية إلا تمزيق الوطن الواحد والشعب الواحد، في إطار (الجزائر الجزائرية بغنيمة الحرب الفرنسية)، إلى أشتات لا حصر لها من الشعوب والهويات القومية والطائفية والعرقية والعنصرية، على أساس اختلاف اللهجات المحلية على المدى القريب والبعيد، مثل الدول الأوروبية الغربية السبعة الحالية.

علما أن هذا التحول اللساني التلقائي عندنا، تم بالاختيار الحر للأغلبية وليس بالإجبار على الإطلاق، كما قلنا، ولو كنا غير ذلك لما قدمنا الملايين من الشهداء لنظل عربا مسلمين، وقد كانت أمام شعوبنا الفرصة السانحة لأكثر من قرن من ظلام الاحتلال لنرتد عن الإسلام لو كنا مكرهين عليه وعلى لسانه، كما يروج المرتدون عندنا وما يزالون يرددون ذلك مع المرجفين على الضفتين!

ويتبين من روح البيان المفصل آنفا، أن الجزائر وإن انهزمت عسكريا بعد وقوعها تحت الاحتلال الفرنسي المديد الفريد، إلا أنها لم ترضخ يوما ولم تستسلم قط لإرادة المحتل في مسخ الهوية الوطنية (بالفرنسة والتنصير).

وطوال 132 سنة، لم تعرف المقاومة الشعبية تحت لواء الإسلام والعربية معنى الراحة، وقد سارت هذه المقاومة في خطين متوازيين (ثقافي هوياتي وسياسي جهادي) دون هوادة أو انقطاع، حتى الاستفتاء على تقرير المصير في 3 تموز/يوليو 1962، الذي تم بموجب نتائجه الساحقة والشفافة أمام أعين العالم كله بـ 97 % (بنعم) للاستقلال الوطني، في إطار السيادة الكاملة والمعاملة بالمثل مع الدولة الفرنسية على الورق الموقع أمام الأشهاد، باعتراف الجنرال دوغول ذاته عشية يوم الاستفتاء على تقرير المصير، لتبدأ مرحلة جديدة لاسترجاع الجزائر باليسرى الفرنسية والعمالة المحلية، بعد أن افتكها الشهداء باليمنى الوطنية القوية، كما يوحي تصريح رئيس وزراء فرنسا بذلك في خطاب خاص له بالمناسبة، ألقاه في المجلس الوطني الفرنسي يوم 20 آذار/مارس 1962، أي في اليوم التالي من دخول توقيف القتال حيز التنفيذ، قال فيه حرفيا: "وإذا توقف القتال الذي بدأناه منذ 132 سنة.. (أي سنة 1830)، فإننا سنواصله بطرق أخرى"!!؟؟

وهذا ما تم التخطيط له بالفعل ويجري تنفيذه بكل الوسائل منذ توقيف القتال ضد الاحتلال المباشر، لتبدأ مرحلة الاستحلال التي تحدث عنها رئيس الوزراء الفرنسي الأنف الذكر، وهي التي حولت فيها اللغة الفرنسية من "جريمة حرب" في جزائر الاحتلال، إلى "غنيمة حرب" تحت راية الاستقلال في الاستحلال.

(انظر مقالنا المفصل حول هذا الموضوع هنا في عربي 21 ليوم 10 تموز/يوليو 2023 ).

وتلكم هي المهمة النوعية الأصعب في نظرنا، التي يضطلع بها كل الرفقاء الوطنيين في جميع المستويات والجهات، القائمين بالمهمة المتواصلة ضد الاستحلال في الاستقلال.

الدكتور أحمد بن نعمان سنة 1953 وعمره 9 سنوات مع والده (الشهيد لاحقا) في حرب التحرير

ويشاء الحكيم العليم القدير الذي ربط الإسلام بلغة القرآن، وجمع الاثنين في العروبة الإسلامية كما أثبتنا، أن يجمع كاتب هذه السطور مع إخوان ابن باديس وتلامذته في عضوية المجلس الإسلامي الأعلى للدولة الجزائرية، وفي الجمعية الجزائرية للدفاع عن اللغة العربية في أرضها، بعد ستة عقود من الاختفاء الظاهر لبعض المظاهر المتعلقة بالاحتلال المباشر.

وتبقى أم الأولاد المقهورة من ضرتها الفرنسية (غير الشرعية)، لتؤسس لها جمعية أهلية تدافع عنها بدل تطبيق الدستور الوطني القائم والصارخ بمادته الثالثة (العربية هي اللغة الوطنية والرسمية)، منذ سنة 1963 في الجزائر المستقلة ذات السيادة في مواد الدستور شاهد الزور، تؤسس لها جمعية جزائرية أهلية للدفاع عنها ومجلس أعلى للغة العربية جوهر الهوية الوطنية، كما حاولنا أن نثبت بالدليل القاطع والبرهان الساطع لكل من يهمه أمر الوطن ووحدة الشعب والأمة، ضمن المبادئ النوفمبرية للجزائر المسلمة العربية، وليس (للجزائر الجزائرية) بغنيمة الحرب الفرنسية التي خطط لها الجنرال، كما قال، وترك تنفيذ الوصية للورثة من بعده في الاستحلال بعد توقيف القتال كما هو واقع الحال!؟!؟

وهذا ما يطبقه الغرماء السابقون واللاحقون المتربصون هنا وهناك بالوطن، كما كانوا وما يزالون متعهدين ومراهنين على "مسمار" الجنرال الذي دقه بإتقان وغرسه بإمعان في "السوسة المدسوسة"، لتحقيق ما فشل هو وأجداده في تحقيقه بالحديد والنار. وإلى الآن، ما يزال يحاول بالطرق الأخرى التي ذكرها رئيس وزرائه في خطابه الآنف الذكر، بعد يوم واحد من توقيف إطلاق النار.

والدليل على ذلك، أن الجنرال نفسه طلب ترجمة فورية لخطابه من الفرنسية إلى العربية (وليس إلى أية لهجة محلية)، عندما خاطب الجماهير الشعبية في أثناء زيارته الرسمية الأخيرة لمدينة تيزي وزو سنة 1961 في أثناء لهيب معركة التحرير، التي فرضت عليه الإذعان لإرادة الشعب الموحد في تقرير المصير الأخير، اعترافا منه بأن العربية هي لغة الشعب الجزائري الوحيدة، الجامعة لمعظم أفراده (الأميين والمتعلمين) على حد سواء، وعلى امتداد كل تاريخ الدول الوطنية المتعاقبة على الجزائر المسلمة العربية من الفتح الإسلامي إلى غزو جيوشه الفرنسية سنة 1830 كما أسلفنا.

ولولا ثوابت تلك الهوية الوطنية المتميزة (لسانا ودينا ووجدانا) كما حددها بيان الشهداء المذكور أعلاه، وطبقها الشعب الموحد المحتضن لثورة الجهاد، وظل وقودا لها طوال اشتعالها (مثل أهل فلسطين الأشداء المرابطين على أرضها الآن)، ما كانت لتقوم أصلا، فضلا عن أن تنجح، لو كان عندنا يومها شعبان مختلفان في تصور وتعدد وتناقض ثوابت الهوية الوطنية (العمودية والأفقية)، كما فصلناها آنفا، لرفع اللبس وتوضيح الأمور، وفضح كل تلاعب بالكلمات بين السطور.

وهنا تكمن القضية الجوهرية في وحدة الهوية والوحدة الوطنية التي أخرجت الاحتلال من الباب، وفي نفسه الشيء الكثير من الحقد عليها، ليراوغها ويتجاوزها بما تركه في إدارتها، كما عبر عن ذلك الشيخ العلامة محمد البشير الإبراهيمي (ابن باديس الثاني)، في خطبته التاريخية عند استرجاع مسجد كشاورة المذكور آنفا إلى وظيفته التي وجد من أجلها، وحافظت عليها الأجيال المتعاقبة التي لم يتغير الله في قلوبها نصا وروحا حتى الآن، كما يتمثل ذلك في تدشين جامع الجزائر الأعظم، الذي يعدّ أكبر ثالث معلم إسلامي بعد الحرمين الشريفين فوق الكرة الأرضية، والذي شيد في مكان الكنيسة التي كان قد شيدها أحد غلاة الفرنسية والتنصير للجزائر (الفرنسية)، قبل حرب التحرير وتقرير المصير الأخير.

وهذه هي مهمة الدولة الوطنية والشعب وجمعية العلماء المسلمين وكل الرجال المخلصين الراحلين والقائمين على النهج القويم، أوفياء للوطن والدين غير مبدلين ولا مغيرين، إلى أن يقف الجميع أمام الديان يوم الحساب والعقاب مع الأولين والآخرين، والعاقبة للمتقين الثابتين على العهد والنهج القويم.

اقرأ أيضا: ابن باديس وغريمه الجنرال..كلاهما حاضر في جزائر الاستقلال و"الاستحلال" (1من2)

التعليقات (0)